"بطليموس العرب" و"أرنب الجاد" الصيني
الأربعاء, 18-ديسمبر-2013
فيصل جلول -
دخلت الصين لتوها نادي القمر الذي كان يضم عضوين فقط، هما روسيا السوفييتية والولايات المتحدة الأمريكية الليبرالية، لتصبح بكين الشيوعية هي العضو الثالث في هذا النادي الذي بات وسيلة قياس على بلوغ الحد الأعلى من التطور التكنولوجي والحد الأعلى من النفوذ الدولي .
أن يستقر العلم الأحمر الصيني الشيوعي على سطح القمر مثله مثل العلمين السوفييتي والأمريكي، فهذا دليل على أن الإبداع لا يرتبط ارتباطاً عضوياً بالليبرالية كما تصم أذاننا أساليب الدعاية الغربية ليلاً نهاراً، ولو كان الإبداع شرطه ليبرالياً لغاب عن العالم القسم الأكبر من الاختراعات في القرون الوسطى وما قبلها ولغاب عن العالم القسم الأهم من الاكتشافات العلمية ومنها حركة الكواكب وإيقاعها .
بالأمس ومع "ارنب الجاد" الذي أطلقه الصينيون على سطح القمر لم يشر أحد إلى "ماساة ساحة تيان ان مين" ولم يذكر أحد اسم أي من سجناء الرأي الصينيين ولم يتحدث احد عن شروط عمل ملايين العمال القاسية، إلى غير ذلك من مواضيع الدعاية الليبرالية المكرسة لمحاصرة التقدم الصيني أخلاقياً . بالأمس ساد الذهول أمام تمكن الصين من السير على خطى الروس والأمريكيين القمرية .
بالأمس ساد الذهول أمام قدرة الصينيين على تحقيق إنجاز قمري في زمن قياسي، ولعل الدرس الأول والأخير من هذه التجربة هو أن التقدم يأتي أولاً وأخيراً من تماسك البلدان الداخلي ومن قدرة الدول على تغليب أولويات الوطن على الأولويات الشخصية وعلى قدرة الأمم على منع التدخل الخارجي في شؤونها، فلا هي معتدية على الغير ولا هي ضعيفة بحيث تغري الغير بالتدخل في شؤونها . لقد لجم الصينيون بقوة كل حديث عن شؤونهم الداخلية في وسائل الإعلام الغربية حتى صارت "تيان ان مين" صدى لماض غابر .
لا يمكن لعربي في هذه المناسبة إلا أن يشعر بالإحباط ليس حسداً وليس غيرة، وإنما لكونه ينتمي إلى حضارة كانت السباقة في وضع أسس العلوم الابتدائية حول القمر إلى حد أن أسماء 18 عالماً عربياً تطلق اليوم على مواقع في القمر الذي صار مرآة لتقدم الأمم ولنهضتها ولعراقتها ومساهماتها في تقدم البشرية . ولا يمكن لعربي إلا أن يشعر بالغضب في هذه المناسبة لأن الأمم الأخرى الناهضة مشت على طريق شقه العرب ثم أهملوا السير عليه بسبب احترابهم وسقوطهم في الفتنة تلو الفتنة وخضوعهم لأنظمة جاهلة تنصب الأفخاخ لبعضها بعضاً والانتقام من بعضها بعضاً .
وحتى لا يبدو هذا الكلام ضرباً من الحنين الأخرق إلى ماض بلا حاضر، وقدراً من التعميم والمبالغة التي لا تغني مرتبة ولا تعلي شأناً، أشير فقط إلى بعض العلماء العرب الطليعيين في علوم الفلك ومن بينهم صانع الاسطرلاب الحديث بالقياس إلى من سبقه من الإغريق إبراهيم الفزاري والبيروني وأبو الفدا وثابت بن قرة والخوارزمي وأبو عبدالله البتاني وآخرين .
ولكن أتوقف عند البتاني المولود في القرن التاسع الميلادي الذي أثبت بملاحظاته الذكية وبوسائل رصده المحدودة ان الكواكب تدور حول الشمس في مسار بيضاوي وليس في مسار التوائي كما استنتج بطليموس من قبل .
وقد رصد البتاني الكسوف والخسوف وصار مرجعاً حتى بعد مرور سبعة قرون على ملاحظاته في كل علوم القمر، بل ثمة من يعتقد أن ملاحظاته فاقت بأهميتها وبدقتها ملاحظات كوبرنيكوس الذي اعترف بفضله وذكره بكثافة في أعماله واكتشافاته، تنسب إلى البتاني أيام السنة الشمسية وتحديدها ب365 يوماً .
علماً بأن أعماله ترجمت في فترة مبكرة في القرن الثاني عشر إلى اللغة اللاتينية، وفي القرن السادس عشر إلى اللغة الإسبانية بعد سقوط الأندلس .
ولأنه طليعي في علوم الفلك والقمر ومرجع لا يمكن المرور على أعماله التأسيسية مرور الكرام، فإننا نرى اسمه في مسلسلات الفضاء الأمريكية الشهيرة كمسلسل "ستارتريك" المعروف وقد أطلق على إحدى المركبات الفضائية، والمذهل في الأمر أن المشاهدين العرب لم ينتبهوا إلى هذا الاسم وظنوه أجنبياً جراء افتتانهم بالأجنبي وبأسمائه . واليوم من يعرف اسم البتاني من الأجيال العربية الجديدة؟
أما قمة المأساة فتكمن في ما جرى للمحيط الذي ولد فيه البتاني وعمل فيه ومات . فهو حراني المولد في العراق اليوم وقد مات بالقرب من سامراء أثناء رحلة أرادها للشكوى من الظلم لدى الخليفة العباسي، أما عمله فقد تركز في مدينة الرقة السورية وعلى ضفة نهر الفرات وفيها نصب مراصده وصاغ أبحاثه وملاحظاته .
لو عاد محمد بن جابر بن سنان البتاني الحراني اليوم إلى أمكنة ولادته ويومياته ووفاته وإلى العصر الذي يعيش فيه أهله العرب اليوم وإلى التطور الذي حققه غير العرب استناداً وانطلاقاً من علومهم لا نفطر قلبه ولتمنى لو إنه ما عاد وما رأى .
ومشكلتنا نحن عرب اليوم تكمن في أننا نرى ما يقع لنا ومازلنا نبحث من دون جدوى عن إجابة عن سؤال: لماذا تقدم غيرنا ولماذا تخلفنا؟ وما زلنا ندّور الزوايا ونغلف عجزنا وقصورنا بمبررات وحجج ضعيفة وغير مفيدة، ومازلنا نحمل غيرنا مسؤولية مصيرنا، تماماً كما يفعل المراهقون والقاصرون، كأننا لم نبلغ بعد سن الرشد مع أننا شخنا وشبعنا تقدماً في السن .
أطلق الغربيون على البتاني اسم "بطليموس العرب" تيمناً ببطليموس اليوناني للقول إن الأصل عندهم وإن البتاني تلميذ مجتهد عند عالم إغريقي جليل . ثمة من يفتخر بهذا الوصف ويعتبره نقطة مضيئة في عالم عربي مظلم، وعندما يكون الظلام قاتماً إلى هذا الحد فلا بأس من الاستئناس بشمعة، لذا أقول شكراً لأبي عبدالله البتاني فقد نزل اليوم على قمرك "ارنب الجاد" الصيني بعد أن مشى أصحابه على طريق فتحتها قبل 11 قرناً
*. نقلاً عن صحيفة الخليج العربية .
|