"الجنائية الدولية" ومحاولات تركيع السودان
الأحد, 15-أغسطس-2010
الميثاق إنفو -
تظل المحكمة الجنائية الدولية، سيفاً مسلطاً على السودان، حتى إشعار آخر، ربما كان حل أزمة دارفور، أو استحقاق الاستفتاء الجنوبي للخيار بين الانفصال والوحدة، أيهما يأتي أولاً، سيكون هو الإشعار، وربما ظل بعده سيف الجنائية مسلطاً، لمزيد من تحقيق الأجندة، وطنية كانت أم إقليمية، دولية كانت أم أمريكية .
المحكمة الجنائية التي عرفها السودانيون، وربما كثير من الأفارقة والعرب، لأول مرة قبل سنوات قليلة عندما أطلقت إعلانها الداوي باعتقال الرئيس عمر البشير تحت تهم جرائم الحرب في دارفور، تحولت إلى وقود للخطاب السياسي، ومنذ ذلك التاريخ ظلت ديباجة في القاموس السوداني، لا يخلو منها خطاب رسمي أو شعبي، ولا يخلو منها تقرير صحافي أو أمني .
ولم تحظ المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام، لويس أوكامبو، بشهرة قبل إدخال الرئيس البشير في صدر قائمة مطلوبيها على مستوي العالم، كما لم يحظ رئيس من قبل بشهرة عالمية كما نالها البشير بفضل الجنائية نفسها . وطبيعة الأشياء ان تبدأ صغيرة وتكبر، عدا صدمة الموت والكوارث التي تبدأ كبيرة ثم تصغر رويداً رويداً، وهو ما حدث مع إعلان الجنائية الذي بدأ داوياً ثم قل الاهتمام الوطني والإقليمي والدولي به .
أسهمت الكاريزما الشخصية للرئيس عمر البشير، المنغمسة في سودانوية خالصة، إلى جعل الجنائية مطية لإثبات السيادة والقوة، ورفض التدخل في شؤون السودان الداخلية . بنفس القدر الذي أسهمت فيه أزمة دارفور المغموسة بشدة في محن ومرارات وقتل وتشريد لما يقارب الأعوام الستة، في تقوية ادعاءات المحكمة الجنائية، التي جعلت من الأزمة مطية للنيل من نظام البشير، ومن خلفها قوى دولية لا يستهان بها على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية .
العودة إلى المحكمة الجنائية وقرارها في حق البشير مراراً وتكراراً، في هذا التوقيت تفرضه الأحداث السياسية الجارية في السودان، والشاهد أن هذا البلد ومنذ أن أطلت أزمة دارفور برأسها، لم تمنحه الأحداث المتلاحقة فرصة التقاط أنفاسه، فما أن وقع اتفاقية سلام تاريخية بين الشمال والجنوب، حتى توالي عاصفاً كل ما من شأنه تحويل طعم السلام إلى مرارة .
المحكمة الجنائية ومن خلفها دارفور، أدخلا السودان إلى دهاليز مجلس الأمن الدولي من الباب العريض ولم يخرج حتى الآن من أضابيره وقراراته، وما بين غربه حيث دارفور وجنوبه بحكومته شبه المستقلة وشرقه بأحداثه ومطالبه التنموية، يظن المراقب ان السودان استولى على كل الاهتمام الدولي، رغم الأحداث الكبيرة التي تشهدها كل دول العالم يوماً وراء الآخر .
سيف المحكمة الجنائية، الذي يستل فور وقوع حراك سياسي سوداني إيجابياً كان أم سلبياً، تبدو إحدى شفراته حادة، وهي التي لم تستخدم حتى الآن، بينما الأخرى تحتاج إلى شحذ، وهي التي ظلت مسلطة على رقبة الرئيس عمر البشير، حيث يرى المراقبون في هذا السياق ان لويس اوكامبو لم يكن يتوقع أن يلقى قراره بكل هذه الظلال، فضلاً عن حيرته في ان يعيد السيف إلى غمده أم يبقيه مسلطاً دون استخدام .
السودان الذي امتص الصدمة سريعاً، وانتقل إلى مربع هجومي، أعلن أنه لا يعترف بهذه المحكمة وهو غير معني بما تصدره، مستنداً في رفضه على عدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في ما يدور في السودان الذي لم يوقع على ميثاق روما وليس مصادقاً عليه، وأكد أنه ليس من حق مجلس الأمن الدولي إحالة اتهام المحكمة ضد أي دولة ليست عضواً، لأنه إذا ما كان مؤهلا لذلك فإن من الأولى تقديم دول أخرى للمحاكمة لارتكابها جرائم ضد الإنسانية على رأسها “إسرائيل”، ووصف المحكمة بأنها أداء سياسة لإدانته، بالرغم من أن مجلس الأمن أرسل لجنة تقصي حقائق لا توصف ما حدث بأنه إبادة جماعية، وانتهت تحقيقاته .
وفي مقابل الخطاب الرسمي، رأى آخرون ضرورة معالجة الأمور دون تشنج أو تعصب، وإنما بطريقة هادئة تؤدي إلى ترتيب البيت السوداني من الداخل وخلق إجماع وطني، ودعوا الحكومة إلى التنازل عن العديد من القضايا الخلافية والاتفاق الوطني لحل قضية دارفور .
ومنذ ذلك الحين، موعد صدور أول قرار للمحكمة الجنائية، جرت مياه كثيرة، ولم يعان السودان من عزلة دولية مفترضة، بل توالت أحداثه السياسية، وأجرى انتخابات نادرة في ابريل/نيسان الماضي، وانتقلت أزمة دارفور إلى العاصمة القطرية الدوحة آخر محطات التفاوض حولها، واحدث الرئيس البشير نفسه اختراقات نادرة بالسفر إلى خارج السودان في زيارات تجاوزت المرات العشر، غير أن آخر زيارة له إلى تشاد كانت الأكثر وقعا، باعتبار تشاد عضواً موقعاً على ميثاق المحكمة الدولية، فضلاً عن العلاقات المتدهورة بين البلدين قبل ان تشهد تطوراً ايجابياً خلال الفترة الأخيرة .
فعلى الرغم من أن الرئيس إدريس ديبي زار الخرطوم في خطوة رئيسية ومفتاحية لتطبيع العلاقات بين السودان وتشاد، وقام بطرد الدكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة المسلحة التي غزت الخرطوم في وقت سابق، إلا أن رجال الرئيس البشير حذروه من زيارة أنجمينا، وساقوا -حسب مصدر في القصر الرئاسي، مبررات معقولة تمنعه من المجازفة بهذه الزيارة، الا أن الرئيس البشير أصر على الزيارة، وكسب الرئيس من وراء إصراره كثيرا، وحاز بسفره إلى انجمينا ومخاطبته مؤتمر تجمع دول الساحل والصحراء “س ص” تعاطفاً إفريقياً كبيراً، وحصل على دعم اتحادها الذي رفض اتهامات المحكمة الدولية ضد البشير جملة وتفصيلاً .
وحققت زيارة الرئيس البشير إلى تشاد هدفاً مهماً آخر، حين التقى بالرئيس الليبي معمر القذافي، وأجرى معه مباحثات ثنائية من جهة وثلاثية بانضمام الرئيس التشادي إدريس ديبي من جهة أخرى، باعتبارهما رئيسي دولتين حدوديتين مع دارفور، وتعدان مفاتيح مهمة لأي حل لأزمة دارفور . وسرعان ما أردف البشير محادثاته مع القذافي بزيارة إلى ليبيا، وخرج من هناك بضمانات قوية الا تشكل ليبيا أي عائق لجهود السلام في دارفور الجارية في الدوحة، فضلاً عن ضمان عدم قيام رئيس العدل والمساواة خليل إبراهيم بأي تحركات ضد السودان منطلقاً من ليبيا .
ومع الإنجازات التي يحققها البشير كلما شهر لويس اوكامبو سيف الجنائية ضده، وكسب مواقف الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية وعدد مقدر من الدول العربية والرأي العام الإقليمي المؤازرة لموقفه، بل حتى مواقف بعض أحزاب المعارضة تشد من أزره، الا أنه بالمقابل يحذر قادة سياسيون من مصادمة البشير للمجتمع الدولي ممثلاً في المحكمة الجنائية، ويشفقون من فوضى قد تحدث في البلاد إذا ما أصرت المحكمة الجنائية الدولية على قراراتها، خاصة أن القرار سيكون ملزما للسودان إذا صدر عن مجلس الأمن، ولخصت القوى السياسية الأمر في ضرورة وضع حل جذري لمشكلة دارفور يجنب البلاد الانزلاق إلى هاوية خطرة بسبب قرار المحكمة الدولية .
والحال كذلك، والسودان مقبل على استفتاء تقرير المصير بين شماله وجنوبه، دفع لويس اوكامبوا بتهمة جديدة ضد البشير، وهي الإبادة الجماعية، ومع ان القرار الأخير لم يجد نصيب الأسد الذي وجدته قرارات المحكمة السابقة، الا انه أيقظ من اعتقد أن المحكمة تركت السودان وحاله، والتأكيد على أن الأمر لم ينته، سوى بالانتخابات العامة أو باقتراب موعد حل أزمة دارفور عبر مفاوضات الدوحة، كما تقول الحكومة، ليجد السودان نفسه مرة أخرى أمام خيارات ثلاثة وهي قبول الرئيس البشير بالقرار وبالتالي المثول أمام المحكمة في لاهاي أو
محاولة أخذه بالقوة أو اتخاذ سلسلة من العقوبات ضد السودان .
الدعوة الوطنية التي برزت عقب الاتهام الجديد للبشير، هي إجراءات إيجابية لتفويت الفرصة أمام المحكمة الجنائية بوقف الاعتداء على المواطنين بدارفور وتحقيق السلام الكامل، وفي الخصوص قدم الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي المعارض للخروج من المأزق ما وصفه “بطوق نجاة”، رغم تأكيده بأنهم مؤيدون لمطالب المحكمة الجنائية، ومناداته بضرورة التصدي العدلي للجرائم التي ارتكبت في دارفور، وقال انه لا مجال لمغالطة حقيقة ما حدث من فظائع في دارفور، ووصف المحكمة بأنها تطور مهم في العدالة الدولية “يسد ثغرة فيه أو ينذر الجناة بأنه لا إفلات من العقوبة” .
وينبه المهدي إلى أنهم مع كل ذلك يدركون أن العدالة العقابية يجب أن تأخذ في الحسبان الاستقرار، ويعتقدون بوجود معادلة توفيق بين المساءلة والاستقرار ضمن حزمة إصلاحات عدلية يقبلها مجلس الأمن، وأضاف هذا ما ندعو إليه وهو مخالف للامتثال الحرفي لمطالب المحكمة، وسخر في ذات الوقت من الإغفال “النعامي” لمطالبها، ودعا لما اسماه الاستجابة الذكية لتلك المطالب . ووصف موقف حزبه في هذا الصدد بأنه “واقعي وليس خيالياً”، وبدا واثقا من ان مجلس الأمن سيقبل به، مؤكداً ان كل ما يجري الآن في هذا الصدد مضيعة للوقت فحسب .
القلق الذي ينهب السودانيين كلما اطل لويس أوكامبو بقرار، مبرر هذه المرة لاقتراب أهم حدثين تاريخيين، وهما الاستفتاء على مصير الجنوب بعد أقل من ستة أشهر من الآن، وتحقيق انجاز على صعيد أزمة دارفور، حيث يرى كثيرون أن سيف أوكامبوا سيعمل على تقويض أي جهود في الشأنين، ولا يدفع بها إلى الأمام، بالنظر إلى طبيعة وخطاب النظام الحاكم، فالنظام الذي ينتشي عاماً وراء الآخر، بانتصاراته الداخلية والخارجية، الأولى التي اختتمها بانتصار ساحق في انتخابات عامة مراقبة، رغم كل ما قيل في شأنها، والثانية التي يرى في تحجيم لويس اوكامبو ومحكمته نموذجا لها .
وقد لخص الرئيس عمر البشير ذلك في خطاب جماهيري عندما حمل بشدة على القوى الغربية، وقال إن “إسرائيل” وأمريكا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى فشلت طوال 20 عاماً في إطاحة حكمه وتركيع بلاده، ودعموا التمرد في جنوب البلاد وغربها وشرقها، وفشلوا في حصاره سياسياً ومقاطعته اقتصادياً ومعاقبته عبر المؤسسات الدولية . وأضاف البشير في لهجة غاضبة “كانت آخر محاولة عبر المحكمة الجنائية الدولية، وكانوا يعتقدون أن الشعب السوداني سينتفض ويسلم رئيسه إلى المحكمة . لكن الشعب يعلم أننا رفضنا تركيع السودان وإذلاله والتخلي عن استقلاله، فكانت النتيجة عكسية . فالشعب كله رفض اتهام المحكمة الجنائية والتف حول زعيمه” .
هذا النظام طبقاً لمصدر حكومي، سيعمد إلى التصادم وعدم تقديم تنازلات، باعتبارها سياسة أثبتت فعاليتها خلال السنوات العشرين الماضية من عمر النظام . ويرفض المصدر الحديث عن صفقات ومنافع سرية، مع أية جهة كانت في هذا الخصوص . بيد أن مصدراً معارضاً يؤمن على إشفاق الشارع السوداني من التصعيد، ويفترض ان ما حققه النظام الحاكم خلال الفترة الماضية بالتصادم، كان ثمنه فادحاً دفعه الكثيرون من غير المنتمين له، وهو ثمن غير مرئي، بفضل سياسة النظام نفسه، ويؤيد المخاوف التي تعتري الشارع من خطورة هذه السياسة .
شهر رمضان المعظم والخريف، ربما يريحان السودانيين “مؤقتاً” من البحث المضني في جدلية العلاقة بين الشمال والجنوب، ومعضلة حل أزمة دارفور، فالأول بخصوصيته سيرجئ كثيراً من الملفات، إلى ما بعد الفطر وابتلال العروق، حيث تحتاج المناقشات والمناكفات حول ترسيم الحدود وتأجيل الاستفتاء أو قيامه في موعده إلى معدة شبعى وفم مرتوي، ولو كانت القاعدة واحدة، لدفع الشهر الكريم بوحدة واتفاق، أما الخريف فيحرم الكثيرين في دارفور من الحركة لتبقى الأمور على ما هي عليه، في حدها الأدنى حتى تجف الطرق وتتحرك الأزمة من جديد . ويبقى الإشفاق من سيف أوكامبو المسلط، الذي لا يوقفه الصيام ولا الأمطار من استهداف السودان والعمل على تأجيل الحلول لقضاياه حتى أشعار آخر .
نقلاٌ عن صحيفة "الخليج " الأماراتية
|