صانع التحولات
مقاربات في تجربة ثلاثين عاماً من الحكم
(17 يوليو 1978 – 17 يوليو 2008)
تأليف:
مجموعة من الكُتّاب
تقديم :
أ/ محمد حسين العيدروس
تحرير:
محمد سيف حيدر -سقاف عمر السقاف-عبود الصوفي
المحتويات
تقديم بقلم الأستاذ محمد حسين العيدروس
مقدمة: صانع التحولات
المحور الأول: صالح رئيساً ورجل دولة: تحولات 30 عاماً من الحكم • الرئيس علي عبدالله صالح .. سطور قليلة عن الرجل والمسيرة
• رجل على طريق الرئاسة: أسرار يوم 17 يوليو 1978
• الرئيس صالح ومغامرة السلطة: تحديات العام الأول
• علي عبد الله صالح.. والبناء المؤسسي للدولة
• الرئيس علي عبدالله صالح ودوره الريادي في تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها
المحور الثاني: علي عبدالله صالح: منهجية فريدة في الحكم
• خواطر في التسامح السياسي: عهد الرئيس علي عبدالله صالح نموذجاً
• علي عبدالله صالح..30 عاماً من التسامح
• العفو والتسامح في نهج الرئيس علي عبد الله صالح
• ثقافة الحوار في فكر الرئيس صالح
• من غيره.. إنه علي عبدالله صالح
• علي عبدالله صالح.. اسم بمساحة وطن
• نهج الرئيس علي عبدالله صالح في مواجهة الأزمات
• منهج الفكر السياسي عند الرئيس علي عبدالله صالح
المحور الأول:
صالح رئيساً ورجل دولة: تحولات 30 عاماً من الحكم
الرئيس علي عبدالله صالح .. سطور قليلة عن الرجل والمسيرة - من مواليد 21 مارس 1942م في قرية بيت الأحمر (مديرية سنحان) محافظة صنعاء.
- متزوج وله عدة أبناء أكبرهم (احمد)
-تلقى دراسته الأولية في (كُتاب قريته)
ـ التحق بالقوات المسلحة عام 1958م، وواصل دراسته وتنمية معلوماته العامة وهو في سلك الجندية.
ـ التحق بمدرسة صف ضباط القوات المسلحة عام 1960م
ـ في الأشهر الأولى للثورة وتقديراً لجهوده - ولما أظهره من بسالة في الدفاع عن الثورة والجمهورية في مختلف المناطق - رُقي إلى رتبة (مساعد)
ـ شارك في معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية في أكثر من منطقة من مناطق اليمن
ـ في عام 1963 م رُقي إلى رتبة (ملازم ثان)
ـ في نهاية العام نفسه أصيب بجراح أثناء إحدى معارك الدفاع عن الثورة في المنطقة الشرقية لمدينة صنعاء
ـ في عام 1964 م التحق بمدرسة المدرعات لأخذ فرقة تخصص (دروع)
ـ بعد تخرجه عاد من جديد للمشاركة في معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية في أكثر من منطقة من مناطق اليمن، وتعرض لشظايا النيران، وأصيب بجراح أكثر من مرة وأبدى في المعارك التي خاضها شجاعة نادرة، ومهارة في القيادة ووعياً وإدراكاً للقضايا الوطنية.
- كان من أبطال حرب السبعين يوما أثناء تعرض العاصمة صنعاء للحصار
• شغل مناصب قيادية عسكرية منها:
- قائد فصيلة دروع
- قائد سرية دروع
- أركان حرب كتيبة دروع
- مدير تسليح المدرعات
- قائد كتيبة مدرعات وقائد قطاع المندب
- قائدا للواء تعز، وقائد معسكر خالد ابن الوليد (1975-1978م)
ـ مثل البلاد منفردا ومشتركاً مع غيره في العديد من المحادثات والزيارات الرسمية لكثير من البلدان الشقيقة والصديقة.
ـ شغل منصب عضو مجلس رئاسة الجمهورية المؤقت ونائب القائد العام ورئيس هيئة الأركان العامة عقب اغتيال الرئيس أحمد الغشمي في 24 يونيو 1978م
ـ أنتخب يوم 17 يوليو 1978 م رئيسا للجمهورية وقائدا عاماً للقوات المسلحة من قبل مجلس الشعب التأسيسي
ـ في 17 سبتمبر 1979م رقي إلى رتبة (عقيد) بناءً على إجماع تام من كافة قيادات وأفراد القوات المسلحة، عرفانا ووفاء لما بذله من جهود عظيمة في بناء وتطوير القوات المسلحة والأمن على أسس حديثة.
ـ منح من قبل مجلس الشعب التأسيسي وسام الجمهورية تقديرا لجهوده وتفانيه في خدمة الوطن في 22 سبتمبر 1979م
ـ انتخب أمينا عاما للمؤتمر الشعبي العام في 30 أغسطس 1982م
ـ أعيد انتخابه في 23 مايو 1983 م رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة من قبل مجلس الشعب التأسيسي.
ـ أعيد انتخابه في 17 يوليو 1988م رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة من قبل مجلس الشورى المنتخب.
ـ منح درجة الماجستير الفخرية في العلوم العسكرية في عام 1989م من قبل كلية القيادة والأركان.
ـ في 21 مايو 1990م أجمع مجلس الشورى على إعطائه رتبة (فريق) عرفانا ووفاء لما بذله من جهود عظيمة لتوحيد الوطن وقيام الجمهورية اليمنية.
ـ في 22 مايو 1990م قام برفع علم الجمهورية اليمنية بمدينة عدن وإعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية وإنهاء التشطير والى الأبد، وفي نفس اليوم اختير رئيسا لمجلس الرئاسة للجمهورية اليمنية.
ـ أنتخب رئيسا لمجلس الرئاسة مجدداً، بتاريخ 16 أكتوبر 1993م، بعد اول انتخابات نيابية.
ـ تصدى لكل محاولات تمزيق الوطن ومؤامرة الانفصال، وقاد معارك الدفاع عن الوحدة وحماية الديمقراطية والشرعية الدستورية أثناء إعلان الانفصال وفترة الحرب التي أشعلها الانفصاليون في صيف 1994م حتى تحقق النصر العظيم للوحدة اليمنية ولإرادة الشعب اليمني في يوم السابع من يوليو 1994م.
ـ أنتخب رئيسا للجمهورية من قبل مجلس النواب، وذلك بتاريخ 1 أكتوبر 1994م، بعد إجراء التعديلات الدستورية التي أقرها المجلس بتاريخ 28 سبتمبر 1994م.
ـ في 24 ديسمبر 1997م أقر مجلس النواب منحه رتبة مشير تقديرا لدوره الوطني والتاريخي في بناء اليمن الجديد.
- في 23 سبتمبر عام 1999م تم انتخابه رئيسا للجمهورية في أول انتخابات رئاسية تجرى في اليمن عبر الاقتراع الحر والمباشر من قبل الشعب.
في 20 سبتمبر 2006م، تم انتخابه رئيسا للجمهورية في ثاني انتخابات رئاسية عبر الاقتراع الحر والمباشر وحصل على 4 ملايين و149 الف و673 وبنسبة 77.17 %.
- كرس كل جهوده من أجل تحقيق نهضةً تنموية شاملة في اليمن، ومن أبرز المنجزات التنموية الإستراتيجية التي تحققت في ظل قيادته، إعادة بناء سد مأرب العظيم، استخراج النفط والغاز، تحقيق تنمية زراعية كبيرة، إقامة المنطقة الحرة بعدن.
- مؤسس الدولة اليمنية الحديثة المرتكزة على الديمقراطية وتعددية الاحزاب، وحرية الصحافة والرأي، والرأي الآخر، واحترام حقوق الإنسان، ومبدأ التداول السلمي للسلطة.
- قاد الرئيس بحكمة سياسية فائقة الدبلوماسية اليمنية بما يخدم المصالح العليا لشعبنا اليمني وامتنا العربية والإسلامية والتي أثمرت عن تعزيز دور ومكانة بلادنا على الصعيدين الإقليمي والدولي وتوطيد علاقات بلادنا الخارجية والتعاون الثنائي مع البلدان الشقيقة والصديقة.
- تعتبر معاهدات الحدود الموقعة مع كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان واريتريا وانضمام بلادنا إلى بعض مؤسسات مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى المواقف القومية الثابتة من دعم القضايا العربية العادلة وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ودعم العمل العربي المشترك، تعتبر محطات بارزة في انجازات السياسة الخارجية اليمنية التي قادها باقتدار فخامة الرئيس علي عبد الله صالح.
- حاصل على العديد من الأوسمة الرفيعة داخليا وخارجيا ومنها:
- وسام الجمهورية من قبل مجـلس الشـعب التأسيسي تقديرا لجـهوده وتفانيه في خدمة الوطـن في 22 سبتمبر1979 م.
- قلادة الاستقلال أعلى وسام في دولة قطر اعتزازا بعلاقات الإخاء المتميزة بين البلدين الشقيقين وتقديرا للمواقف القومية المشرفة له والمساندة للحق العربي وخدمة قضايا الامة العربية، 5/8/2000.
- وسام، خوسيه مارتيه، وهو اعلى وسام فى جمهورية كوبا، في 13/9/2000.
- قلادة الملك عبدالعزيز من الطبقة الأولى وهي أعلى وسام في المملكة العربية السعودية، في 21/5/2001
- منح الدكتوراه الفخرية من جامعة الجزيرة بجمهورية السودان تقديراً لدوره المتميز في خدمة قضايا الأمة العربية، في 29 يونيو2002.
- قلادة الشرف وهو أعلى وسام في جمهورية السودان تقديرا للمكانة التي يحظى بها فخامة الرئيس وتقديرا لدوره في توثيق عرى المودة والإخاء بين الشعبين في البلدين الشقيقين في 30 يونيو 2002م.
- وسام الاستحقاق من الرتبة الاستثنائية ارفع وسام في الجمهورية اللبنانية تقديراً للدور القيادي البارز الذي قام به في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية المجيدة ونهضة الجمهورية اليمنية وتنميتها من خلال الإنجازات التي حققها، ووفاء من الجمهورية اللبنانية للدور المميز الذي قام به لتعزيز العلاقات اللبنانية اليمنية وتطويرها في المجالات كافة لما فيه خير البلدين والشعبين الشقيقين، واعترافا بالجهود الدءوبة التي بذلها في سبيل تأكيد التضامن العربي ورأب الصدع بهدف دعم القضايا العربية العادلة، في 28 سبتمبر 2002.
- منح درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة في 10 أكتوبر 2002م من جامعة تشوسن بكوريا الجنوبية.
- وسام "الفارس الأعظم" لفرنسيس الأول من الدرجة الأولى وهو أعلى وسام للمقام البابوي، تكريماً وتقديراً لدوره في تحقيق الوحدة اليمنية وخدمة السلام على المستويين الإقليمي والعالمي ونشر قيم التسامح والتعايش والحوار بين الأديان والحضارات وإشاعة روح المحبة والتسامح لما فيه خير ورخاء الإنسانية، 24/3/2004.
- الميدالية المئوية للفيفا (الاتحاد الدولي لكرة القدم) تقديراً لدوره في رعاية الحركة الرياضية والنهوض بها في اليمن، 24/3/2004
- وسام منتدى الأديان الثلاثة في بريطانيا تقديرا للدور الذي يقوم به فخامة الرئيس من اجل تعزيز حوار الحضارات وتكريس ثقافة التسامح والاعتدال والتعايش الإنساني بتاريخ 26/ 8/ 2004م.
- وسام حوار الحضارات من قبل مركز مجد روسيا القومي تقديرا لدوره في تبني الحوار بين الحضارات ولتطوير علاقات الصداقة بين روسيا واليمن بتاريخ 21/ 11 / 2004م.
- وسام كوريا العظيم وهو ارفع وسام كوري يمنح لزعماء الدول في سبيل تطوير علاقات الصداقة بين البلدين الصديقين ويطلق على الوسام اسم ( ما قونقي ) وتعني وردة تمثل الزهرة الوطنية في كوريا في 25/4/2005م.
- وسام الاستحقاق الوطني "الوشاح الكبير"، وهو أعلى وسام في الجمهورية الإسلامية الموريتانية، 28/5/2005.
- وسام زايد بن سلطان، وهو أعلى وسام في دولة الإمارات العربية المتحدة، تعبيرا عما يربط البلدين من علاقات إخاء متينة، وتقديرا لمواقفه، القومية المساندة لقضايا الحق العربي، في 30/01/2007.
- وسام استحقاق مجلس الشباب العالمي، وهو وسام الشرف الأعلى الذي يمنح لقادة العالم الذين يساهمون في التنمية الشبابية والسلام في العالم، في 03/03/2007
- منح وشاح الاتحاد العربي للرياضة العسكرية اعترافا وتقديرا لدوره المتميز كقائد عربي وبما قدمه من اجل خدمة الرياضة العربية العسكرية، 21/6/2008.
- منح وسام (إكبار الشعب)، من نادي أصدقاء موسكو، وهو من الأوسمة الروسية الرفيعة تقديراً وتكريماً لما يقوم به من جهود عظيمة في النشاط السياسي الوطني والإقليمي والدولي والجهود الإنسانية وخدمة السلام العالمي، 6/7/2008.
رجل على طريق الرئاسة:
أسرار يوم 17 يوليو 1978
نزار خضير العبادي لم يكن إدراك حقيقة ما يجري على الساحة اليمنية مفهوماً بدقة طوال السبعينيات، ولا حتى معقولاً عند الكثير من الذين لم يصدقوا هذه الفوضى السياسية، والانتكاسة التاريخية التي آلت إليها الثورة اليمنية، بعد أن زجتها التطورات السريعة – والمفاجئة في بعض فصولها – إلى نفق مبهم النهايات يطلق أبواب السلطة في صنعاء لعواصف التغيير السياسي المباغت للرؤساء بإقصائهم على دكة المقاصل الدموية الوحشية التي تلتهم بصمات الجناة في الحال، وتسدل أفقاً غامضاً يظلل كل الرموز والقوى الوطنية حينها بالشبهات، لتقف في أقفاص الاتهام أمام أبناء الشعب اليمني وتبدد استقرار الوطن بأكمله.
لعل الانجرار إلى ذلك الموضع اصبح السمة السياسية المميزة لتفاعلات وإفرازات المرحلة التي أعقبت اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي في 8/أكتوبر/1977م، والتي أدت إلى انقسام الرأي بشأن الجهة التي أودت بمصيره إلى تلك النهاية المأساوية مع أخيه "عبد الله"، وبالتالي توجيه أصابع الاتهام إلى عدة أطراف منها الجناح اليساري في الشطر الجنوبي الذي يتزعمه عبد الفتاح إسماعيل، والتيار القبلي الذي جرده الحمدي من النفوذ السلطوي، وطبقة البرجوازيين التي اصطدمت مصالحها بالبرامج الإصلاحية، وجماعة الإخوان المسلمين التي حوصرت أنشطتها، وطوردت زعاماتها حتى أقصى شمال اليمن، وأخيراً المملكة العربية السعودية التي أرعبها التقارب الوحدوي وخشت على نفسها من عبور المد الماركسي حدودها بعد ابتلاع الشطر الشمالي لليمن. وهو أمر لم يكن يقلق دول الجزيرة العربية والخليج وحدهم، بل أنه يقض مضاجع الولايات المتحدة أيضاً التي كانت ستعمل ا لمستحيل للحيلولة دون وصول السوفيت إلى مصالحها النفطية بالمنطقة.
وعلى هذا الأساس نجد أن المسألة تتعدى كونها مجرد التباس أمني في تحديد الجاني وكشف هويته إلى ما هو أبعد من ذلك. فهي تميط اللثام عن حجم الهوة التي كانت تفصل بين السلطة والقوى الوطنية الأخرى التي استحالت ان تكون بين يوم وليلة خارج اللعبة السياسية للرئيس الحمدي. ولا شك إن وضعاً كهذا سيصبح بمثابة الرهان الأوفر حظاً الذي يقامر عليه خصوم صنعاء ويحرصون كل الحرص على دعم حالته المشتتة، وبالتالي الاحتفاظ بقدر مناسب من الاختراق السياسي والاقتصادي الذي يتيح مجالاً رحباً للحركة المضادة للتأثير على الصياغات المستقبلية للقرار السياسي للسلطة في صنعاء. هذا اللون من الانحدار بمركز الحكم وانقلاب الوضع الأمني إلى الدرجة التي قهرت إرادة الدولة في تحديد هوية الجهة المسئولة عن اغتيال الرئيس، وفك طلاسم اللغز لم يؤمن للرئيس الجديد أحمد الغشمي فرصاً أكبر من سلفه للنفاذ بجلده إلى خاتمة أفضل أو مصير أقل مأساوية، بل إن أيدي الخصوم هذه المرة طالت حتى وصلت إلى داخل أروقة القصر الرئاسي لتقتل الرئيس في مكتبه الرسمي يوم 24/يونيو/1978م، فارضة تحديها الجديد على جميع القوى السياسية في ساحة الشطر الشمالي بعد أقل من عام من اغتيال الرئيس الحمدي. ربما لم يكن ليخطر على بال أحدٍ من رجالات الثورة السبتمبرية أن يعيش عمر الثورة ليشهد لحظات انتكاستها التاريخية القاهرة، وزمن احتضارها على أعتاب دور الرئاسة المضرجة بدماء الزعماء المنحورين غيلة وغدراً، لترث عنهم الملايين الكادحة من اليمنيين وطناً دامياً، مثقلاً بالهموم، ومثخناً بكبوات السلطة وأعبائها التي راكمت فصول عنفها التاريخي، وصراعها المستديم على ظهره وارتحلت دون سابق إشعار. لا شك أن يوم الرابع والعشرين من شهر يونيو عام 1978م ما زال ملتصقاً في ذاكرة كل من شهده من اليمنيين، وتسمّرت أقدامه في الأرض لهول ما حدث.. فالرئيس الذي كان يجلس في مكتبه بالقيادة العامة للقوات المسلحة كمن يجلس على جمر بانتظار وصول مبعوث الرئيس سالم ربيع علي الذي كان سيحمل له رسالة مستعجلة، وكان بين الفينة والأخرى يستخبر مساعديه عن وصول المبعوث.. ربما لم يكن يعلم إنه كان على موعد مع قدره المجهول ومصيره المحتوم الذي حمله إليه مبعوث "سالمين" داخل حقيبة صغيرة صممتها أدهى أجهزة المخابرات العالمية آنذاك خصيصاً له لتنفجر بين أحضانه وتقضي على حياته. ومع اغتيال الرئيس أحمد الغشمي بحقيبة ملغومة تكون السلطة في صنعاء قد هبطت إلى درك سحيق، ووقف مصير جميع القوى الوطنية والجماهير في الجمهورية العربية اليمنية على جرفٍ هارٍ، وخيَّم القلق والارتياب على الأجواء السياسية عامة في صنعاء، وساور البعض إحساس بأن الجمهورية العربية اليمنية لن تحيي ذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر بعد الآن، وأن الشعب اليمني سيودعها بكل أفكارها وأهدافها إلى مثواها الأخير في غضون أيام قلائل بعد أن تمكنت الجيوب الماركسية من التحكم بمقادير الأمور ودس أياديها داخل المراكز العليا للقيادة واغتيال الرئيس بكل سهولة، وترك أبواب السلطة مشرعة للجميع. أسفر اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي المباغت عن تحول السلطة دستورياً إلى يد القاضي عبد الكريم العرشي رئيس مجلس الشعب التأسيسي الذي أُعتبر بمثابة المرجع الرسمي الوحيد الذي يمتلك حق التصرف بالأمور في تلك الظروف. حيث أن مجلس الشعب التأسيسي كان قد قدم تشكيلة بتاريخ 6/فبراير 1978م بموجب الإعلان الدستوري الصادر عن مجلس القيادة بقصد إعادة الحياة البرلمانية والقيام بدور المجلس النيابي الاستشاري الخاضع في نشاطه لإشراف مجلس القيادة، وعلى أن يتألف من (99) عضواً يتم تعيينهم بقرار من رئيس الدولة، وفقاً لما نصت عليه المادة الأولى من ذلك الإعلان الدستوري. وفي 25 فبراير بدأت أعمال الدورة الأولى للمجلس بانعقاد الجلسة الافتتاحية، وتم أجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس والتي فاز من خلالها القاضي عبد الكريم العرشي برئاسة المجلس.. وقد أنيطت بمجلس الشعب التأسيسي المهام التالية:
- تحديد شكل رئاسة الدولة والبت في ذلك واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذه.
- القيام بتنقيح أحكام الدستور بما يحقق أهداف الشعب ورفع ذلك الى رئاسة الدولة.
- القيام باختصاصات لجنة الانتخابات والهيئة العلمية لتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية.
- مناقشة مشاريع القوانين وإقرارها ورفعها للتصديق عليها وإصدارها.
- مناقشة بيان الحكومة بخصوص الميزانية العامة للدولة وإقرارها.
- دراسة ما يحيله إليه رئيس الدولة من القضايا أو الموضوعات التي تتعلق بالأوضاع الداخلية والخارجية.
وبرز هذا الدور الهام لمجلس الشعب التأسيسي في إشغال الفراغ وتهيئة مناخات انتقال السلطة ليد الرئيس الجديد بعد أن نجح رئيس المجلس في إدارة السلطة بشكل طارئ واحتواء ظروف الأزمة التي تعرضت لها البلاد إثر اغتيال الرئيس الغشمي – ولو مؤقتاً – خصوصاً وأن الوضع السياسي العام لم يكن مؤهلاً لتقبل أغلب الرموز السياسية لتولي زمام الحكم خوفاً من اقتفاء أًثر الزعيمين المغدورين في الشطر الشمالي وزعيم ثالث في الشطر الجنوبي لقي حتفه بعد الغشمي بيومين فقط والجميع تم تصفيتهم في غضون أقل من عام.. علاوة على تبرير منطق عدم القبول بتشتت قوى الساحة الداخلية، وتعدد ولاءاتها السياسية، واتساع الاستقطابات بين صفوفها، وهبوط سمعة الدولة إلى الحضيض. نجدة صنعاء وتشكيل المجلس الرئاسي المؤقت وبالعودة إلى ساعة الحدث الرئيسي فإنه في الوقت الذي جرت فيه عملية اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي كان رئيس هيئة الأركان العامة المقدم علي الشيبه يحلق بطائرة مروحية متجهاً إلى مدينة تعز في مهمة رسمية لتقليد مجموعة من الضباط والمراتب بالأوسمة، وبينما كانت طائرته على وشك الهبوط في تعز تلقى اتصالاً لاسلكياً على مقصورة الطيار من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة طالبين منه العودة فوراً إلى صنعاء لأمرٍ طارئ جداً. ولما كان قائد منطقة تعز الرائد علي عبدالله صالح في الانتظار، اتصل به المقدم علي الشيبه ليطلعه على إن هناك خطب طارئ قد ألم بالعاصمة يستوجب إلغاء مراسيم تقليد الأوسمة والعودة إلى صنعاء في الحال، وكان صالح على علم بوقوع انفجار بمقر القيادة إلا أن أحداً لم يطلعه على مصير الرئيس.
ويبدو أن القلق قد تمكن من قلب الرائد علي عبدالله صالح وكأنه كان مرتاباً من الوضع السياسي العام في اليمن وغير مطمئناً إلى مستقبل المسارات التي كان ينتهجها الرئيس الغشمي، أو أنه كان متوجساً خيفة من استشراء النفوذ الجنوبي وتوغله المريب بين صفوف المجتمع اليمني، وهو الأمر الذي دفعه إلى الإلحاح على رئيس هيئة الأركان العامة بضرورة الهبوط في تعز ليتسنى له مرافقته إلى صنعاء والوقوف على ما يدور هناك عن كثب.
وبالفعل تمكن من إقناع الشيبة بمبررات اصطحابه معه بعد أن كاشفه بما يدور في خلده من هواجس وظنون، وإمكانية حدوث إنقلاب أو أمر من هذا القبيل قد يجنح بالبلاد والعباد نحو مصير مجهول، وهكذا توجه علي عبدالله صالح وبعض مرافقيه بصحبة الشيبة نحو العاصمة، وما أن هبطت الطائرة في صنعاء كان الرائد علي عبدالله صالح يعد نفسه ورفقته بحذر، ويأخذ احتياطاته لاحتمالية أن تكون الطائرة قد حوصرت من قبل قوات انقلابية تمكنت من الإمساك بزمام الأمور في صنعاء. لكنه ما لبث أن اكتشف أن لا شيء مما كان يدور في خلده قد حدث، وبدت له الأمور طبيعية في المطار، فقرر أن ينسل خلسة من بين رفاقه ويتوجه إلى أحد المعسكرات القريبة من المطار دون أن يخبر حتى مرافقيه من الحراسات الخاصة، وهو حتى هذه اللحظة لم يكن قد وصله نبأ اغتيال الرئيس.
وعندما وصل إلى هناك كانت المفاجأة بانتظاره. إذ اكتشف أن هناك ما بين (30-40) مدرعة كانت تتحرك متوجهة صوب مدينة صنعاء. وكان الرائد علي عبدالله صالح على معرفة بالضابط المسئول على تلك الدروع فاستعلم منه الغرض فأجابه الضابط بأن أخا الرئيس كان قد أصدر الأوامر له بالتحرك نحو صنعاء والشروع بإطلاق النار هناك. فعاود الرائد صالح للاستفسار منه عمن كانوا يريدون إطلاق النار عليهم.. لكن الضابط لم يجد ما يجيب به عليه، فهو لم يكن يعرف أي شيء عن الهدف. وكان تحريكه للدروع باتجاه صنعاء مجرد تنفيذ للأوامر الصادرة إليه من قيادته العليا. وبحكم العلاقة الجيدة التي كانت بين الرائد علي عبدالله صالح وفيلق الدروع تبنى الرائد صالح على عاتقه مسئولية اتخاذ قراره الأول في هذه الفترة بإيقاف حركة الدروع ومنعها من دخول صنعاء.. وخلال ذلك بلغه العلم من أحد الضباط بأن هناك اجتماعاً رسمياً يعقد في القيادة العامة للقوات المسلحة. فبادر بالاتصال بالمسئولين المجتمعين الذين وجهوا له الدعوة لحضور الاجتماع في الحال. تجلت الصورة الكاملة للموقف العصيب الذي وضعت فيه الجمهورية العربية اليمنية وبدا الرائد علي عبدالله صالح كما لو أنه قرأ الوجوه الموسومة بالقلق الشديد والإرباك والخوف أحياناً، واستشف منها حالة الترقب القاتلة وهي ترتسم في الحدقات كأنها على موعد مع قدر سحيق لاحت مخالبه لأول مرة وهي تتحين فرصة الانقضاض على عنق الوطن اليمني لتدحره للأبد.. فما كان من هذا الرجل إلا الانقياد لما يمليه عليه شرف الواجب كجندي أقسم يمين الولاء للواء الوطن وثورة الشعب الخالدة. فحذا به الأمر إلى الاتصال بعدد من الضباط المقربين منه قبل التوجه إلى مقر القيادة ليوجههم للامساك بالمرافق الرئيسية للقوات المسلحة والجهاز المدني والمراكز الحساسة خشية حدوث حالة انفلات وفوضى أو اختراق من جهات كانت تتربص بالوطن وتتحين الفرص للاستيلاء على السلطة في صنعاء.
وهكذا تمكنوا من السيطرة على الأوضاع داخل الوحدات العسكرية البرية والجوية، وشكلوا سياجاً أمنياً حول المطار ومبنى الإذاعة والتلفزيون وغيرها من المؤسسات الحيوية الحساسة. وكما أسلفنا الذكر، في يوم 24 يونيو 1978م وعلى أثر اغتيال الرئيس الغشمي أصدر القاضي عبد الكريم العرشي بوصفه رئيساً لمجلس الشعب التأسيسي بياناً ينعي فيه الرئيس الراحل ويعلن الحداد الرسمي في كافة أنحاء الجمهورية. وفي نفس الوقت عقد في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة اجتماعاً طارئاً للقيادات العسكرية والرموز المدنية القيادية وتم الاتفاق خلال الاجتماع على صيغة انتقالية للحكم من خلال مجلس رئاسي مؤقت.. فتم تشكيل المجلس الرئاسي برئاسة القاضي عبد الكريم العرشي، وعضوية رئيس الوزراء عبد العزيز عبد الغني، ورئيس هيئة الأركان العامة المقدم علي صالح الشيبة، وقائد الجيش في محافظة تعز الرائد علي عبدالله صالح. كما أصدر مجلس الشعب التأسيسي بياناً أكد فيه بأنه سوف يتم انتخاب رئيساً للجمهورية في أقرب وقت ممكن طبقاً للدستور. وفي يوم 25 يونيو 1978م تم إجراء تغييرات في الجيش، فقد أصدر رئيس المجلس الرئاسي المؤقت القاضي العرشي قراراً قضى فيه بتعيين المقدم علي صالح الشيبة قائداً عاماً للقوات المسلحة، وبتعيين الرائد علي عبد الله صالح نائباً للقائد العام ورئيساً لهيئة الأركان العامة، وتضمن القرار أيضا ترقية علي عبد الله صالح الى رتبة مقدم. وتم تشكيل لجنة من سبعة أشخاص للتحقيق في حادث اغتيال الرئيس.
وبهذه التشكيلة بات مفهوماً للكثير من القوى الوطنية اليمنية وللمراقبين أيضاً أن المقدم علي عبدالله صالح أخذ يسرق أضواء الساحة السياسية وتنبأ البعض بأنه سيكون له شأناً كبيراً في المرحلة القادمة مستمدين رأيهم هذا من حقيقة كونه الرجل الوحيد بين أعضاء مجلس الرئاسة الذي لم يتم انتخابه لعضوية المجلس وفقاً لمناصبه السياسية السابقة وإنما انتخب لشخصه ذاته لا غير. صنعاء تبحث عن رئيس مع أن المجلس الرئاسي المؤقت كان قد انهمك بالمسئوليات التي باشرها منذ اليوم الأول لانتخابه، وتعامل أعضاؤه مع جزيئات الموقف كاملاً بجدية وكحالة من حالات التحدي الثوري المصيري الذي يملي عليهم الأخذ بيد الوطن في هذا الظرف العصيب إلى بر السلامة والأمان الذي تتهيأ فيه المناخات السليمة والمناسبة لانتخاب رئيساً للجمهورية.. إلا إن كل ذلك بدا بعد بضعة أيام ليس أكثر من "مورفين" يسكن ثورة الألم لكنه لا يحول دون تفشي الداء في بقية الجسد واستفحاله وصيرورته وباءً معشعشاً في الخفاء الذي لا تطوله أنظار الظرف الطارئ.
فالمجلس الرئاسي الذي باشر مهامه اعتباراً من يوم 25 يونيو 1978م باعتباره الخيار الأمثل في حينه، شاءت المقادير أن تقلب معطياته وتفرض على القوى الوطنية في الشطر الشمالي أن تراجع حساباتها بهذا الشأن، ففي يوم 27 يونيو 1978م أقدم الجناح اليساري المتطرف في شطر اليمن الجنوبي على استكمال سيناريوهات مخططه الماركسي التآمري من خلال الإطاحة بنظام الرئيس سالم ربيع علي بعد القبض عليه وإتهامه باغتيال الغشمي والخروج عن مناهج الفكر السياسي للدولة ثم محاكمته صورياً وأعدامه رمياً بالرصاص، وكل ذلك لم يستغرق سوى الساعتين فقط. وقد أدت هذه التطورات السريعة إلى صعود عبد الفتاح إسماعيل إلى سدة الحكم. وهو ما لا ترجوه صنعاء ولم يكن ليطرأ على بال أحد من رموزها القيادية. فهذا الرجل كان معروفاً بتشدده الماركسي وميوله الثورية الراديكالية، وبطموحه في بسط نفوذه على الشطر الشمالي وتوحيده مع الجنوب تحت راية الماركسية. وهذا الأمر بحد ذاته كان يعني إمكانية إنفجار المجابهة بين الشطرين في أية لحظة وكما لو كانت مصيراً محتوماً لا يمكن تفادية في ظل زعامة عبد الفتاح إسماعيل. وبطبيعة الحال لم يكن المجلس الرئاسي المؤقت مهيأً لخوض حرب، ما لم يتم تعيين رئيس دائم للبلاد يتخذ القرارات الحاسمة ويتحمل مسئوليتها، ويجنب الساحة الداخلية مخاوف الانشقاقات أو نشوب الصراع بين المدنيين والعسكريين وغيرهم. علاوة على وجود المسوغات الدستورية التي تستدعي حسم متعلقات السلطة وإقرار صيغتها النهائية المستقرة، خصوصاً وأن الإشاعات آخذة باجتياح البلاد طولاً وعرضاً مسببة الكثير من البلبلة والقلق والإرباك في أوساط المجتمع، وبدت ثقة الشارع اليمني بمؤسسة الحكم والمرحلة المقبلة وما يمكن أن تتمخض عنه محكومة بالارتياب، ومهتزة إلى حدٍ ما، وتتناقض مع نفسها من يوم لآخر. لكن بعد مضي نحو أسبوعين من عمر المجلس الرئاسي وجد مجلس الشعب التأسيسي أن كل المؤشرات تدفع إزاء تجاوز الفترة الانتقالية والعودة للعمل بموجب الإعلانات الدستورية. وكان ذلك سيتطلب بعض الوقت لإجراء المشاورات والإعداد النهائي لانتخاب رئيس الجمهورية.
وخلال الأسبوع الأخير الذي كان يفصل الشعب اليمني عن رئيسهم المرتقب، شهدت ساحة الشطر الشمالي تحركاً محموماً لمختلف الأوساط السياسية والقوى الجماهيرية على أمل تحديد ملامح نموذج الرمز القيادي الأنسب والأقدر على تولي زعامة البلاد، وضمان أمنه وحماية الجمهورية والدولة من الإنهيار أو الانتكاس مرة أخرى. فالمؤسسة العسكرية التي كانت تتبع منهجاً عملياً وبراغماتياً في قراءاتها لمفردات الظرف الآني كانت ترى في المقدم علي عبد الله صالح إنموذجها القيادي الأمثل لاستيعاب متغيرات الساحة اليمنية المكتظة بالتناقضات والإرهاصات المختلفة، خاصة وأن تكهنات إندلاع صدام عسكري مسلح مع الشطر الجنوبي أمر مسلم به. ويبني هؤلاء موقفهم على أساس النظر إلى المقدم علي عبدالله صالح على كونه الرجل الأقوى في الجيش. وعلى نفس الأفق التقت العديد من القوى الوطنية التي رأت إن مصلحة الوطن تكمن في انتخاب المقدم علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية، وقد خرجت حشود كبيرة من الناصريين والبعثيين والإسلاميين والمستقلين وغيرهم بمسيرات في محافظتي تعز وإب بالدرجة الأولى وبعض المدن اليمنية الأخرى لدعم ترشيح المقدم علي عبدالله صالح..
وتبادلت بعض القوى الوطنية الرسائل فيما بينها البين للغرض السابق ذاته. وبدا واضحاً أن علي عبدالله صالح كان يحظى بشعبية عريضة ليس على نطاق تلك الشرائح وحسب، بل حتى داخل مجلس الشعب التأسيسي الذي بادر بعض أعضائه مثل عبدالله سلام الحكيمي وغيره إلى توزيع تعميم يحثون فيه على دعم ترشيح المقدم صالح. لكن السند الأكبر الذي عزز موقف الداعين لترشيحه ورجح كفته على سواه هو أن رئيس مجلس الرئاسة ورئيس مجلس الشعب التأسيسي القاضي عبد الكريم العرشي والمعروف بخبرته السياسية الكبيرة والحكمة ورجاحة العقل كان من أعظم المتحمسين لترشيح المقدم علي عبدالله صالح، وقد عمل على تحشيد الدعم له باتجاهين، الأول لصالح انتخابه رئيساً للجمهورية، والثاني بالضغط على المقدم علي عبدالله صالح وأقناعه بقبول المنصب الرئاسي إذا ما وقع الاختيار عليه.
ومما تجدر الإشارة إليه فيما يخص هذه الفترة هو أن الجمهورية العربية اليمنية خلال هذه الأيام القليلة الفاصلة بين المرحلة الانتقالية والرئاسة الدائمة بدت وكأن هناك شبه إجماع كامل وإصرار عنيد على شخص المقدم علي عبدالله صالح ليتولى رئاسة الدولة. والأغرب من ذلك أنه حتى المؤمنين بفرضية أنموذج الحاكم العسكري سلطوا جل أضوائهم على شخص هذا الرجل بالرغم من وجود خيار آخر متمثل في المقدم علي صالح الشيبة في نفس المجلس الرئاسي، ويفوق الأول رتبة ومنصباً فيه. ولعل هذه الحالة تؤكد ما كان يتردد من رأي حول المؤهلات الفردية والخصال الحميدة والمتميزة التي خص بها الكثيرون علي عبدالله صالح..
ومما يرسخ القناعة لدينا بهذا الصدد هو أن بلغ الإصرار على هذا الرمز حد مبادرة عدد كبير من الضباط بتشكيل وفد عسكري والتوجه إلى المقدم صالح أولاً لإقناعه بالرئاسة وطمأنته بأنهم سيقفون إلى جواره في مواجهة الصعاب وحماية أمن الوطن. ثم توجه الوفد العسكري إلى مجلس الشعب التأسيسي، والتقى بالقاضي العرشي وبعض أعضاء المجلس بقصد حسم مسألة انتخاب الرئيس، وترشيح المقدم علي عبدالله صالح كمرشح للجيش باسم أبناء القوات المسلحة.. وهدد أعضاء الوفد العسكري بإعلان الجيش حالة الطوارئ في البلاد إن لم ينزل مجلس الشعب عند رغبة إرادة أبناء الشعب اليمني مدنيين وعسكريين، ويلبي مطلبهم الوطني بانتخاب علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية. وفي يوم 17 يوليو 1978م عقد مجلس الشعب التأسيسي جلسة استثنائية بناءً على الدعوة التي وجهها له رئيس مجلس الرئاسة المؤقت القاضي عبد الكريم العرشي.
وأجرى أعضاء مجلس الشعب أول انتخاب نيابي لرئيس الجمهورية في تاريخ اليمن الحديث، فكان أن فاز المقدم علي عبدالله صالح بالأغلبية المطلقة للأصوات، حيث حصل على ما نسبته 75% من أصوات مجلس الشعب ليصبح رئيساً للجمهورية العربية اليمنية وقائداً عاماً للقوات المسلحة. ويعتبر أيضاً الرئيس اليمني الوحيد الذي ولج أروقة القصر الرئاسي من بوابته الشرعية المتمثلة بنواب الشعب اليمني في مجلس الشعب التأسيسي،وبطريقة الانتخابات الحرة. لماذا علي عبد الله صالح ؟ لقد كانت الرئاسة في تلك الآونة مغامرة خطرة، ومهمة شاقة مثقلة بالمسئوليات الجسام التي لا تحتمل المجازفة بها أو إخضاعها لاجتهادات لا تستند إلى سابق مراجعات دقيقة وقراءات مستفيضة لأنموذج الزعامة السياسية التي أصبح مصير الوطن مرهوناً بقدراتها ومهاراتها الفنية بإدارة شئون الحكم، وكذلك مستوى شجاعتها الذي ستواجه بها التحديات المماثلة في الساحة.
إلا إن استقرار القناعات النهائية لأبرز الشخصيات والقادة السياسيين والعسكريين على انتخاب المقدم علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية – رغم هول المأزق السياسي وفخامة المسئوليات – يبدو لنا أمراً يستحق التوقف عنده وإنصاف ظرفه التاريخي بشكل موضوعي. فالمقدم علي عبدالله صالح في تلك الفترة لم يكن بطلاً إسطورياً فريداً، ولم يكن أعظم رجال زمانه وأرفعهم رتبة، ولا أكبرهم سناً أو تجربة أو شهرة.. بل أنه كان حديث السن (36 عاماً) ولم يمارس الحكم في منصب سياسي كبير من قبل، علاوة على ذلك أنه كان رجلاً عصامياً لا يستمد مجده من نسب أو قبيلة ولا يبني نفوذه على أساس منه رغم انتمائه إلى (حاشد) – إحدى كبريات القبائل القوية المتنفذة في اليمن.
إذن مما سبق ذكره لابد أن أعضاء مجلس الشعب التأسيسي وكل القوى الوطنية التي دعمت ترشيح المقدم صالح لرئاسة الجمهورية وانحازت إليه كاملاً، قد تناولت الموضوع من زاوية مختلفة، ترى من خلالها جملة من الأمور والوقائع الحقيقية التي تجعل منها رصيداً ثرياً للمقدم علي عبدالله صالح يغنيه عما سبق ذكره من مواصفات، ليكون الرجل الأصلح لإدارة شئون الحكم في هذه المرحلة بالذات، وإنقاذ الوطن من الأوضاع المتردية التي يعيشها والمخاطر التي تحدق به من كل جانب..
وبالإمكان هنا أن نلخص تلك الأمور والوقائع التي دفعت إلى انتخاب المقدم صالح وفوزه بالأغلبية المطلقة بالنقاط التالية:
أولاً: ظهر علي عبدالله صالح على الساحة السياسية اليمنية للمرة الأولى بصفته مناضلاً في صفوف تنظيم الضباط الأحرار الذي قاد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، ثم كمدافع عن الثورة في مواجهة القوات الملكية منذ بداية الثورة وحتى نهاية حصار السبعين والمصالحة الوطنية.. ليعود مرة أخرى إلى ميادين الدفاع عن الوطن وحماية الثورة في عهد القاضي الأرياني، ولكن هذه المرة في مواجهة إرهاب نظام الشطر الجنوبي على امتداد الحدود التشطيرية.. وشيئاً فشيئاً سطع نجمه وارتقى إلى رتب عسكرية أرفع، حتى أصبح في عام 1975م قائداً للواء تعز، وقائداً لمعسكر خالد بن الوليد.
قصدنا من هذا السرد السريع أن نوضح حقيقة مهمة مفادها: أن الرئيس علي عبد الله صالح لم يكن غائباً عن الأحداث اليومية والتطورات السياسية ومراكز القوى الوطنية، بل أنه كان على تماس مباشر مع القضايا والهموم الوطنية، وداخل ميادين المعترك السياسي حتى أن الرئيس إبراهيم الحمدي كان يرى فيه شخصية قيادية مخلصة يمكن الركون إليها في ترسيخ دعائم أمن الدولة، فأوكل إليه قيادة لواء تعز ومعسكر خالد بن الوليد، خاصة وأن محافظة تعز كانت لها اعتبارات خاصة في المقاييس الحكومية آنذاك كونها أهم لواء جباية في عموم الجمهورية وتتجاوز عائدات الضرائب السنوية منها (500) مليون ريال أما الاعتبار الآخر لها فلأنها مركزاً سياسياً تتفاعل داخله الكثير من الأنشطة الثورية الوطنية، علاوة على قربها من مناطق النشاط التخريبي المعادي الذي تقوده مليشيات الجناح اليساري في الشطر الجنوبي. وإلى جانب ما سبق فإن الرئيس الحمدي وكذلك الغشمي أخذوا يشهدون لقدرات الرجل ومهاراته الفردية من خلال إيفاده لتمثيل البلاد في الكثير من المحادثات والزيارات الرسمية مع العديد من البلدان العربية الشقيقة أو الأجنبية الصديقة.
ولعل الحقائق الآنفة الذكر تفند ما تناولته بعض المراجع في حصر كفاءته في المجال العسكري ونكران خبراته السياسية. في الوقت الذي يبدو لنا علي عبد الله صالح مراقباً ذكياً للأحداث، ومن صنف أولئك السياسيين الذين يعملون بهدوء وتفاني غير مكترثين لأضواء الإعلام أو عدسات التصوير. ثانياً: إن بعض التجارب والمواقف التاريخية المتصلة بالعهد القريب لتلك الفترة، وطبعت آثارها في ذاكرة القوى الوطنية المختلفة، ولدت قناعات كاملة عند مراكز اتخاذ القرار السياسي بأن صالح كان نموذجاً ممتازاً للقائد العسكري الشجاع والحازم وكان مقداماً كبيراً لا يهاب قدراً أو موتاً في جميع المعارك التي شارك فيها أو قادها – بمعنى أنه كان يحمل كل مواصفات "الفدائي". أما كيف تشكلت هذه الصورة لدى مراكز اتخاذ القرار.. فتلك مسألة تراكمت أبعادها على امتداد مسيرة عمل علي عبدالله صالح في المؤسسة العسكرية لتؤلف فيما بعد رصيده الإجمالي عند صناع القرار، خصوصاً إذا علمنا أن فترة السبعينات شهدت تزايداً ملحوظاً في نفوذ العسكريين داخل مؤسسة الحكم "ممن كان على إحتكاك مباشر معه، علاوة على أن حجم تمثيل الجيش في مجلس الشعب بلغ (12) عضواً من أعضاء المجلس البالغين (99) عضواً، مما غلب صفاته العسكرية على المدنية في موقع الترشيح. لكن من أعظم ما رسخ تلك القناعات القيادية وأظهره إلى القوى السياسية هو تلك الأدوار التي لعبها في عهد الرئيس الغشمي وما تلاه. فمع أنه شارك فــي انقلاب 1974م الذي أوصل المقدم الحمدي إلى السلطة، إلا أن دوره بدأ يبرز بقوة عقب اغتيال الحمدي في 8/10/1977م إذ أصبح من أقرب مساعدي الرئيس أحمد الغشمي.
وأخذ يؤكد شجاعته القيادية من خلال المواجهات العسكرية التي اختبرت قدراته. ففي مطلع شهر نوفمبر 1977م حاولت عناصر الجبهة الوطنية زعزعة سلطة الرئيس الغشمي قبل استقرارها فأقدمت على شن هجومها على منطقة (الحجرية) وارتكاب أعمال تخريبية وإجرامية واحتجاز عدد كبير من العلماء والمشائخ والأعيان والتجار. ولما كان علي عبدالله صالح هو قائد لواء تعز، تولى معالجة الأمر بنفسه معززاً الموقف بكتيبة بقيادة أخيه الرائد محمد عبدالله صالح، وتم حسم المواجهة في نفس اليوم وإطلاق سراح أكثر من خمسين شخصاُ كانوا محتجزين في الطابق الأول من مقر القيادة قبل أن تبتلعهم ألسنة اللهب التي أضرمها المخربون في الطابق الثالث والثاني للمقر.
أما الاختبار الأصعب الذي قدم نفسه من خلاله كمركز ثقل كبير في القوات المسلحة فكان بعد إلغاء الغشمي صيغة مجلس القيادة واستبداله بمجلس رئاسي بتاريخ 22 إبريل 1978م. حيث رفض عضو مجلس القيادة الرائد عبدالله عبد العالم منصب نائب الرئيس الذي منح له، وقاد حركة تمرد متوجهاً مع قوات المظلات التي كان يقودها إلى (الحجرية) واحتل مدينة (التربة). ولما حاولت بعض المشائخ التوسط بينه وبين الغشمي في يوم 28 إبريل 1978م قام بقتلهم جميعاً بعد دعوتهم إلى العشاء، مما أثار ضده نقمة الأهالي وغضب الغشمي. وعلى أثر ذلك تحرك الرائد علي عبدالله صالح بقواته من حامية تعز لتصفية التمرد، فخاض معركة ضروس انتهت بهزيمة قوات المظلات وفرار قائدها عبدالله عبد العالم إلى عدن مع بعض أنصاره، ومن هناك توجه إلى ليبيا، وبذلك تحرر الغشمي من خصم لدود.
ولعل الواقعتين السابقتين ظلتا عالقتان في أذهان صناع القرار بينما هم يبحثون عن الرجل الأقوى لزمن التحديات، والقائد المغامر بحياته من أجل وطن تسير به الخطوب على طريق الانتكاس. فإذا كان هناك من غاب عن ذهنه أدوار علي عبدالله صالح في النضال والدفاع عن الثورة وتثبيت الجمهورية وحماية السلطة واستقرار الوطن، فإنه لن يكون بمقدوره تجاهل معارك الجسرة التي ذكرناها ولم يمض عليها أكثر من شهرين قبل اغتيال الرئيس.
ثالثاً: أن ردود فعل الرائد علي عبدالله صالح على نبأ اغتيال الرئيس أحمد الغشمي لفتت أنظار القيادات الوطنية من العسكريين والمدنيين على حد سواء وقلبت مقاييس التميز لأقطاب الساحة السياسية اليمنية. فمجرد أن تلقى الرائد علي عبدالله صالح اتصالاً بهذا الخصوص حرص جداً على أن يكون في موقع الحدث بالقيادة لنجدة البلاد.. وعندما وصل صنعاء وتفاجأ بالدروع تتحرك على طريق المطار باتجاه المدينة لضربها تصرف بحكمة متناهية وأحسن استغلال علاقاته الشخصية في إيقاف زحف الدروع والحيلولة دون تنفيذ أمراً كان سيشعل نار فتنة أو يقود إلى فوضى غير محمودة العواقب.
أما الخطوة التي رفعته فوق المتميزين، وترجمت حنكته القيادية كانت بمبادرة الاتصال ببعض أنصاره من الضباط الموثوقين ونشر قوات ضاربه حول المؤسسات العسكرية والمدنية الحساسة مثل دور الرئاسة والأمن والمطار والإذاعة والتلفزيون والوزارات وغيرها من المراكز والمقرات الحيوية((، بهدف تأمينها من أي محاولة انقلابية أو تخريبية، ومن أي مخطط يحتمل أن أعده نظام الشطر الجنوبي لمرحلة ما بعد اغتيال الرئيس. أن ذلك السلوك المسئول والاستجابة السريعة للمتغيرات الطارئة، فسرتها القوى الوطنية آنذاك على أنها جسارة وطنية غيورة على مستقبل الوطن اليمني، وحريصة على أمنه واستقراره ومصلحة أبنائه، وأدرك الكثيرون أن هذا الرجل المتحرك في الساحة باندفاع وحماس لابد أن يكون خيار الزمن العصيب. فلقد كان وحده من يتزعم الموقف في الوقت الذي كان فيه رئيس هيئة الأركان العامة ووزير الدفاع وقادة الوحدات العسكرية في حالة ارتباك شديد((، وحيرة مما يمكن فعله في ذلك الظرف. وقد حدثنا الشيخ سنان أبو لحوم عن تلك اللحظة بالذات وانطباعاتها قائلاً: "هو كان في تعز ولد نشيط ومتحرك ما يظهرش من جهته تخوف، وعندما قتل الغشمي طلع من تعز واحتل القيادة بينما كان البرطي وزير الداخلية ورئيس هيئة الأركان الشيبة وعبد الكريم العرشي يستقبلون الناس، فأرسل إلي رسالة شرح لي فيها ما حصل.. وأخبرني أن الغشمي توفي وقال إحنا محتاجين لك.. وأول ما وصلت صنعاء أبصرت الشيبة والبرطي والعرشي يستقبلون الناس، والرجل في القيادة سيطر عليها فقلت في نفسي – هؤلاء ما هم حق شيء- وأنا لمست منه قوة وإصرار فقلت له على بركة الله.
رابعاً: علاوة على ما سبق ذكره من معطيات تاريخية ومواقف شاخصة، فإن علي عبدالله صالح لم يكن رجلاً بلا أثرٍ، أو قطب بلا تأثير وإلا لما كان قد استدعي من قبل المجلس الرئاسي ومجلس الشعب والقيادة العامة للقوات المسلحة لمشاركتهم الاجتماع الطارئ ومشاطرتهم الرأي فيما يلزم من ضرورات ولعل علاقاته الواسعة مع رموز المجتمع وأقطابه السياسية الوطنية البارزة وشرائحة المختلفة إنما تدلل على قوة شخصيته ودماثة خلقه وسعة صدره وحُسن سيرته وطول باعه في خدمة الوطن والإخلاص في الواجب المقدس، فهو رجل براغماتي يجيد قراءة الحياة وفهم واقعها وتصور مفردات المستقبل. ولأجل كل ذلك كان أمل الوطنيين وموضع ثقة السياسيين، ورهان رفاقه العسكريين.. ومن المؤكد أن علي عبدالله صالح لم ينتخب رئيساً لكونه بطلاً اسطورياً فريداً أو أرفع رجال زمانه أو أقواهم قبيلة، بل لمجرد كونه إنساناً حقيقياً أجمع اليمنيون على وصفه بإبن الوطن البار.. ولا شيء غير ذلك.
علي عبدالله صالح – رئيساً في يوم السابع عشر من يوليو عام 1978
أعلن مجلس الشعب التأسيسي على لسان رئيسه القاضي عبد الكريم عبدالله العرشي عن تنصيب المقدم علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية العربية اليمنية وقائداً عاماً للقوات المسلحة وفقاً لنصوص الدستور اليمني. وبعد الانتهاء من المراسيم الرسمية لتقليده الرئاسة وأداء القسم على المصحف الشريف أعتلى الرئيس علي عبدالله صالح المنصة متوجهاً لأبناء الشعب اليمني بأول خطاب سياسي له يعلن فيه برنامج عمله السياسي.
فقد أكد الرئيس في خطابه هذا على أنه سيعمل على الحفاظ على مبادئ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وتطلعات حركة الثالث عشر من يونيو المباركة، وتعهد بمواصلة مسيرة التنمية الشاملة في إطار الحرية والديمقراطية، ورعاية ودعم حركة التعاون، والدفع بعملية التصحيح، ووعد بمواصلة الجهود والاهتمام ببناء الدولة المركزية الحديثة – دولة النظام والقانون.
وقد تم انتخاب القاضي عبد الكريم عبد الله العرشي نائباً لرئيس الجمهورية، مع احتفاظه بمنصبه رئيساً لمجلس الشعب التأسيسي. أما حكومة عبد العزيز عبد الغني، فإنها بتاريخ 18 يوليو 1978م اليوم التالي لانتخاب الرئيس قدمت استقالتها لرئيس الجمهورية فاستبقاها بجميع أعضائها من دون أي تعديل في ذلك الوقت على الأقل. وكانت هذه الحكومة قد تشكلت حديثاً في عهد الرئيس الغشمي بموجب القرار الجمهوري رقم (5) بتاريخ 30 مايو 1978م، وهي نفسها التي قرر الرئيس علي عبدالله صالح أن تبدأ معه مسيرة الحكم للعهد الجديد.. وكانت تتألف من:
1 عبد العزيز عبد الغني - رئيساً لمجلس الوزراء
2 مهندس/ محمد أحمد الجنيد - نائباً لرئيس الوزراء وزيراً للمالية
3 محمد بن محمد المنصور - وزيراً للأوقاف والإرشاد
4 صالح الجمالي - وزيراً للتموين والتجارة
5 د. محمد أحمد الأصبحي - وزيراً للصحة
6 محمد الخادم الوجيه - وزيراً للتربية والتعليم
7 علي عبد الله المطري - وزيراً للزراعة
8 مهندس/ أحمد محمد الآنسي - وزيراً للمواصلات والنقل
9 أحمد صالح الرعيني - وزيراً للإعلام والثقافة
10 د. أحمد علي الهمداني - وزير للاقتصاد
11 أحمد قايد بركات - وزيراً للدولة ورئيساً لمؤسسة النفط والثروات المعدنية
12 محمد سالم با سندوة - وزيراً للتنمية ورئيساً للجهاز المركزي للتخطيط
13 مقدم/ محسن اليوسفي - وزيراً للداخلية
14 عبد الله عبد المجيد الأصنج - وزيراً للخارجية
15 مهندس/ عبد الله حسين الكرشمي- وزيراً للأشغال العامة والبلديات
16 القاضي/ علي بن علي السّمان - وزيراً للعدل
17 عبد السلام محمد مقبل - وزيراً للشئون الاجتماعية والعمل.
ويبدو لنا من الوهلة الأولى التي تحدد فيها لاعبي الحقبة السياسية الجديدة أن هناك تريث حذر من قبل الرئيس علي عبد الله صالح في تشكيل مراكز نفوذه السلطوي. فقد حرص على وجود القاضي العرشي على راس قمة الهرم السياسي استشعاراً منه بالحاجة إلى نائب بتلك المواصفات التي كان عليها العرشي، من خبرة سياسية ميدانية طويلة، ومن هدوء وتعقل وبعد نظر سياسي إضافة إلى وجاهته الاجتماعية التي أكسبته الكثير جداً من الأنصار، وقربت منه مراكز قبلية مؤثرة في الساحة. وهو الأمر الذي كان سييسر المهمة الشاقة على الرئيس الجديد، ويوسع من آفاق التعاون معه. أما مسألة استبقاء الحكومة، وعدم استعجال القيام بتعديلات وزارية حتى يوم 25 أكتوبر 1978 فذلك أمر ربما قصد منه الرئيس صالح بلوغ غايتين الأولى الاستفادة من عبد العزيز عبد الغني رئيس الوزراء في مجال وضع المعالجات الاقتصادية المناسبة للحالة القائمة، باعتباره أحد الاقتصاديين الأكاديميين إلى جانب استغلال علاقاته الجيدة مع المملكة العربية السعودية لتمهيد الطريق لتنقية أجواء العلاقات معها.
أما الغاية الثانية فتتلخص بحذر الرئيس من إحداث تعديلات وزارية فورية قد يكون من شأنها تأليب الوضع أو تحريك خصومة هو في غنى عنها في تلك الفترة.. خاصة وأن هذه التشكيلة الوزارية ضمت بين أعضائها ممثلو الجيش والبرجوازية التجارية والأوساط الإقطاعية القبلية، وكانت الإزاحة المفاجئة للبعض منهم يعنى الاصطدام بمراكز نفوذ اجتماعية قد تتكرر من خلالها تجارب أسلافه. وقد بدت هذه النظرة منطقية إلى حدٍ ما في أي وضع مماثل لما كانت عليه اليمن. البدايات المستحلية: استهلت الجمهورية العربية اليمنية عهداً سياسياً جديداً لا حقيقة فيه أكبر من كون الحكم فيه مغامرة لا تستحق عناء السعي، وأجمع كل من تدارس أوضاع اليمن آنذاك على وصف كرسي الحكم بأنه "مفخخ"، وأن كل الأحداث تنذر بانهيار مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. فكان أن سلك الفزع طريقه إلى نفوس القيادات الوطنية فأشفقوا من تحمل المسئولية، وصاروا لا يرون علي عبد الله صالح إلا على أنه "الرئيس الضحية".
ولم يكن ذلك رأي اليمنيين وحدهم بل أن المجلة الأسبوعية الأمريكية "نيوز ويك" نشرت مقالاً جاء فيه "إن رئيس الدولة الجديد لن يكمل الستة أشهر كحد أقصى.." والرئيس علي عبد الله صالح نفسه كان يعي تماماً خطورة المرحلة، وصعوبة الموقف الذي وضع نفسه فيه، فيقول غداة توليه الحكم في 17 يوليو 1978م: "كنت أشعر بصعوبة المهمة، وأعرف أن فقداني لحياتي قد يكون في أي لحظة، لكن التضحية لإنقاذ الوطن سهلة، لقد اخترت كفني، ولم أخش شيئاً عندما طلب مني تحمّل المسئولية، وما كنت أخشاه أن ينتكس الوطن..".
وفي الحقيقية أن حالة القلق على مستقبل الحكم في اليمن لا يأتي من الحالة الآنية التي كانت تمر بها الدولة، بل هي حالة مرافقة لكل المراحل السياسية الانتقالية، ومحكومة بالعديد من المفاهيم الفلسفية والتاريخية المؤلفة لظروف المجتمع وتطورات حركته الثورية.. فالرئيس علي عبدالله صالح يقر بوجود خصوصية نوعية في بلورة الثقافة السياسية السلطوية لدوائر الحكم اليمني، ويفسر الرئيس صالح تلك الخصوصية في قوله: (اليمن من أكثر البلدان صعوبة في الحكم لاعتبارات عديدة، أهمها ذلك الموروث الصعب الذي ورثته اليمن من العهود الماضية، إلى جانب ما ينبغي أن يحتاجه الحاكم من فهم واستقراء جيد، واستيعاب واع للخارطة اليمنية..
ولا شك أن هذا الرأي يفسر الكثير من إشكالات الأزمة الثورية اليمنية التي لازمت الدولة اليمنية منذ إندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م وحتى بداية عهد الرئيس علي عبدالله صالح. فاليمن لم تكن تواجه أزمة عنصر وطني أو مأزق فكري تحرري، بقدر ما كانت مشكلتها الرئيسية في ضيق أفق ديناميكية البناء الثوري للدولة على أساس من خصوصياتها اليمنية التاريخية والجغرافية والثقافية وطبيعة تفاعلاتها الإقليمية في إطار تكويناتها الحضارية المختلفة. أن عدم استيعاب القادة اليمنيين للرؤى الواقعية التي كان من الأولى أن تؤخذ بنظر الاعتبار وتعطي الأسبقية في تشكيل الصيغة الوطنية لديناميكية العمل الثوري، جعل الكثير من المفاهيم أو البرامج الثورية للجمهورية الحديثة تتعثر وتتعرض لانتكاسة نوعية في بعض الفترات، وبالتالي الوصول إلى وضع أدنى بكثير من تطلعات القوى الوطنية الأخرى خارج دائرة اللعبة السياسية للسلطة.
وهكذا اختلطت المناهج في مؤسسة الحكم بين سلطة تغازل الرموز القبلية التقليدية أو فئة البرجوازيين أو الإسلاميين أو الراديكاليين والعسكريين وغيرهم، وبين أخرى تطيح بسابقتها وتستقوي بالبديل الأخر، حتى بلغ الأمر حداً أن نجد تعدداً سافراً في أساليب الاستقواء السلطوي يتخلل نفس العهد السياسي الواحد. إذن كان الوضع الثوري ينحدر، وتتفاقم أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب الاستقراء الواعي لظروف المعترك السياسي، وتغييب الفلسفة البراغماتية عن البرامج السياسية للقيادة الحاكمة، وبالتالي ساد الواقع اليمني لون من التعدد الانشطاري للقوى الوطنية وإمكانياتها التحولية والحركية في الميدان، فاستحال النظام الجمهوري حالة لتكريس الفوضى وتعميق هوة الفراغ السياسي، وإلى تجاهل شبه كامل لمؤسسات المجتمع المدني مما نجم عنه استفحال تنامي أجنحة القوى الأخرى، ورضوخ مؤسسة الحكم لتأثيراتها وضغوطها، ومن ثم مواجهة مصيرها الأخير على أيديها، وجر الوطن اليمني إلى المزيد من التدهور والانتكاس.
ومن البديهي أن الرئيس علي عبدالله صالح لم يكن بمقدوره كسب رهان السلطة والاستمرار في الحكم ما لم يكن قد أدرك تلك الحقائق وتوصل إلى مواطن الخلل التي قادت أسلافه إلى ذلك المصير المأساوي الذي إنتهوا إليه. ومن غير الممكن الوعي بالحقيقة الكاملة ما لم يكن قد أمضى السنوات الماضية من عمر الثورة مراقباً جيداً لمفرداتها ومتغيراتها الفكرية والسياسية، ثم عمل على تحليلها إلى مسبباتها وظروفها والخروج بقناعات استقرائية يمكن إعتبارها منطلقات صياغة مناهج العهد الجديد وقواعد إرتكاز المؤسسة الحاكمة.
وبحكم الاحتكاك المباشر مع الحدث أولاً ومع صناع القرار السياسي ثانياً في فترة السبعينيات على وجه الخصوص توافرت الخبرات العملية التراكمية عند الرئيس علي عبدالله صالح، وبدا واضحاً إنه كان يتعقب كل متغيرات السلوك السياسي للنخب الحاكمة ويحاول تشخيص وتصنيف التجارب وإعطائها نصابها الوافي من التحليل والتقييم طبقاً لمناخاتها وخرائط تشكيلها على أرضية الواقع باختلاف البعد الزماني والبعد المكاني لظروف صناعة القرار السياسي.. ولولا تلك التقديرات الافتراضية لحيثيات الوضع اليمني لتلك الفترة لما كان الرئيس علي عبد الله صالح سيغامر بكرسي رئاسي مفخخ. ويغلب الظن إنه كان سيتحاشي الأخذ بكفاية مهاراته وخبراته العسكرية العالية كشرط وحيد للتغلب على تحديات المرحلة، وتجاوز انحرافاتها الحادة، ثم الأخذ بناصية الوطن والثورة إلى بر السلامة. مما يرجح لدينا فكرة الاستقراء المسبق للأزمة السياسية اليمنية، والوعي التام بمفرداتها ومسببات حالة التصعيد والتوتر السائد.. وأخيراً وثوق الرئيس صالح بالمخارج المفترضة لذلك وإرادته السياسية لبلوغ أدواتها المناسبة.
الموروث التاريخي لما قبل 17 يوليو
رغم أن الرئيس علي عبدالله صالح كان يبدو منذ الوهلة الأولى خياراً استثنائياً لحقبة تاريخية استثنائية أيضاً، إلا أن ترامي طرفي الأفق الزمني لانطلاقة تجربتــه السياسية مـــن خط يوم 17 يوليو 1978م إلى نهاية ديسمبر 2004م، تقتضي منا قبل الولوج في التفاعلات السياسية لعهده تركيب الصورة الحقيقية لواقع الجمهورية العربية اليمنية التي كان ينبغي على الرئيس ملامسة أبعادها، وفك طلاسمها، ومحاكاة طقوسها، وإعادة تخطيط ملامحها طبقاً لحاجة اللحظة الآنية أولاً، وبحسب المحور المستقبلي الذي ينظر إلى تنظيمها على فلكه ثانياً. ومن أجل فهم طبيعة الأهمية التي اتصفت بها مرحلة تولي الرئيس علي عبدالله صالح مقاليد الحكم اليمني، وسبب تسليط كل هذه الأضواء عليها، سنقف على ماهية الموروث التاريخي اليمني لما قبل يوم السابع عشر من يوليو 1978م، ونلخصه بالآتي: أولاً: أن ثورة 26 سبتمبر 1962م جاءت لتبدأ من الصفر تقريباً، نظراً إلى أن الحكم الإمامي لم يورثها شيئاً يذكر من قواعد وأسس الدولة حتى على مستوى المنطقة. وكان من المؤمل أن تتحول الثورة إلى أداة حقيقية للتغيير والتحول إلى مسار البناء الحديث للدولة بآليات الأهداف السبتمبرية المعلنة. لكن ما حدث هو انشغال القوى الوطنية لفترة غير قصيرة في أزمات سياسية وفكرية ومناكفات داخلية، وتذبذب في منازلهم القيادية بين هبوط وصعود تبعاً لمواقف الزعامات منهم وفي نفس الوقت قصور في بعد نظر السلطة في فهمها وتناولها للأزمات السياسية وسبل احتوائها، وبالتالي فشلها في موازنة الساحة الداخلية واصطدامها بعدة مراكز قوى ساهمت في تعطيل المشاريع الثورية، ومضاعفة المعاناة الإنسانية للمواطن اليمني. ولم يتوقف أثر ذلك عند حد التعطيل، بل أنه هيأ مناخات متوترة يسرت السبيل أمام القوى الخارجية للتدخل والتأثير في الساحة السياسية اليمنية، وأتاحت أمام القوى اليسارية المتطرفة فرصة لاختراق الصفوف الوطنية والسعي لإذابة ثقافتها في قالب سياسي غريب تماماً وخطير. ولعل تلك الفوضى الثورية والسياسية، والتعدد في مراكز القوى، كانت نتيجته الطبيعية تصفية العديد من القيادات الوطنية على أيد مجهولة، ثم تدهور المؤسسة السياسية الحاكمة وانتقالها السريع قبل استقرار برامجها في انقلابين وتفاقم الحالة إلى صيغ الاغتيالات الدموية للرئيسين الأخيرين، ولم يبق من الثورة في الشطر الشمالي ما يستحق البكاء عليه سوى بصيص أمل منها يخشى عليه من رصاصة رحمة كانت في طريقها إليه من عدن. ثانياً: ورث الرئيس علي عبدالله صالح دولة منهكة، يضنيها الانفلات المؤسسي والفراغ السياسي ولا شيء يصفها بـ (الدولة) أكثر من مجموعة من الدساتير والقوانين المعدلة والقاصرة، والمعزولة عما يجري على الواقع. على الرغم من أن الفترة الواقعة بين 68-1978م قد بدأت فيها محاولات وخطوات لتأسيس نظام دستوري ممثلاً في المجلس الوطني المعين، وإعلان الدستور الدائم عام 1972م، وتأسيس مجلس شورى منتخب بدأ في وضع كثير من القوانين الصادرة عنه ما بين 1971-1975م قبل إعلان حلّه وتعليق الدستور.
إلا أن كل ذلك كان يحاكي تجارب عربية شهدتها فترة الخمسينيات ولم تعد ملائمة للوضع اليمني، ولربما كانت في مقدمة أسباب عدم الاستقرار في أسس وقواعد الدولة وتشريعاتها. وبرزت ظاهرة الانفصام الوطني كسمة غالبة لهوية العمل السياسي لتلك الفترة.. وفي ظل تغييب مؤسسات المجتمع المدني طغت النخب القبلية والبرجوازية والعسكرية، وأخذت تتلاعب بمقدرات الحكم وتوجه دفته على مسارات غير آمنة تبتعد كثيراً عن المسار الثوري السبتمبري الواضح.
ثالثاً: ظلت حالة التشطير من أسوء الموروثات التي انتقلت إلى عهد الرئيس صالح، حيث أنها جرت الوطن اليمني إلى عدة حروب على الحدود التشطيرية، وأهدرت الكثير من الإمكانيات المادية والبشرية، وبعثرت الموارد الوطنية، وجزأت عناصر التنمية الاقتصادية في وقت كان البلد بأمس الحاجة لها في ردم مخلفات العهد الملكي البائد. علاوة على إنها أضعفت قوة الوطن وأخضعته للمراهنات الخارجية.
رابعاً: لم تنجح الأعوام الستة عشرة من عمر الثورة في إعادة تأهيل البنى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والحضارية للدولة اليمنية، وظل لوبي الفقر والجهل والتخلف والمرض صفات ملتصقة بالمجتمع اليمني، ولم تكن المعالجات الحكومية تتناسب بقدر ملموس مع ضخامة المشكلة وحجم الزيادة السكانية السريعة في المجتمع اليمني.
خامساً: وعلى الصعيد الدولي، تضاعفت حالة العزلة عن المجتمع الدولي بسبب انشغال السلطة في أزماتها الداخلية، ولافتقارها أصلاً للمؤسسات التي تكفل الاندماج مع البيئة الخارجية.. وتبعاً لذلك تضاءل الدور اليمني الإقليمي والدولي وفقد اليمن فرصة الاستفادة من خصائص موقعه الاستراتيجي. سادساً: لعبت التدخلات الخارجية دوراً مؤثراً جداً في حماية الموروث السلبي المذكور آنفاً وتأجيج الفتن والصراعات الداخلية عبر استقطاب بعض القوى الوطنية اليمنية- على رأسها التيار القبلي- واستخدامها كأدوات ضغط على نظام صنعاء، كلما اقتضت الضرورة لذلك. وبرزت في هذا الاتجاه المملكة العربية السعودية كأقوى الأقطاب الخارجية التي اخترقت الدولة اليمنية وكرست جهداً طويلاً وعظيماً لإضعافها وبلغ استئساد السعوديين وهيمنتهم على دوائر السياسة اليمنية مبلغاً جعل من المملكة وسيط اليمنيين في المعاملات الخارجية وأمسى ذلك التدخل السعودي السافر بالشئون اليمنية موضع خلاف القوى الوطنية اليمنية مع نظام الحكم، وكان يتطور في بعض حالاته إلى مواجهات مسلحة أو انشقاقات خطيرة تترك بصماتها على أداء السلطة واستقرارها، على غرار ما حدث في أبريل 1978م.
لقد مثل هذا الموروث الثقيل أمام الرئيس علي عبدالله صالح كعبء إضافي ينبغي التفكير ملياً ببدائله المناسبة، والكفيلة بتحرير مؤسسة الحكم اليمنية من التأثير السعودي، وتأسيس صيغة ارتباط متوازنة يتحقق على ضوئها نمطاً متكافئاً من التعاون الثنائي بين البلدين بما يعود بالفائدة على الإقليم كاملاً من غير إضرار بمصالح طرف على طرف أخر.. وكما سنرى لاحقاً أن الرئيس علي عبدالله صالح سيمسك بخيوط اللعبة السياسية، ويوجهها كما يروم، ويلعب جميع أدوارها بذكاء وبراعة منقطعة النظير. سابعاً: مثلت القبيلة القدر الاجتماعي الذي لا مفر للدولة من الإيمان به، واستحالة نكران وجوده، لأنه سبغة التركيبة الاجتماعية اليمنية منذ فجر التاريخ. لكن عهود الاحتلال وما تبعها من أنظمة ثيوقراطية ظالمة ومتخلفة تظافرت معاً لقهر منعة القبيلة والسطو على أعرافها النبيلة وبريقها التاريخي لتجعل منها عبئاً اجتماعياً لتكريس مظاهر التخلف والعصبية العمياء.
وبانبثاق ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م اصطدمت المفاهيم الثورية التحديثية مع الأعراف القبلية التقليدية الرافضة لأي تغيري أو عبور إلى المعاصرة، وفي نفس الوقت وقفت مصرة على التبؤ بنفوذ سلطوي في دوائر الحكم السياسي، ضاغطة بكل ما أوتيت من قوة تسليحية وعددية ووجاهة في الوسط الاجتماعي..
ومن هنا شقت طريقها إلى الساحة السياسية ولعبت أدوارها المرسومة بكل وسائلها البدائية، وأمست مصدراً لزعزعة الاستقرار الوطني وإثارة مخاوف النظام الحاكم. فالعديد منها لم يصمد أمام بريق الريال السعودي وأصبح أداة المملكة للضغط على صنعاء، علاوة على تحالف البعض مع المليشيات الجنوبية في مناطق الأطراف على الحدود التشطيرية من غير تقدير سليم لخطورة ما تم الإقدام عليه. لاشك أن الأنظمة السياسية التي تداولت الحكم في صنعاء كبت في احتواء التأثير القبلي، والحد من سلطة المشائخ في أروقة الدولة. وأن حتى من حاول تقليم أظافرهم وإقصائهم عن مراكز الحكم وجد نفسه بعد حين مضطراً للتفاوض معهم ومحاولة إرضائهم. وبما أن الرئيس علي عبدالله صالح لم يأت على أكتاف المشائخ فكان من المسلم به أن يصطدم بهذا الموروث الثقيل، ويضعه في الحسبان كتحدي أخر يقف في طريق البرنامج السياسي الوطني الذي كان يتصوره لمستقبل الدولة اليمنية يوم 17 يوليو 1978م.
ثامناً: وأخيراًُ فإن انتقال رئاسة الشطر الجنوبي إلى يد عبدالفتاح اسماعيل- زعيم الجناح الماركسي المتطرف- كان يعني حرباً في الطريق تهدف الإطاحة بنظام حكم صنعاء، لأن ذلك كان وسيلته الأولى للتغيير السياسي. خيارات الرئيس في أيامه الأولى عمد الرئيس علي عبد الله صالح إلى تجنب الإسقاط الحرفي لتجارب من سبقه من الرؤساء الجمهوريين، فلم يقتف آثار السياسات الانتقامية أو التصفوية لرموز القوى الوطنية، بل ذهب إلى انتهاج سياسات دفاعية بالدرجة الأولى ترمي إلى إعادة بناء كل الهياكل التي من حوله. فشرع أولاً بتأمين وحماية الدائرة الأولى في السلطة- أي الرئاسة- من مخاطر الصراع الإقليمي الذي أطاح بالأنظمة السابقة، ليكون تثبيت الأمن في هذا الموقع أساساً متيناً لانطلاقات متدرجة على سقف زمني مرحلي يكفل تأمين الأجهزة والإدارات الحكومية الأخرى، ومن ثم حماية البلاد التي ستصبح حاصل تلقائي لأسباب الاستقرار السياسي الذي ساد أجهزة الدولة ولبلوغ ذلك أختار الرئيس علي عبدالله صالح عناصراً ماهرة وموثوق بها من الأقرباء والأصدقاء والمعارف الموثوق بأخلاصهم لضرب طوق حول الحكم، ورسم الخطوط الحمراء حول أجهزته ودوائره الحساسة، والضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه تجاوزها. وكان من المهم جداً البدء بتلك الخطوة الاحترازية بعد أن بات جلياً حجم تغلغل واستشراء نفوذ الأطراف المعادية أو الطامعة بالسلطة إلى داخل دور الرئاسة والنيل من الزعماء في مكاتبهم الرسمية كما حصل للغشمي أو في غرف بيوتهم كما آلت إليه نهاية الحمدي وأخيه. كما أخذ الرئيس صالح يعيد تنظيم الأجهزة الأمنية والعسكرية بدءاً من الوحدات التي كانت متمركزة في قلب صنعاء وصولاً إلى أطرافها الخارجية، ويولي عليها أنصاره المخلصين ممن يمكن الاستناد إليهم، وبادر أيضاً باستدعاء بعض الرموز والوجاهات المعروفين بثقلهم السياسي والاجتماعي في الساحة اليمنية بقصد الاستفادة من خبراتهم أولاً، ومن مساحة نفوذهم ثانياً، بما يضمن المزيد من أسباب الاستقرار الداخلي والاطمئنان، ويمنح نظامه هامشاً أوسع من الحركة، والانطلاق منها فيما بعد لضبط المؤثرات الخارجية وتحجيمها وردع تدخلاتها في شئون السياسة اليمنية.
وفي الحقيقية أن الرئيس علي عبد الله صالح كان مضطراً إلى استهلاك مثل تلك الخطوات وغيرها كنتيجة للظرف الطارئ وحالة التوتر السياسية والانفلات الأمني التي حاكت خيوطه عدة قوى متداخلة مع بعضها سواء في الجهد الحركي أو العائد الرجعي من فتح الساحة اليمنية (الشمالية) أمام الأقطاب النافذة في المحيط الإقليمي.. لكن سياسة الرئيس علي عبد الله صالح لإدارة الأزمة كان من السهل التكهن بمرتكزاتها منذ اليوم الأول لتسنمه الحكم بأنها لن تستند إلى رهان عسكري مبكر يصفي من خلاله حسابات متراكمة مع أعرض جبهتين كانتا تطوقان نظام صنعاء، الأولى على الخط التشطيري الساخن، والثانية على امتداد الشريط الحدودي الشمالي مع المملكة العربية السعودية. فقد بدا الرئيس صالح عازماً على لملمة أطراف الوطن اليمني، وفرز أوراق اللعبة السياسية أولاً، وإصلاح أجهزته الداخلية التي طالما ظلت عرضة للتدمير المنهجي التلقائي في كل عهد مما سلف، متحاشياً السقوط في تجارب سبق أن استوعب دروسها، واستلهم عواقبها..
وإذا كان قد قبل بالحكم فذلك لأنه كان قد باشر تأسيس دعائمه الأمنية منذ ساعة وصوله إلى صنعاء من تعز، وشروعه في تنظيم التدابير الوقائية لأمن هياكل الدولة كما أتينا على ذلك في الفصل السابق. وعلى كل حال فإن الرئيس علي عبد الله صالح لم ينتظر الخطوب، بل عزم على الانطلاق بمسيرة البناء الوطني التنموي بقوة ملفتة للنظر. ففي أول بياناته السياسية بمناسبة العيد السادس عشر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وقف بمظهر الرجل الواثق تماماً من نفسه وإرادته السياسية يضع اللبنات الأولى لمؤسسة الدولة الحديثة بتدشينه العهد بالإعلان عن إنشاء المجالس البلدية في كل محافظات الجمهورية (تجسيداً لإرساء قواعد الديمقراطية الحقة) كذلك الإعلان عن دعم ورعاية حركة التعاون الأهلي للتطوير (تجسيداً لمبدأ هام من مبادئ الثورة، ولإيماننا بأنها تمثل أروع صورة للمبادرة الشعبية والمجهودات الوطنية..).
وأكد في خطابه أيضاً على توجهاته لقيادة البلد على مسار التحولات الديمقراطية كمنهج أساسي يميز أدوات بناء المرحلة القادمة: (موجهين كل اهتماماتنا نحو التنمية وإرساء قواعد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة الحديثة، دولة العدل والنظام..). ومن المدهش حقاً أن الرئيس علي عبدالله صالح، وبالرغم من كل الهموم الوطنية والفترة الحرجة التي كان يمر بها البلد اجتهد في لفت عنايته المادية لأبناء شعبه من خلال انتهازه المناسبة لوضع حجر الأساس لمشروع إنشاء مساكن شعبية للمواطنين لتخفيف معاناتهم، علاوة على أن شهر سبتمبر شهد إقامة مشروع التغطية الإرسالية لمناطق صنعاء وذمار وإب وتعز والحديدة وحجة، بثماني محطات إرسال يتبع كل محطة ثلاثة مولدات كهربائية كبيرة. إلاَّ أن الموقف الذي نمّ عن سعة الخبرة السياسية للرئيس واستقرائه الواضح للإحداث وقدرته على التحكم بقوانين اللعبة السياسية هو المغازلة الصريحة للمملكة العربية السعودية في بيانه السياسي بذكرى عيد الثورة، والذي أراد به تمهيد السبل لتوطيد علاقة إيجابية مع المملكة بتعبيره عن الامتنان لمواقفها مع اليمن، ومن جهة أخرى لتطمين السعوديين إلى جانبه وتوجهه السياسي: "يطيب لي أن أشيد – بكل تقدير وعرفان- بالمساعدات التي قدمها ويقدمها لنا كل الأشقاء، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية..).
ثم يضيف في موضع آخر من الخطاب: "سنسعى جاهدين – كما هو مرسوم في سياستنا- لإعادة التضامن والتلاحم والوفاء العربي إلى مجراه الطبيعي..". من المؤكد كان ذلك مناورة ذكية ومبكرة لحيازة استعطاف الجانب السعودي ودعمه لنظامه في وقت كان فيه الرئيس واثقاً من وجود نوايا عدوانية من نظام عدن تتربص به الدوائر. وذلك ما يفسره الهجوم الإعلامي الصاخب الذي حمل به الرئيس صالح على نظام الشطر الجنوبي ومليشيات الجبهة القومية التي وصفها بعبارة "عصابات السوء الفاشية الملحدة المتسلطة.." ثم حذر "الشرذمة المتربعة على كراسي السلطة في عدن من مغبة وخطورة استمرارها في اللعب بالنار..".
وهكذا استهل الرئيس صالح عهده بتطلعات كبيرة واعدة ومشاريع خدمية، ومحاولة جادة لإحلال السلام الإقليمي مع جارته السعودية.. ولم يمض الرئيس في الحكم سوى سبعين يوماً لا غير. ويمكن القول أن الأيام القليلة الماضية من عهد الرئيس علي عبد الله صالح تميزت بصياغاتها التفاعلية السريعة مع الواقع السياسي إلى جانب حرص شديد من القيادة لممارسة مسئولياتها داخل أطر حذرة نسبياً رغم كل ما أحاطت به نفسها من احتياطات أمنية.
لكن فداحة النكسة السياسية التي مر بها الوطن اليمني، ودهاء الخصوم في إحداث اختراقات مفاجئة في سياج السلطة زعزع درجات الاطمئنان وترك هامشاً عريضاً من الحذر واليقظة تتحرك على محدداته رئاسة الدولة. لكن – بشكل عام- كانت البداية متوازنة إلى حدٍ ما، وتنم عن وعي قيادي مسبق لحقيقة ما يجب عليه. فالرئيس علي عبد الله صالح استطاع خلال سبعين يوماً فقط من حكمه أن يؤكد ما يلي:
• منعة المقرات السيادية للدولة وحصانة رموزها القيادية من خلال الطوق الأمني الذي شيده حولها من المقربين المخلصين، وأن كان ذلك سيتخذ لاحقاً مفهوماً مؤولاً من قبل بعض ا لقوى على أنه قولبة احتكارية للسلطة تجعلها محصورة في أيدي ذوي الرئيس إلا أن لا خيار كان أمام الرئيس لتوطيد أمن الحكم واستقرار ساحة البلاد وتجنيبها المنعطفات السياسية الحادة غير أن يمارس اللعبة السياسية على طريقته الخاصة، والقواعد التي تكفل له قهر إرادة خصومه المتوغلين في كل مكان.
• كانت سياسته في تلك الأيام القليلة تنبئ بتوجهات عقلانية رصينة لا تأبه لسطوة السلاح والتصفيات لمراكز القوة الاجتماعية والرموز المشائخية وغيرها ممن كان يتطلع لإدارة سياسية رئيسية، بل إنه كان حتى اللحظة التي نحن بصددها مجتهداً في فتح أبواب الحوار والتفاهم معها، ومن غير تجاهل أو تهميش لأي منها.. وذلك أمر لو قارنّاه مع بدايات سلفيه الحمدي والغشمي لوجدنا بوناً شاسعاً يميز المرحلة ويضع تفسيراً مفهوماً للكثير من العلاقات والتطورات التي ستشهدها الأشهر القليلة القادمة.
• بدأ الرئيس أكثر تطلعاً وشهية للانفتاح الخارجي والاستفادة من وضعه الإقليمي في الجزيرة العربية، وإعادة التوازن الدولي في المنطقة. وهو ما يمكن فهمه من خطابه السياسي في 26/9/1978م الذي خصص منه حيزاً يفتح فيه قلبه للمملكة العربية السعودية، وحيزاً أكبر لتمهيد سبل العلاقات الخارجية الدولية على أطرٍ متوازنة وبعيدة عن أقطاب الصراعات الدولية، وتجسدت تلك الإشارة بقولة: ".. وعلى تجنيب كل قطرنا اليمني ويلات الحرب والدمار، والحيلولة دون وقوعه في شراك الصراع الدولي الذي تجري ممارسته على حساب الشعوب الصغيرة النامية..).
• كشف الرئيس عن هوية فكره السياسي الوطني في زمن مبكر من عهده من خلال الأولويات التي حملت مشروع الديمقراطية على أساس إنماء ثقة سريعة بقيادته السياسية بتأميل القوى الوطنية بفرص المشاركة الفاعلة في صنع القرار السياسي للدولة.. خصوصاً وأن ذلك جاء مقترناً بإعلانه عن إنشاء المجالس البلدية في كل محافظات الجمهورية والذي اعتبره الرئيس صالح بمثابة المنجز الجديد جداً الذي يستحق جعله "هدية" بمناسبة أعياد الثورة.
ومما سبق – فإننا لا نشك أبداً بأن تلك البداية، رغم زمنها القصير، كانت استهلالاً واعداً بقوة بحقبة تاريخية أفضل في نظر الكثير من القوى الوطنية والشرائح الاجتماعية المختلفة.. وتولدت خلالها مناخات من الاستعداد النفسي للتفاعل مع البرامج السياسية للرئيس الجديد ودخول التجربة بحذر أقل. وقد ترجم مجلس الشعب هذه الحقيقة بأن منح الرئيس علي عبد الله صالح رتبة عقيد امتناناً لما بذله من جهد في حماية الوطن في المرحلة الحرجة التي أعقبت اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي.. وصدر قرار الترقية إلى رتبة عقيد في يوم 26 سبتمبر 1978م متزامناً مع احتفالات الشعب اليمني بالذكرى السادسة عشر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر. وبذلك صار الرئيس علي عبد الله صالح الرجل الوحيد الذي يحمل هذه الرتبة بعد إيقاف كل الرتب العسكرية في الجمهورية العربية اليمنية من رتبة مقدم فما فوقها على رتبة مقدم حتى تتحسن الأوضاع المالية للبلاد.
الرئيس صالح ومغامرة السلطة:
تحديات العام الأول
نزار خضير العبادي لا شك أن سنوات الاضطراب السياسي وما رافقتها من أحداث دامية، وتصفيات عنيفة لم تكن تستهدف إلا شل إرادة النظام السياسي في صنعاء، وتفتيت مؤسساته للحد الذي تصبح الساحة مهيأة لأي عمل مضاد للانقضاض على مقاليد الحكم، وربما كانت مسألة تأمين أي سلطة جديدة تبدو في غاية الصعوبة، وهو الأمر الذي كان متوقعا أن تستغله القوى الطامعة بالحكم في وقت مبكر من عهد الرئيس الحديث العهد قبل التقاطه أنفاسه.
فلم يهنأ الرئيس على عبد الله صالح كثيراً بالصورة التي زهت في ذاكرته وهو يحتفل بالعيد السادس عشر للثورة السبتمبرية بعد أن ظن البعض يوم اغتيال الغشمي أن أحداً لن يتذكر يوم 26 سبتمبر بعد تلك اللحظة.. فمع أن الترقية التي حظي بها من قبل مجلس الشعب التأسيسي عبرت عن إحدى صيغ الهيمنة السياسية لسلطة الرئيس التي شقت طريقها إلى قرارات المجلس بزمن قصير، ومع إنه واظب على الاحتفاظ بالهامش الحركي الحذر الذي تتعزز القناعة بضروراته في ظل استمرار النشاط العدواني على الحدود مع الشطر الجنوبي.. إلا أنه لم يكن يتوقع أن تتطور الأمور بالسرعة التي آلت إليها بعد أسبوعين فقط من إحياء ذكرى الثورة السبتمبرية.
ففي يوم 13 أكتوبر 1978 م أعلن الرئيس عبدالفتاح إسماعيل عن تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، وتولي أمانته العامة. وكان ذلك يعني إرساء مشروع سلطة في الجنوب تشبه إلى حد التماهي صورة السلطة في الاتحاد السوفيتي، منطلقاً من دوافع ثورية أمينة لمعتقداته والتزامه الأيديولوجي، وبالتالي تحوله إلى محور لكل السلطات، تنضوي تحت عباءته كل القوى السياسية والتنظيمات العاملة في ساحة الشطر الجنوبي مع إمكانياتها المادية والبشرية.
ومثل هذه الخطوة ستحمله على التصميم أكثر على المضي بتنفيذ تصوره لمستقبل اليمن والقاضي بأحداث ثورة جذرية تطهر بالدم والعنف المجتمع اليمني، شمالاً وجنوباً، من بناه التقليدية -خاصة وأن الرأي الذي ساد الساحة الجنوبية يذهب إلى إمكان إسقاط النظام الشمالي للرئيس على عبد الله صالح إذا ما تدخل الجيش الجنوبي لإسناد (المقاومة)، الجبهة الوطنية الديمقراطية المسلحة.. وكان من المؤكد أن يدفع هذا التطور بالرئيس علي عبدالله صالح إلى رفع درجة اليقظة والحذر، والإنذار باحتمال قرب وقوع حرب حتمية، على قوات الرئيس علي عبدالله صالح والاضطرار لخوضها، وعلى قواعد وتوقيت نظام عدن.. وهو ما ستقودنا إليه أحداث شهر فبراير 1979م.
وإذا كان الإعلان عن ولادة الحزب الاشتراكي اليمني قد مثل تأويلاً معقداً للظرف السياسي ربما سيضاعف من معاناة الرئيس علي عبدالله صالح، فإنه وبعد يومين فقط من ذلك كان على موعد مع المفاجأة الأكبر، والاختبار الأصعب الذي حاول إعادة خلط الأوراق السياسية وقلب معادلاتها في صنعاء، واعتبره المراقبون – آنذاك – صدمة مفاجئة وتحدي صارخ وفريد من نوعه استطاع أن يزن طبيعة الثقل السياسي الحقيقي لنظام الرئيس علي عبدالله صالح. ففي يوم 15 أكتوبر 1978 م أقدم ضباط ينتمون إلى التنظيم الوحدوي الناصري (جبهة 13 يونيو – السرية) على تنفيذ محاولة انقلابية للإطاحة بنظام الرئيس علي عبد الله صالح والاستيلاء على السلطة في صنعاء، تدعمهم المدرعات والمشاة والشرطة العسكرية بقيادة عيسى محمد سيف – زعيم الحزب الناصري، في الوقت الذي كان فيه الرئيس يقوم بزيارة داخلية لمحافظة الحديدة.
وفي الحقيقة، إن الناصريين لم يتحولوا إلى قوة سياسية مؤثرة إلاّ بعد حركة 13 يونيو 1974م، حيث أخذت بالانفتاح على الحكم للمرة الأولى -وتمكنت وفقاً لما تذكره أدبيات التنظيم الناصري- من استقطاب مراكزاً جيدة في الجيش ومؤسسات الحكم المدنية. ولم يكن بمقدور أحد التأكد فيما إذا كان الحمدي قد انتمى للتنظيم بقناعة فكرية أم بحثاً عن قوة تدعم نظامه، وتمثل واجهة لانتمائه إلى المؤسسة العسكرية رغم وجود الشواهد التي تبرر لنا ترجيح الاحتمالين معاً.
تلقى الناصريون ضربة سياسية قوية جداً بمقتل الرئيس الحمدي في 11/10/1977م، واتهموا الرئيس الغشمي بذلك متوعدين بالانتقام. وتشكلت جبهة 13 يونيو للقوى الشعبية كجناح حركي سري يعمل من أجل تمكين الناصريين من بلوغ السلطة بعد الإطاحة بالنظام القائم، وسعى قادة الجبهة لاستغلال العلاقة الوطيدة بين الحمدي والزعيم الليبي معمر القذافي وللحصول على دعمه، فتعهد القذافي بدعم وتمويل أنشطة جبهة 13 يونيو. فحدث أن صعّد الضباط الناصريين من أنشطتهم داخل الجيش وفي فبراير 1978 قاد الرائد مجاهد الكهالي حركة تمرد وعصيان سرعان ما تم إخمادها بحملات مشتركة من قبل قوات الأمن الداخلي، ووحدات عسكرية بقيادة نائب رئيس هيئة الأركان العامة.
لا شك أن الناصريين كانوا قد أصبحوا قوة فاعلة، خصوصاً في الجيش، وأن انهيار الأوضاع السياسية لنظام الغشمي كان يتيح لهم فرصة اتخاذ قرار الانقلاب العسكري على السلطة الحاكمة وتحين الوقت المناسب للتنفيذ.. لكن غيرهم كان الأسبق لاغتيال الغشمي وإنهاء عهده.
في الفترة التي أعقبت اغتيال الغشمي أخذ الناصريون يرسمون سيناريو جديد للمرحلة القادمة، لعبت الأقدار في رسم ملامحه دوراً كبيراً.. فبعد أن أقدم علي عبد الله صالح على مفاجأة كل القوى السياسية، ومنذ اليوم الأول، بالانقضاض على مراكز الحكم، ونشر قوات موالية له يثق بها حول تلك المراكز القيادية والأمنية لحمايتها، وبذلك الإجراء فوّت على الناصريين فرصتهم الذهبية في مباشرة مخططهم الانقلابي الذي كان قد اتخذوا قرارهم فيه بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي – بحسب ما تؤكده بعض القيادات الناصرية حالياً.
تعامل الناصريون مع الوضع الجديد بحذر شديد في بادئ الأمر، حتى إذا ما لاح لهم أن المقدم علي عبد الله صالح هو الأوفر حظاً من سواه في الفوز بكرسي الرئاسة راود الكثير من قيادات التنظيم الإحساس بإمكانية استقطاب الرئيس علي عبد الله صالح في الصف الناصري، واحتوائه على غرار ما كان عليه وضع الرئيس الحمدي.
ومع أن علي عبد الله صالح لا يمتلك الخلفية الحزبية القومية التي كانت لسلفه مع حركة القوميين العرب، أو غيرها إلاّ أن الظرف بدا للتنظيم مماثلاً، ويستدعي استناد الرئيس الجديد إلى قاعدة جماهيرية تجلي صورته في الساحة،وتدعم سياساته، خاصة وإن عيسى محمد سيف زعيم التنظيم كان يرى في العلاقات الشخصية الواسعة للمقدم علي عبد الله صالح مع عناصر التنظيم، بحكم سنوات عمله في تعز الموصوفة بقلعة الناصريين، مشجعة لتبني الفكرة والاستحواذ على فؤاده قبل أن يتمكن منه الآخرون.. وهو الأمر الذي يفسر انضمام الناصريين إلى المظاهرات التي خرجت في تعز وإب لدعم ترشيح المقدم علي عبد الله صالح للرئاسة آنذاك، بل أن من القيادات الناصرية من يعترف بذلك ويذهب إلى القول: "إننا نحن الذين حركنا المظاهرات في تعز لدعم ترشيح الرئيس صالح..." ويضيف إلى ذلك: " إن المظاهرات التي نفذناها في تعز كانت نتيجة تعميم وصلنا من الزملاء في مجلس الشعب – عبد الله سلاّم- وآخرين والقاضي بدعم الرئيس علي عبد الله صالح، وقد شكل الناصريون وفداً عسكرياً لزيارته لحسم ترشيح الرئيس كمرشح للجيش..."
الكتاب بالكامل