إعادة تشكيل علاقات أمريكا ومصر
الثلاثاء, 18-أغسطس-2009
عمرو عبد العاطي - تنوعت المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في وصف العلاقات الأمريكية ـ المصرية ما بين "علاقات استراتيجية" و"علاقات شراكة" و"علاقات صداقة". فقد كان الرئيس المصري "حسني مبارك" ضيفًا دائمًا في واشنطن خلال فترة إدارة كل من ريجان وبوش الأب وبيل كلينتون، حيث كان الرئيس يزور واشنطن مرة كل عام وإن لم تكن مرتين في العام. إلا أن تلك العلاقات قد شهدت خلال فترة الرئيس بوش الابن عديدًا من التوترات والانقسامات بشأن عديدٍ من القضايا ليتوقف الرئيس المصري عن زيارة العاصمة الأمريكية منذ عام 2004، وهو ما جعل البعض يذهب إلى أن تلك العلاقات لا ترقى إلى مثيلتها الأمريكية مع عديدٍ من دول الشرق الأوسط وعلى رأسها إسرائيل والأردن والسعودية. ومع نهاية الثماني سنوات فترتي حكم الرئيس جورج دبليو بوش حدث انفتاح في العلاقات المصرية ـ الأمريكية مع قدوم إدارة أمريكية جديدة بقيادة الرئيس "باراك أوباما" إلى البيت الأبيض في العشرين من يناير الماضي.
تحول من التوتر إلى الشراكة
شهدت العلاقات الأمريكية ـ المصرية مرحلة من التوتر والشد والجذب غير المعهود في العلاقات بين البلدين خلال فترتي الرئيس بوش الابن، وقد بدأ هذا التوتر منذ السنوات الأولى لبوش في البيت البيض ووقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتبني الإدارة أجندة نشر الديمقراطية. وقد بدأت الخلافات بين مصر وواشنطن مع توجيه تهمة تشويه سمعة مصر إلى الدكتور سعد الدين إبراهيم ـ الذي يحمل الجنسيتين الأمريكية والمصرية ـ وسجنه، وتكرار توجيه تلك التهمة له في أغسطس من العام الماضي، والدكتور سعد الدين من الداعمين والداعين إلى نشر الديمقراطية. وزادت حدة التوترات مع ربط جزء من المعونة الأمريكية لمصر بالإفراج عنه.
وأخذت العلاقات تتدهور مع سجن مرشح الرئاسة وأحد منتقدي الرئيس الدكتور أيمن نور. وبعد إلقاء القبض عليه، أجلت وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الحين كوندوليزا رايس زيارة كان من المقرر أن تقوم بها إلى مصر. وعندما زارت القاهرة في يونيو 2005، ألقت خطابًا سياسيًّا حول الديمقراطية.
وتصاعد هذا التوتر مع موافقة الكونجرس الأمريكي، في ديسمبر 2007، على مشروع قانون لتجميد 100 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر؛ إلى أن تستجيب مصر لثلاثة طلبات أساسية هي: أولاً: إغلاق الأنفاق على الحدود المصرية ـ الإسرائيلية والتي يتم من خلالها تهريب الأسلحة إلى غزة وإسرائيل. ثانيًا: إعادة تأهيل وتدريب الشرطة المصرية للتعامل مع مسائل حقوق الإنسان. ثالثًا: الفصل بين ميزانية وزارة العدل والقضاء المصري.
ومع تولي إدارة جديدة زمام الأمور في واشنطن أضحت واشنطن والقاهرة على وشك التقارب. بدأها الطرف المصري بالإفراج عن أيمن نور وإسقاط التهم ضد الدكتور سعد الدين إبراهيم. ويأتي تحسن العلاقات بين البلدين في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن إلى التنسيق مع حلفائها العرب حول مواجهة إيران النووية وطموحاتها الإقليمية.
مؤشرات التحول في العلاقات
تربط عديدٌ من التحليلات المصرية بين كثيرٍ من الإجراءات التي تتخذها الحكومة المصرية مؤخرًا برغبة مصرية في فتح صفحة جديدة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وطيِّ صفحة الخلافات مع إدارة الرئيس بوش. مستندة في ذلك إلى افتتاحية "واشنطن بوست" ـ القريبة من البيت الأبيض ـ يوم الاثنين السادس عشر من فبراير، التي طالبت إدارة أوباما بالسعي للإفراج عن أيمن نور وإسقاط التهم ضد الدكتور سعد الدين إبراهيم، واعتبار ذلك خطوة تسبق استقبال الرئيس المصري "حسني مبارك" في البيت الأبيض. فقد جاء فيها "أنه (الرئيس المصري حسني مبارك) سيكون موضع ترحيب في البيت الأبيض فور إسقاط التهم الموجهة إلى سعد الدين إبراهيم، والإفراج عن مرشح الرئاسة السابق أيمن نور. هذه هي الخطوات البسيطة والصغيرة التي ينبغي على مبارك أن يتبعها إذا ما أراد أن يحظى بمقابلة الرئيس الجديد" .
تعززت حجج هذا التيار بالإفراج عن المعارض المصري، والرئيس السابق لحزب الغد الليبرالي ـ الدكتور أيمن نور ـ بعد يومين من نشر الافتتاحية وزيارة وزير الخارجية المصري "أحمد أبو الغيط" لواشنطن ـ وهي أول زيارة لمسئول عربي لواشنطن منذ دخول أوباما المكتب البيضاوي في العشرين من يناير الماضي ـ، ناهيك عن إسقاط التهم عن الناشط الحقوقي المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم، والإفراج عن عدد من السجناء السياسيين. تلك المؤشرات تُمهد لرغبة مصرية قوية في الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية، وفتح صفحة جديدة والإعداد لزيارة الرئيس المصري "مبارك" إلى البيت الأبيض بعد توقف دام لما يقرب من خمس سنوات.
وعلى الجانب الأمريكي هناك أيضًا عديد من المؤشرات التي تُشير لمرحلة جديدة من العلاقات الأمريكية ـ العربية ومنها المصرية. تتمثل أولاها في تغير القيادة الأمريكية، ووصول رئيس أمريكي جديد "باراك أوباما"، معلنًا عن تدشين سياسة خارجية أمريكية جديدة تقوم على التعاون المشترك بين حلفاء واشنطن في المنطقة بعيدًا عن العمل الأحادي الجانب، سياسة جديدة قائمة على المصالح المشتركة، ومعلنًا عن عهد جديد من السياسة الأمريكية مع دول المنطقة وقضاياها. وهو ما تجلى في الاتصال التليفوني في أولى أيام أوباما في المكتب البيضاوي بالرئيس المصري "مبارك" وعديد من قيادات المنطقة لمناقشة قضاياها. واختيار الرئيس الأمريكي القاهرة لإلقاء خطابه المهم والمنتظر إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة في الرابع من يونيو الماضي والتي سبقتها زيارة وزيرة الخارجية لمصر في مارس الماضي وعدد من مسئولي الإدارة الأمريكية الجديدة.
وبموازاة سياسة أمريكية جديدة في المنطقة ابتعد أوباما في خطابه التنصيبي وإبان حملته الانتخابية عن تناول القضايا التي كانت وراء تدهور العلاقات الأمريكية العربية ومنها المصرية إبان فترتي الرئيس بوش الابن. فلم يتحدث أوباما عن تراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان قيمًا وممارسة ولا عن حرب على الإرهاب، ولكنه أشار إلى أيدٍ أمريكية ممدودة لكافة القوى والدول الصديقة والتي صنفتها الإدارة السابقة بالعدو؛ إذا رغبت في التعاون مع أمريكا وتغيير سياساتها. وفي ميزانيته للعام المالي 2010 يقل الدعم الأمريكي المقدم لتدعيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر على عكس إدارة الرئيس بوش الابن التي كانت تركز على تلك القضيتين كركيزتين للعلاقات الأمريكية ـ المصرية.
وتلك المؤشرات تشير إلى التغيير في مسار العلاقات الأمريكية ـ المصرية.
ومنذ أن وصل أوباما إلى البيت البيض في العشرين من يناير الماضي، التقى الرئيسان المصري والأمريكي مرتين الأولى في القاهرة عندما استقبل الرئيس مبارك الرئيس الأمريكي بقصر القبة بالقاهرة خلال زيارة أوباما لمصر في الرابع من يونيو الماضي، أما اللقاء الثاني الذي جمع بين الرئيسين مبارك وأوباما فكان في يوليو الماضي في مدينة (لاكويلا) الإيطالية على هامش قمة مجموعة الثماني. وسيعد اللقاء القادم في البيت البيض ثالث لقاء لهما.
القضايا محور العلاقات
تُظهر المؤشرات الأولية إلى أن التركيز خلال الزيارة المصرية للعاصمة الأمريكية سيكون أكثر على الملفات الإقليمية مع إهمال عديد من الملفات المحلية الأخرى كدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان عكس الإدارة السابقة التي تصدرتها قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعلى عكس ما يذهب إليه كثيرون فإن قضية الخلافة في مصر لن تكون محورًا في المناقشات الأمريكية ـ المصرية، نظرًا لأن ما يهم الإدارة الأمريكية هو الحفاظ على مصالحها مع النظام المصري. ويأتي تقدم القضايا الإقليمية على ما عداها من قضايا محلية في ظل ازدحام الأجندة الإدارة الأمريكية وانخراطها في عديد من الملفات الإقليمية بداية من الصراع العربي ـ الإسرائيلي والوضع الفلسطيني داخليا وصولاً إلى الملفين العراقي والإيراني.
تتأسس الرغبة المصرية والأمريكية في طي صفحات الماضي، وفتح صفحة جديدة في العلاقات على عدد من القيم والمصالح المشتركة التي تخدم البلدين، منها:
أولاً: الرغبة في حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي وعلى وجه الخصوص الفلسطيني ـ الإسرائيلي؛ لأنه لا يمثل تهديدًا لمنطقة الشرق الأوسط فقط، ولكن للعالم أيضًا. فالانخراط الأمريكي ـ المصري في الصراع قد يساعد على حلحلته. فمصر من خلال علاقاتها وانفتاحها على قوى المقاومة الفلسطينية ـ لاسيما حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ـ لديها فرصة قوية للضغط عليها لقبول صيغ تفاهم فيما بينها أو بين الجانب الإسرائيلي، وهو ما تنشط فيه القاهرة حاليًا بتوسطها للحوار بين الفصائل الفلسطينية والتوصل إلى هدنة بين طرفي الصراع (حماس وإسرائيل)، وأخيرًا في صفقة إطلاق الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط" مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين في حوزة تل أبيب. ومن جانبها يمكن لواشنطن الانخراط النشط في الصراع بالضغط على إسرائيل. فمنذ اليوم الثاني له في البيت الأبيض عين أوباما "جورج ميتشل" مبعوثًا خاصًّا إلى المنطقة، للتوفيق بين طرفي النزاع، والتوصل إلى اتفاق ينهي العنف ويثبت وقف إطلاق النار، وتُوقف سرطان تمدد المستوطنات الإسرائيلية في أراضي الضفة الغربية.
ثانيًا: اهتمام الدولتين باستقرار منطقة الخليج العربي ذات المكانة المهمة في الفكر الاستراتيجي الأمني الأمريكي لما تزخر به من احتياطات نفطية وغاز طبيعي؛ فتوقفها يؤثر على أمن الطاقة الأمريكي، ناهيك عن موقعها الجيواستراتيجي في تجارة الطاقة. ففي السابق تعاونت القاهرة وواشنطن في حماية تلك المنطقة من أي تهديد من دول الإقليم في إشارة إلى الرغبة التوسعية العراقية إبان صدام حسين، أو من قوى خارج النظام الإقليمي العربي ممثلة في إيران الشيعية، فلمصر دورٌ حيويٌّ في احتواء الثورة الإسلامية الإيرانية والحد من تمددها خارج حدودها، وفي السابق ضد تمدد النفوذ الشيوعي في المنطقة وتهديد المصالح الأمريكية.
ثالثًا: التوافق المصري – الأمريكي على الانفتاح على دول المنطقة التي تبنت تجاهها إدارة بوش سياسة عزلة مما جعلها ترتمي في أحضان قوى خارجية، وذلك الانفتاح على قوى المقاومة وإدماجها في العملية السياسية حتى لا تكون أحد عوامل تقويض أمن واستقرار المنطقة.
رابعًا: الاتفاق على أمن المنطقة في صورته الكلية بمواجهة الجماعات الأصولية الراديكالية المتبنية للعنف والتي تهدف لتقويض أمن واستقرار المنطقة والمصالح الأمريكية بها، وذلك استنادًا إلى الخبرة المصرية في مواجهة تلك الجماعات منذ ثمانينيات القرن المنصرم، والدور المصري الجلي في الحرب على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وأخيرًا: الإيمان الأمريكي بأهمية الدور المصري في حل النزاعات الإقليمية واستقرار دول المنطقة بداية من العراق، والرغبة الأمريكية في دور مصري وعربي (سني) لموازنة الدور الإيراني (الشيعي) في العراق وباقي دول المنطقة، مرورًا باستقلال لبنان سياسيا وأمنيًّا، ووصولاً إلى السودان وأزمة دارفور وضرورة الانخراط المصري للتوصل إلى مصالحة سياسية بين الجنوب والشمال.
تحسن محكوم بتوازنات القوى الأمريكية
وهذا لا يعني تحسن العلاقات الأمريكية ـ المصرية على طول الخط، ولكن قد يشوبها من حين لآخر بعض حالات التوتر، نظرًا لأن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وأن صناعة القرار الأمريكي تتسم بالتعقيد والتشابك لتداخل عديدٍ من المؤسسات والأجهزة والوكالات، لاسيما الكونجرس الأمريكي حيث فقدت مصر كثيرًا من مؤيدها به، فقد نشهد من حين لآخر مشروع قرار بالكونجرس الأمريكي يربط المساعدات الأمريكية بسياسات وإجراءات لابد أن تتخذها مصر أو مشروعات قوانين ناقدة للسياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي كما كان الحال في إدارتي الرئيس بوش. ناهيك عن دور اللوبي الإسرائيلي ذي التأثير الكبير على صانعي القرار الأمريكي، لاسيما (إيباك)، والساعي إلى ربط التحسن في العلاقات الأمريكية ـ المصرية بعدد من الإجراءات أهمها وقف تهريب الأسلحة من الأراضي المصرية إلى الأراضي الفلسطينية عبر الأنفاق السرية.
وقبل زيارة الرئيس المصري للعاصمة الأمريكية وقَّع 71 سيناتور بمجلس الشيوخ الأمريكي الذي يضم مائة سيناتور لدعوة الرئيس أوباما إلى الضغط على القادة العرب من أجل التطبيع مع إسرائيل، والى إنهاء مقاطعتهم لإسرائيل وأن يتقابلوا علنًا مع المسئولين الإسرائيليين وإصدار تأشيرات لدخول المواطنين الإسرائيليين الدول العربية بجانب دعوة الإسرائيليين إلى المشاركة في المؤتمرات والندوات الأكاديمية وفي الأنشطة الرياضية.
ولانطلاقة جديدة في العلاقات الأمريكية ـ المصرية، في وقت تحتاج فيه الدولتان لبعضهما بعضًا مع كثير من المنعطفات السياسية تحتاج إلى أن تدعم كل منهما الأخرى، لا يجب أن ترتكز العلاقات الأمريكية – المصرية على الجوانب الاقتصادية والعسكرية كما كان الحال في الماضي، ولكن لابد من التطرق إلى الجوانب السياسية بتكوين وجهة نظر مشتركة حيال قضايا المنطقة والتي من شأنها توحيد أفق العمل المشترك وتقليل اختلاف وجهات النظر بينهما. ففي إدارتي بوش كان اختلاف مقاربات كل من النظامين لقضايا المنطقة محور تدهور العلاقات الأمريكية ـ المصرية. وما يعزز من ذلك التركيز على الجوانب الثقافية لإحداث تفاهم مشترك بين الشعبين ولتبديد القوالب الجامدة في الثقافة السياسية لديهما.
وخلاصة القول: إنه يجب على القاهرة العمل على تبديد تقييم علاقاتها مع واشنطن من خلال طرف ثالث والذي كان في السابق الاتحاد السوفيتي قبل تفككه، وهذا الطرف الثالث يتمثل حاليًّا في تل أبيب والذي تجمله المقولة التقليدية: "المرور إلى واشنطن لابد أن يبدأ من تل أبيب"، وذلك من خلال إبراز الدور والثقل المصري في الصراعات والنزاعات العربية بداية من الصراع العربي ـ الإسرائيلي وأزمة دارفور وعلاقاتها مع قوى المقاومة الفلسطينية (لاسيما حماس) وقيادات جنوب السودان ودورها في استقرار وأمن المنطقة. فالقاهرة تقدم لواشنطن ما لا تستطيع أن تقدمه دول عربية أخرى نشطة في النظام الإقليمي العربي.
نقلاً عن تقرير واشنطن
|