صراع الجواسيس وعودة الحرب الباردة
الجمعة, 24-مايو-2013
الميثاق إنفو -
هل يعيش العالم في الآونة الأخيرة لاسيما على صعيد العواصم القطبية المتنفذة، مثل واشنطن وموسكو وبكين، حالة من حروب الجاسوسية التي تشي بأن الحرب الباردة قد عادت تخيم على سماوات العلاقات الدولية مرة جديدة؟
يعنّ لنا بداية أن نذكّر بأن مصطلح الحرب الباردة قد ظهر أول الأمر في منتصف الأربعينات من القرن المنصرم، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وظل سائداً حتى أواخر الثمانينات، وقد كان الصراع وقتها بين موسكو وواشنطن هو المرأة العاكسة لتلك الحرب، فيما كانت الجاسوسية هي الأداة الأهم والأخطر المستخدمة فيها .
الشاهد أن الروايات التاريخية عن تلك الفترة كثيرة، ومنها ما أشارت إليه صحيفة “برافدا” الروسية، بشأن حروب التجسس التي بدأت من قبل الأمريكيين وأجهزة استخباراتهم قبل موت هتلر بسنة واحدة، حيث تمكن الأمريكيون في منتصف الأربعينات أو قبلها بقليل الاطلاع على 2900 برقية دبلوماسية سوفييتية، وذلك بفضل آلة فك الشفرة الألمانية التي أطلق عليها “السمكة السيف”، وقد ظل الأمريكيون يحللون ويفكون الوثائق الروسية إلى أن حان ما يسمى بيوم “الجمعة السوداء” من عام ،1948 حيث غيّر الروس شفرتهم وبدأ زمان الستار الحديدي، فكان لا بد للعنصر البشري الأمريكي من أن يقوم بأعمال التجسس بنفسه وحتى الساعة .
والثابت أنه طوال العقود الستة الماضية لم تنقطع أبداً عمليات التجسس المتبادلة بين الروس والأمريكيين، وقد ظهرت الصين على مسرح الأحداث أخيراً باعتبارها القطب القادم والمرشح لمنازلة القطبين السابقين أي موسكو وواشنطن، وبدا أيضاً أن الصينيين لديهم صولات وجولات في حرب الجاسوسية، ما يعني أن الحرب الباردة هذه المرة ثلاثية الإضلاع وليست ثنائية فحسب . . ما الذي دعا إلى فتح هذا الملف من جديد؟
مؤكد أن فضيحة إلقاء هيئة الأمن الفيدرالية الروسية (أف إس بي) القبض على السكرتير الثالث في السفارة الأمريكية في موسكو “رايان سي . فوغل”، بتهمة القيام بأنشطة تجسس على الأراضي الروسية هو السبب المباشر في تلك العودة لفتح هذا الملف وإعادة قراءته .
وباختصار غير مخل لأبعاد القضية فقد أعلنت روسيا أنها أوقفت عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وبحوزته أجهزة تقنية خاصة، وإرشادات لمواطن روسي سعى إلى تجنيده مقابل مبلغ مليون دولار سنوياً، وأن الموقوف نقل إلى مقر جهاز الأمن الاتحادي قبل أن يسلم للسفارة الأمريكية في موسكو، بسبب الحصانة الدبلوماسية المتمتع بها، وقبل أن يطلب إليه مغادرة البلاد رسمياً بوصفه “شخصاً غير مرغوب فيه” .
على أن المثير في الأمر هو حدوث تلك العملية في وقت يزداد التقارب الروسي الأمريكي تجاه قضايا عدة جوهرية حول العالم، وقد أشارت مصادر في جهاز الأمن الاتحادي الروسي (كي جي بي سابقا) إلى أنه “في الفترة الأخيرة سعت الاستخبارات الأمريكية تكراراً إلى تجنيد متعاونين في صفوف قوى الأمن والأجهزة الروسية الخاصة .
هل كان هذا المشهد التجسسي فقط هو ما يقودنا إلى القول إن الحرب الباردة قد عادت من جديد بين موسكو وواشنطن؟
بالقطع كانت هناك مشاهد سابقة وأن لم تحظ بذات القدر من الضجيج الإعلامي ومنها القريب جداً، فقد جرى في إبريل/ نيسان الماضي أن منعت روسيا ثمانية عشر مسؤولاً أمريكياً من دخول أراضيها رداً على نشر لائحة في الولايات المتحدة بأسماء ثمانية عشر شخصاً فرضت عليهم عقوبات اقتصادية أمريكية للاشتباه بضلوعهم في وفاة القاضي “سيرغي مانيتيكسي” في السجن .
ولعل القارئ المحقق والمدقق للاتهامات المتبادلة اليوم بين الروس والأمريكيين يدرك كيف أن الأولين باتوا يستخدمون نفس الميكانيزمات الأمريكية وأساليب الدعاية ذاتها التي تتشدق بها أمريكا حول العالم، ففي البيان الروسي الذي تضمن الثمانية عشر اسماً الأمريكية كان النص على أن “هؤلاء متورطون في انتهاكات لحقوق الإنسان، وأنهم ضالعون في تشريع التعذيب والاعتقالات مدى الحياة في سجن غوانتانامو، وصولاً إلى اعتقال وخطف مواطنين روس”، كيف كان رد الفعل الأمريكي في حرب الجاسوسية المستعرة؟
في بداية الأمر بدا وكأن الخارجية الأمريكية قد امتنعت عن التعليق على فضيحة التجسس الجديدة، إلا أنه لاحقاً تحدث “باتريك فينتريل” المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأن واشنطن تدرس مسألة طرد دبلوماسي روسي رداً على إعلان “رايان فوغل” شخصية غير مرغوب فيها، وهذا يعني بتحليل بسيط للمشهد أن الروس أيضاً لهم جواسيسهم على الأراضي الأمريكية، وكما أن أجهزة الاستخبارات الروسية كانت تراقب “فوغل” منذ عامين فإن الأمريكيين بدورهم يفعلون المثل، ويحتفظون بأوراق احتياطية لتفعيلها حال حدوث القارعة، كما جرى الأمر بالفعل أخيراً .
ومما لاشك فيه أن الحديث عن صولات وجولات الجاسوسية بين واشنطن وموسكو طويل ولا يمكن تضمينه في مقال سريع، غير أن الجديد والغريب بل الأكثر إثارة اليوم في عالم التجسس والحرب الباردة هي المواجهة الاستخبارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت بدورها تأخذ شكلاً حقيقياً من أشكال الحرب الباردة في إطار لبسط الهيمنة والنفوذ الاستراتيجيين حول العالم . . ماذا عن ذلك؟
في واقع الأمر جاء التقرير الأخير الذي صدر عن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أوائل شهر مايو/ أيار الجاري ليحمل بشدة على الصين ويتهمها بأنها تتجسس إلكترونياً على برامج الدفاع التابعة للحكومة الأمريكية .
التقرير الذي يوصف بأنه خطير بالفعل، أكد أن الصين تستخدم وسائل التجسس للحصول على تكنولوجيات لتغذية برنامجها للتحديث العسكري الذي يسير بخطى سريعة، ويذهب التقرير إلى القول إن تنصت الصين على الشبكات الإليكترونية يمثل قلقاً جدياً يشير إلى تهديد أكبر، لأن المهارات المطلوبة لهذه الاختراقات مماثلة لتلك الأزمة من أجل شن هجمات على شبكات الكمبيوتر .
لماذا تحتاج الصين للتنصت والتجسس وسرقة آخر أبحاث الدفاع الأمريكية؟
بسبب صريح، أنها تسعى للقطبية من دون صخب إعلامي كما في الحالة الأمريكية، وهو ما يتضح جلياً من خلال متابعة التطورات العسكرية الصينية الأخيرة، حيث تسعى بكين بدورها لتطوير طائرات ستيلث (الشبح) المتقدمة تكنولوجيا، عطفاً على بناء أسطول من حاملات الطائرات لتوسيع نفوذها العسكري في أعالي البحار .
والثابت أيضاً بحسب التقرير الأمريكي أن جاسوسية الصين ذات بعد مزدوج، فهي جاسوسية عسكرية واقتصادية في الوقت نفسه، إذ يؤكد التقرير الذي صدر في 83 صفحة ورفع إلى الكونغرس الأمريكي أن “جهات صينية هي الأكثر نشاطاً واستمراراً في العالم في أنشطة التجسس الاقتصادي، وأن المحاولات الصينية لجمع معلومات تكنولوجية واقتصادية ستتواصل على أعلى مستوى وستمثل تهديداً متزايداً ومستمراً للأمن الاقتصادي الأمريكي”، هل يعني ذلك أن أمريكا بدورها لا تتجسس على الصين؟
حكماً أنها تتجسس على الصين وروسيا بل وعلى أصدقائها الأوروبيين الذين تحدث بعضهم جهاراً في البرلمان الأوروبي، فقد كشفت صحيفة “التايمز” البريطانية منذ فترة عن أحد المشروعات الأمريكية العملاقة للتجسس على العالم برمته وبتكلفة خيالية من مليارات الدورات ويعمل عليه الآلاف من العلماء الأمريكيين منذ بداية العام 2001 في هدوء وسرية، وهو عبارة عن شبكة جديدة مترامية الأطراف من أقمار تجسس صناعية تمكن الولايات المتحدة من مراقبة كل أركان الكرة الأرضية بدقة بالغة على مدار اليوم، ما يعد أكبر مشروع تجسس مخابراتي في تاريخ العالم الحديث .
يبدو للمحلل السياسي أن الأثر الذي تركته الأزمة السورية بات يتجاوز منطقة الشرق الأوسط أو الخليج العربي، وأن أحد أهم تبعات واستحقاقات تلك الأزمة يتجلى في فصل مستجد من فصول الحرب الباردة، فالسفن الحربية الروسية التي تحركت إلى شواطئ سوريا، وشحنات الصواريخ الحديثة إلى دمشق، وفي مقابل الأساطيل الأمريكية التي تجري مناورات في مياه الخليج العربي تعكس ملمحاً وملمساً بارزين لتلك الحرب التي يحاول الساسة أن يجدوا لها مخرجاً سياسياً، هل لهذا تحدث جنرال جهاز الأمن السوفييتي (كي .جي .بي) “كونداوروف”، مشيراً إلى أنه ربما يكون الهدف من مهزلة فضح الجاسوس فوغل تحويل الأنظار عن عملية خطرة يجريها الأمريكيون الآن في موسكو في سياق تلك الحرب؟
يلفت النظر إلى أن روسيا باتت محك للمسؤولين الأمريكيين مثل جون كيري، والبريطانيين مثل دافيد كاميرون، و”الإسرائيليين” في شخص بنيامين نتنياهو، ما يطرح علامة استفهام حول ما يجري هناك بالفعل؟
مهما يكن من أمر فإن ما يجري على الصعيد الدولي هو إعلان حقيقي لحرب عالمية باردة ثلاثية الإضلاع وقابلة بالفعل في لحظة ما لما هو أزيد وأضر .
*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.
|