أمريكا في القرن الحادي والعشرين:أن تعيش لِتُُهَيمِنْ!
الخميس, 03-يناير-2008
محمد سيف حيدر - عنوان الكتاب : الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين. تأليف : أناتولي إيفانوفيتش أوتكين. ترجمة : أنور محمد إبراهيم ومحمد الجبالي. الناشر : المجلس الأعلى للثقافة (القاهرة). سنة النشر : 2003.
هذا الكتاب كما يذكر مؤلفه أناتولي أوتكين، العالم الروسي البارز في مجال الدراسات الأمريكية، وكما هو واضح من عنوانه، مُكرّس "لتقييم الإستراتيجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين"، وذلك من منظور باحث روسي يقلقه وضع ومكانة بلاده في عالم ما بعد الحرب الباردة الذي تعد الأحادية القطبية من أبرز مزاياه. ومن ثمّ فإن هذا التقييم يركز -بشكل أساسي- على تحليل أسس الاستراتيجية الأمريكية وموقع روسيا في هذا الإطار من نواحٍ عدة: العلاقات الثنائية، الدور الإقليمي لروسيا والقضايا الإقليمية المتعلقة بهذا الدور، المحور الأطلسي ومشكلات التحالف، التنافس في آسيا، والإشكاليات الجوهرية المتعلقة بديمومة الزعامة الأمريكية في المنظومة العالمية. يرى المؤلف أن الولايات المتحدة، على الرغم من انتصارها الواضح في الحرب الباردة، والذي كان من المفترض أن يلقي عن كاهلها عبء القيام بدور الشرطي العالمي الذي تركزت مهمته الرئيسة في مواجهة "عدوانية" روسيا السوفيتية، غير أن هذا لم يحدث. ولم يخلق زوال الاتحاد السوفيتي من الوجود لدى واشنطن تحولات مشابهة؛ فالولايات المتحدة لم تغلق حلف الناتو، ولم تسحب وحداتها من ألمانيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان، ولم تعد إلى سواحلها الأساطيل المتحكمة في بحار العالم، ولم تخفض ميزانيتها العسكرية، كما أن هذه الدولة التي تعترف بنفسها أنه لا يوجد من يهدد وجودها، وإن باغتها بعض المتعصبين بضربات قاسية في عقر دارها، تمتلك شبكة جبارة من القواعد في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. وإذا كان من الصعب إعادة تقييم إمكانات القوة لدى الولايات المتحدة، إلا أنه يمكن ببساطة القول أن أمريكا في الوقت الراهن تؤثر تأثيراًً بالغاً في السياسة الدولية، أكثر من أي دولة أخرى في التاريخ، وحتى أكثر المتشائمين تحفظاً، كما يشير المؤلف، يعترف بأن الظروف المواتية على نحو لا يوصف تضمن لأمريكا عشرين عاماً من الزعامة دون جدال. ولا يملك أحد من علماء المستقبليات أن يتنبأ بما سيحدث لاحقاً، ولكن لا يوجد أساس للتشكيك في أن القرن الحادي والعشرين وليس الذي قبله، هو بحق قرن أمريكا. وفي هذا السياق، يستعرض المؤلف آراء العديد من المفكرين الأمريكيين كدافيد كاليلو ومايكل أوهانلون وتشارلز كرواتهامر وجوزيف ناي الذين أدركوا "الأحادية القطبية لعالم الغد" وما فتئوا يؤكدون حتمية وضرورة القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد. وبغض النظر عن هذه التحليلات والمقولات المغرقة في حتميتها، يذهب المؤلف إلى أن ثمة أمر واحد على أقل تقدير أضحى واضحاً، وهو أنه بدءاً من ظهور الولايات المتحدة على العالم بشكل حقيقي في عام 1942 لم يكن هناك أحد في هذا الكوكب بإمكانه بالفعل أن يقف في مواجهتها، وبالتالي أن يقف في وجه استراتيجيتها المحددة والحاسمة، والتي كانت تمتلك مزية البساطة ووضوح الهدف الذي تمثل في: "الهيمنة على العالم". لقد استخدمت هذه العبارة بشكل رسمي للمرة الأولى عام 1950 في الوثيقة الرئيسة للحرب الباردة والمعروفة باسم HCK68، ومنذ هذا التاريخ دأب آخرون –وعلى نحو أكثر دقة- في وصف هذه الاستراتيجية، التي كانت الحرب الباردة مجرد مشهد من مشاهدها. وهذا يعني ببساطة أن أمريكا كانت ستخرج، سواء في وجود الاتحاد السوفيتي أو من دون وجوده، إلى الفضاء الجيوبوليتيكي العالمي، ولم يكن اختفاء هذا الخصم العنيد الواضح ليغير من جوهر نظر أمريكا إلى العالم ودورها فيه. لقد أدرك الرئيس جورج بوش (الأب)، ومن بعده بيل كلينتون، هذه الحقيقة تمام الإدراك، وأكداها –قولاً وفعلاً- عبر العديد من السياسات التي هدفت في مجملها إلى الحفاظ على وضع الولايات المتحدة بصفتها الدولة العظمى الوحيدة و"التي لا يمكن الاستغناء عنها" بحسب التعبير الشهير لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة. ولكن ما الأدوات التي يستخدمها الأمريكيون من أجل تحقيق أهدافهم (يتساءل المؤلف)؟، ويجيب من خلال استعارة وزيرة الخارجية السابقة أولبرايت، التي تعدد هذه الأدوات على النحو التالي: "المنطق البسيط، الحوافز الاقتصادية، المساعدة الفنية، المعاهدات الجديدة، تبادل المعلومات، استخدام القوة، التهديد باستخدام العنف، المقاطعة، التهديد بالمقاطعة، وأي تركيب من الأدوات السابق ذكرها". أما فيما يتعلق بالمنافسين الأقوياء لأمريكا، فإن مادلين أولبرايت ترى من الضروري تحذيرهم: "إن زعماء العالم الذين يصرون على أن العالم ما يزال –أو يجب أن يستمر- متعدد الأقطاب، عليهم أن يراعوا أن دورهم الخاص ينبغي أن يتفق والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم... فالتحالفات الفعالة ليست خياراً، وإنما تأتي تحقيقاً لزعامة الولايات المتحدة الأمريكية". إن واشنطن تفكر في القرن الحادي والعشرين، عندما يصبح الصراع على الموارد الطبيعية أشد ضراوة، وعندما يتحول 60% من سكان المعمورة إلى سكان للمدن، وعندما تصبح 90% من نسبة زيادة السكان في العالم بسبب سكان العالم النامي، الساعي إلى تجاوز التخلف والقضاء على الأوبئة والانفجار السكاني. تبدو أمريكا كما لو كانت قد انتهت من حل مشكلات القرن المنصرم ولم يعد هناك شيء يثير قلقها أكثر من القرن الحادي والعشرين، بمعضلاته كافة، ولم تعد هناك دولة واحدة في العالم لا يحتدم فيها الجدل حول "المعركة من أجل المستقبل". وإذا كان دخول القرن الحالي، يعني للولايات المتحدة، بشكل رئيسي، ثبات الأحادية القطبية واستقرار لحظة هيمنتها على النظام الدولي، وهي الهيمنة التي تجد لها أنصاراً كثيرين بداخلها ممن يشعرون بالغبطة والرضا لهذا الأمر، غير أن المؤلف يلفت أنظارنا إلى أن هذا الشعور –في الحقيقة- لا يغمر الجميع في الولايات المتحدة، إذ أن الهيمنة الأمريكية –ببساطة- لا يمكن أن تستمر بلا نهاية. إن نصيب الولايات المتحدة في الإنتاج العالمي، وبالتالي تأثيرها العالمي، سوف يبدءان في التراجع حتى لو استمر الاقتصاد الأمريكي على حالته من الازدهار وهذا يعني بدوره: إن مرحلة الأحادية القطبية لا يمكن أن تستمر طويلاً. وفي هذا السياق، يشير أوتكين إلى وجود ظاهرتين تهددان زعيمة العالم–المحظوظة: تعاظم الطامحين إلى نيل لقب "الدولة العظمى"، وفقدان الاستقرار (الفوضى) في أهم مناطق العالم ذات الأهمية الاستراتيجية. واستطراداً، يُبين المؤلف أن تحديد هوية المنافسين المحتملين للولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، أصبح واحدة من المهام الرئيسية المطروحة أمام علم السياسة الأمريكي. وقد لقيت آراء الأمريكيين بشأن القدرات المختلفة للدول تأثيراً متبايناً؛ فها هو صامويل هنتنجتون أحد أبرز المواهب الأمريكية يلفت الانتباه إلى "صدام الحضارات"، بينما راح ب.تشويت وأ. لوتفاك يبحثان عن منطقة الصراع في التطور الآسيوي. أما س. إيمرسون فقد ركز جهده على قضية الإسلام الأصولي. وفي الوقت نفسه فقد رأى عدد كبير من المنظرين أن الصين الناهضة تمثل القوة العالمية الموازنة. ويؤكد ر. هاس أن التهديد لا يكمن في شخص بذاته، وإنما في اندفاع الأحداث وعدم القدرة على التنبؤ بالتطور العالمي. ويعتبر بريان إيتوود مدير وكالة التنمية الدولية إن الفوضى السائدة في العالم الثالث قد احتلت مكان الشيوعية باعتبارها التهديد الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية. وفي المقابل، يحدد أنطوني ليك مستشار كلينتون لشؤون الأمن القومي، المرشحين لدور الخصوم المحتملين على النحو التالي: "إنهم القوميون المتطرفون والمتعصبون القبليون والإرهابيون وأصحاب الجريمة المنظمة والمتآمرون، الذين لا يضعون اعتباراً لجيرانهم من الدول الأخرى، وكذلك كل من يود لو أن الدول التي نالت استقلالها قريباً عادت إلى ما كانت عليه". وبناءً على هذا التعريف الواسع للعدو المحتمل، فإن مقاومة هذا العدو واتخاذ إجراءات الضمان اللازمة تتطلبان عولمة السياسة الخارجية وفرض الهيمنة على كل مكان في العالم، ويتساءل رونالد ستيل: "من الذي لا يمكن اعتباره عدواً للولايات المتحدة الأمريكية على ضوء هذا التعريف الفضفاض للعدو المحتمل؟". إن عدداً قليلاً من أقطاب السياسة العالمية هم الذين يملكون قوة عسكرية واقتصادية وسياسية مشابهة. وبطبيعة الحال فإنه ليس بمقدور كل منافسي أمريكا أن يصبحوا مرشحين لأداء دور المنافس الحقيقي لها. إن قادة المؤسسة السياسية مقتنعون أن عالم المستقبل سوف يضم بين جنباته أربع دول فقط يمكنها، على ضوء ظروفها الملائمة، الخروج من دائرة الوصاية الأمريكية، وتوسيع نطاق نفوذها الخاص والتحول بذلك إلى مركز يتمتع بالاكتفاء الذاتي، وهذه الدول الأربع هي: ألمانيا (وإجمالي إنتاجها 2.2 تريليون دولار)، اليابان (4.3 تريليون دولار)، الصين (تريليون دولار)، روسيا (نصف تريليون دولار). وأياً كان الأمر، يشدد المؤلف على أن التاريخ يعلمنا أن الزعامة والهيمنة يولدان حتماً المقاومة. وهناك ثلاثة عوامل بإمكانها أن تجعل من أسس الجبروت الأمريكي أسساً قابلة للاهتزاز: أولاً: أنه ليس من طبيعة الدول ذات السيادة أن تضع أمنها في أيدٍ غريبة، وأن وجود قوة عظمى واحدة، في النتيجة، يحفز الخوف لدى الدول المحيطة، وأن أصدقاء اليوم ليسوا بالضرورة هم أصدقاء الغد، فالدول المستقلة تسعى لتأمين مستقبلها لا بإعلان نيتها على الملأ، وإنما بتقدير عوامل القوة الكامنة في الأفعال والسياسات. وإذا كانت النيات متقلبة فالقوة تظل دائماً على ما هي عليه. ثانياً: أن إصرار الأمريكيين على دفع ثمن مقابل بقاء الولايات المتحدة دولة عظمى (مادياً وبشرياً) يمكن أن ينتابه الضعف. فالدور العالمي –بطبيعة الحال- يتطلب إنفاقاً ضخماً للموارد، كما يتطلب تفاؤلاً وفعالية كبيرين، والأمريكيون عادة ما يشعرون بعدم الارتياح لكونهم متوحدين مع فكرة أن بلادهم تستغل مكانتها للتدخل في كل شؤون الدنيا، بهدف توطيد أمنها. وبشكل خاص فإن التدخلات العسكرية الأخيرة قد أظهرت بالفعل أن الشعب الأمريكي لديه الاستعداد لأن يدفع ثمناً محدوداُ فقط من أجل احتفاظه بالقوة المطلقة. إن لدور أمريكا العالمي ثمن، والمواطن الأمريكي ودافع الضرائب ليسا على استعداد لدفعه حتى ولو من أجل الهيمنة العالمية. لقد ولى الزمن الذي كان سقوط الضحايا فيه (كل الضحايا تقريباً) كان وراءه ما يبرره. ثالثاً: أصبحت بلدان العالم الثالث أكثر تمرداً ونزوعاً نحو التحدي، وخاصةً تلك التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل، والتي تسمح أحجامها ومؤشراتها الديموجرافية أن تطمح لاحتلال مكانة مهيمنة، ومن ثم فقد أضحت الخصم الرئيسي للوضع الراهن. ولكن، هل ستثني هذه العوامل الثلاث الولايات المتحدة من المضي قدماً في "مشروعها" نحو تسيد الساحة العالمية في القرن الحادي والعشرين. نستطيع أن نقول بثقة أنها لن تكبح جماح هذا المشروع؛ قد تبطئه أو تصيبه ببعض الارتباك لكنها بالتأكيد لن توقف التطلع الأمريكي إلى جعل القرن الحالي "قرناً أمريكياً" بامتياز، ومن ثم ستتركز الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين في تحقيق الأهداف التالية: أولاً: الحفاظ على موقع الزعامة العالمية التي تتمتع به الولايات المتحدة وتدعيم مكانتها كمساهم رئيس في الثورة العلمية التكنولوجية وقوة مسيطرة في منطقة شمال الأطلسي وشرق آسيا. ثانياً: تحاشي ظهور أي منافس تصعب السيطرة عليه (أو على الأرجح اتحاد من المنافسين) يمكنه مع حلول منتصف القرن الحالي أن ينتزع الصدارة في السباق العالمي من أيدي زعماء الغرب: الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا، ويؤسس عالماً جديداً يتخلف فيه الغرب ولأول مرة منذ خمسمائة عام عن مقعد الزعامة. إن الجدل العام المحتدم في أمريكا ونحن في مطلع الألفية الجديدة يعكس عظمة هؤلاء الذين وصلوا إلى القمر، إلا أنه يعكس أيضاً الشكوك المنطقية التي تساور من ينظر إلى مصير زعماء العالم السابقين عبر التاريخ الذين أنفقوا طاقاتهم وجهودهم الهائلة لتحقيق السيطرة على العالم، وعن شكوك في جدوى وإمكانية التأثير في هذا العالم الذي ينمو على نحو تسوده الفوضى. فهل الولايات المتحدة مستعدة لتحمل عبء التضحية أم أن الميل الطبيعي لتحقيق الذات والاستمتاع بملذات الحياة والمبدأ الأبيقوري سوف يقضي على قوة التقاليد المحافظة وإنكار الذات الذي تميز به الرواد ويمحو آثارهم في إخضاع القارة وتأسيس عالم جديد؛ هؤلاء الرواد والآباء المؤسسين الذي مثلوا طليعة التحول المادي والاجتماعي؟. إن السؤال الرئيسي هو سؤال الثمن، أي مدى الاستعداد للتضحية وإنفاق الثروات المادية وأرواح المواطنين الأمريكيين، فإلى أي مدى سوف تستمر الهيمنة الأمريكية المعاصرة، وإلى متى سيظل العالم تابعاً لهذا الزعيم. إن الشعب الأمريكي هو أول من يمكنه الإجابة على هذا السؤال..
|