اصلاح نُظم الانتخاب: الحالة العربية
السبت, 03-مايو-2008
هندريك ج. كرايتشمار - حين نتناول بالدراسة لتاريخ النظم الانتخابات البرلمانية في بعض الدول العربية نكتشف أنه في العديد من بلدان هذه المنطقة, مرت المؤسسات الانتخابية بتغيرات ذات شأن على مدار ربع القرن الأخير. هذا الاستنتاج يبدو مفاجئاً لسببين. فأولاًً, حين نتمعنه بالمقارنة مع 'الحكمة' الأكاديمية السائدة التي تقول أن الأنظمة البرلمانية, حال إنشائها, تكون قابليتها للتغيير محدودة, هذه الحكمة التي هي حصيلة أبحاث أجريت علي الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الغربية, قد لاقت مؤخراً نجاحاًً في تفسير التطورات المؤسساتية في الأنظمة غير التنافسية ومن بينها الدول العربية. فعلي حد قول مؤيدي فرضية استقرار المؤسسات الانتخابية هذه, تتشكل المؤسسات الانتخابية كنتاج لميراث تاريخي طويل, وهو ما لا يسهل التحكم به من خلال تأثير الفعاليات السياسية. وثانياًً, نجد هذا الاستنتاج مثيراً للشغف في ضوء نزوع الأكاديميين لتجاهل دور المؤسسات الانتخابية في تحليلهم للانتخابات البرلمانية في الأنظمة العربية غير التنافسية. فالعوامل التي غالبا ما يعزي إليها الدور الأهم في العمليات الانتخابية في هذه البلاد هي القيود المفروضة علي الحريات المدنية والسياسية, وسيادة التزوير وغيره من أساليب فرض الإرادة التي يستخدمها النظام. فهذه العوامل مجتمعة تعمل علي الغاء أثر المؤسسات الانتخابية, عن طريق الحد من تنافسية الحملات الانتخابية, وتزوير نتائج الانتخابات نفسها. إلا أنه, ولوكانت هذه المؤسسات ضئيلة الأهمية لهذه الدرجة, فما هو المنطق وراء تغييرها من البداية هل علينا أن نغض الطرف عن هذه التغيرات معتبرين إياها ممارسات لا معني لها علي سبيل هندسة المؤسسات أم لا؟ ألا يمكن أن تدل هذه التغيرات على أن المؤسسات الانتخابية تحمل خبرات أكثر مما هو معترف به حتي اللحظة الراهنة نظريا, بالطبع, كلا السيناريو هين يمكن قبوله. فالمؤسسات الانتخابية قد تغيير ببساطة لأنها لا تساهم سوي بجزء ضئيل للغاية في العملية الانتخابية ذاتها. والعكس تماما, فهذه المؤسسات يمكن أن تتغير لأنها تؤثر علي مسار الحملات الانتخابية ونتائجها, ولو في ظل ظروف يحكمها عدم النزاهة. هذا المقال يناقش هاتين المعضلتين, مستكشفاًً كيف يمكن للمرء أن يتفهم الإصلاحات الانتخابية التي تمت في عدد من بلدان الدول العربية, وإذا ما كانت هذه الإصلاحات قد تم هندستها وفقا لأجندة معدة مسبقا وينتج عنه تحليل يحمل طرحين أساسيين في هذا الشأن, فأولاً, هو يبرز أن الادلة المستقاة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تؤيد تماما الافتراض أن المؤسسات الانتخابية تبدي القليل من المرونة تجاه التغير عبر الزمن. فبدلا من ان نلحظ استقرارا مؤسساتيا نلقي - بشكل متكرر ومتواتر - تغيرات جذرية في الانظمة الانتخابية. وثانيا, هو يطرح من أجل استيعاب هذه الإصلاحات الانتخابية, سيكون علينا ان نستكشف من مسافة أقرب المصالح والأفعال الاستراتيجية التي تتبعها نخب النظام. تقودنا لهذا الطرح ملحوظتان مبدئيتان فيما يتعلق بمنطقة الشرق الاوسط. الاولي, أننا بالبحث نجد هناك مناسبات عدة هندست فيها النخب الحاكمة -عن قصد- المؤسسات الانتخابية للوصول لنتائج مرجوة للانتخابات. والثانية, ان هناك عدة مؤشرات علي أن هذا النمط من إدارة العملية الانتخابية يؤثر علي العملية الانتخابية ونتائجها حسبما يتراءي للنخب الحاكمة. حال تدعيم هاتين الملاحظتين بأدلة أخري, ستؤديان إلي إعطاء المصداقية للزعم بان المؤسسات الانتخابية لها أهمية في الأنظمة غير التنافسية, ومن ثم تستحق هذه المؤسسات اهتماما أكاديميا أكبر. من أجل الاستدلال بحالات وقوع تغيرات في النظم الانتخابية في المنطقة منذ السبعينات, تمت دراسة مسارات الأنظمة الانتخابية في اثنتي عشرة دولة من دول المنطقة. هي (الجزائر, جزر القمر, جيبوتي, مصر, الأردن, الكويت, لبنان, موريتانيا, المغرب, الأراضي الفلسطينية, تونس, واليمن). تم اختيار هذه الدول الاثنتي عشرة لأنها تشترك في خاصيتين هامتين لهما صلة بهذا البحث, فأولا, تقع جميعها تحت مظلة النظم غير التنافسية, باعتبار ان السلطة السياسية تبقي مرهونة بأيدي نخب حاكمة استمرارية, وانه ليس هناك فصل أو تداول حقيقي للسلطات. في ذات الوقت, فإنها جميعا قد تبنت بعض السمات الأصيلة للديمقراطية الإجرائية, أجدرها بالملاحظة هوالانتخابات البرلمانية التعددية. هذا العامل الأخير يمثل متطلبا ضروريا لهذا البحث, حيث يتيح لنا دراسة القيمة الاداتية للمؤسسات الانتخابية التي تساعد علي الحفاظ علي هيمنة النظام, وفي تحديد شكل التفاعل بين القوي السياسية المتنافسة في ظل التعددية المقيدة.
تغيرات نظم الانتخابات البرلمانية منذ السبعينيات التحليل الواقعي لتغيرات النظم الانتخابية في منطقة الشرق الأوسط يعتمد علي الحصر البسيط للحالات التي جري فيها إصلاح لهذه النظم من عام 1970 إلى 2005. على أانه, وقبل أن نعرض لنتائج هذا الحصر, سيكون ضروريا ان نوضح ما نعنيه بـ 'تغيرات النظام الانتخابي'. يشير هذا المصطلح بالأساس لأي حالة تقع فيها هندسة مؤسساتية تؤدي لتغيرات في بعد أو أكثر من أبعاد النظام الانتخابي الثلاثة : بنية الاقتراع, البنية الشكلية'الصياغية', و/ أو بنية االدوائر الانتخابية. واعتمادا علي طبيعة التغير, يمكننا ان نفرق بين ما يسمي بالتغير البنيوي intra-system change' والتغير التحولي 'inter-system change, الأول يحمل تعديلا لنص قانوني انتخابي او أكثر بغير تغيير النمط الأساسي للنظام الانتخابي. أما الأخير فيتضمن تعديلات تؤدي في النهاية للتحول من نمط نظام انتخابي إلي آخر. بعد إيضاح المصطلحات المستخدمة, يمكننا ان نقدم نتائج عملية الحصر سالفة الذكر. فمن بين مسارات أنظمة الانتخابات البرلمانية الإثني عشر قيد الملاحظة, أبقت خمس دول هي : جزر القمر, جيبوتي, الكويت, موريتانيا, واليمن علي أنظمتها الانتخابية كما صممت منذ أن استحدثت الانتخابات البرلمانية التعددية بها. من ثم فإن أغلبية 60% من بين كل الدول قيد الملاحظة, مرت بتغير في النظام الانتخابي علي مدار الثلاثة عقود الماضية. وعند ترتيبها تبعا لتكرار وعمق التغير, تقع مصر في المرتبة الاولي بثلاثة إصلاحات تحولية في نظامها الانتخابي, تليها الجزائر بإصلاحين انتخابيين تحوليين. في المرتبة التالية نجد المغرب, الأراضي الفلسطينية, تونس, والأردن بإصلاح تحولي واحد, بينما تقع لبنان في المرتبة الأخيرة بثلاثة تغيرات بنيوية. والمجموع هو إثنا عشر تغيرا في شكل النظام الانتخابي, أربعة منها بنيوية والثمانية الباقية تحولية. فبدلا من ظهور الاستمرارية المؤسساتية, ومن هنا فهذا العدد الضخم من الإصلاحات في دول المنطقة العربية يظهر مستويات عالية من عدم استقرار الأنظمة الانتخابية في المنطقة.
تفسير حالات تغير النظم الانتخابية كيف يمكن للمرء أن يتفهم إصلاحات نظم الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبع دول عربية تمت دراستها في الوقت الذي نحافظ به علي المتغيرات المرتبطة بكل حالة علي حدة. فإننا نقترح أن أفضل طريقة ممكنة لتفسير حالات الإصلاح هذه تكمن في إعطاء اهتمام أكبر للفاعلين السياسيين المنخرطين فيها, والمصالح الاستراتيجية التي يسعون لتحقيقها, والقرارات التي يتخذونها. يقودنا إلي هذا التحول في المعالجة أطروحات ثلاث. أولا, نري أن هذه المقاربة تعين بشكل أفضل الطبيعة الخاصة للأنظمة غير التنافسية وتوزيع السلطة السياسية فيها. ثانيا, هذه المقاربة تصرف الانظار عن الاعتقادات المتاصلة علي الاستقرار المؤسساتي وهو ببساطة فرض غير متسق تجريبيا في المنطقة باتجاه إطار نظري أكثر اتزانا له القدرةعلي توضيح الأسباب التي تقف وراء كل تعديل أو بقاء النصوص القانونية الحاكمة للانتخابات. وأخيرا, الاهتمام بشكل أكبر بالفاعلية السياسية يفتح آفاقا جديدة ومثيرة للشغف لدراسة القوة الفاعلة والأثر التحكمي للهندسة الانتخابية في الأنساق غير الديمقراطية. دعونا نستكشف هذه الافتراضات الثلاثة باختصار. لماذا نركز علي الفاعلية السياسية عند تتبع مسارات الأنظمة الانتخابية في الأنظمة غير التنافسية يعود ذلك بالأساس إلي أنه في معظم هذه الدول, تبقي تقاليد قواعد اللعبة المؤسساتية ضعيفة, وتكون علاقات القوة بين النخب الحاكمة والمعارضة السياسية غير متكافئة بشكل كبير. قد يكون 'نوهلين' محقا في زعمه أن الإصلاح الانتخابي أصبح صعبا إلي حد كبير في معظم الديمقراطيات الغربية بعد التوسع في حق التصويت وتجمد الأنظمة الحزبية. هنا, المعوقات المؤسساتية العالية وإمكانية تداول السلطة بين الأحزاب السياسية المتنافسة غالبا ما تحول دون تفعيل تغيرات كبري. إلا أن مثل هذه المعوقات المؤسساتية كانت تاريخيا قليلة الشأن في دول منطقة الشرق الأوسط والتي شهدت بعض دولها عمليات تحرر سياسي محدود تقوده الدولة بشكل أساسي. بناء علي ذلك, تبقي السلطة السياسية إلي يومنا هذا منوطة بأيدي نخب سلطوية, والتي نادرا ما تواجه قيودا دستورية ذات شأن أو رقابة برلمانية أو قضائية علي اعمالها. ففي معظم الأحيان, يكون البرلمان بمثابة مؤسسة الاعتماد والموافقة, حيث الأغلبية فيه لأعضاء يدعمون الحكومة, وقلة من المعارضين القانعين, فيما يتولي الهيئات القضائية معينون من قبل الحكومة. وبشكل واضح, تعطي هذه الظروف النخب الحاكمة قدرة علي تنفيذ إصلاحات مؤسساتية أوسع إذا كانت لديهم الرغبة أكثر مما يمكن أن يتحقق في الديمقراطيات الليبرالية الراسخة. وعليه فإننا نجد في هذه النخب, وقراراتها وتفاعلاتها الاستراتيجية مع قوي المعارضة, القوة المحركة الرئيسة والدافع وراء الإصلاح الانتخابي. ولكن, كيف يتأتي للمرء أن يفسر هذه الرغبة في هندسة النظام الانتخابي من جانب كل من النخب الحاكمة ونخب المعارضة يقترح 'بوا' ثلاثة سيناريوهات قد تساعدنا لكي لماذا ومتي تحدث تغييرات للنظم الانتخابية على الأجندة السياسية في نسق غير ديمقراطي. تفترض السيناريوهات الثلاثة جميعا أن المصلحة الاستراتيجية للنخب الحاكمة وتفاعلاتها مع الداخلين حديثا للحلبة السياسية هي التي تحدد احتمالية وطبيعة الإصلاح الانتخابي. يؤكد في السيناريوالأول, 'بوا' على أن تغيرات النظام الانتخابي قد تحدث في ظروف تكون فيها النخب الحاكمة غير واثقة من قوتها النسبية بعد التحول. وفي السيناريوالثاني, حال كون علاقات القوة غير متكافئة بشكل أكبر, يعتقد أن طبيعة الإصلاح الانتخابي ترتكز علي إجابة التساؤل: أي من الأحزاب لديه قدرة أكبر علي المساومة أثناء عملية التحول؟ فحيثما يكون لقوي المعارضة اليد الأعلي علي حد قوله يكون هناك احتمال أكبر أن ينتج نظام تمثيل نسبي. وعلي العكس من ذلك, حيثما تحتفظ نخب النظام بقبضتها محكمة علي السلطة السياسية, يتم الإبقاء علي 'الحد الأدني للتمثيل' مرتفعا في الأغلب. وهنا إذن يستخدم كل من التحول إلى, والإبقاء على, نصوص قانونية خاصة لضمان التفوق الانتخابي لأحزاب سياسية بعينها علي حساب أحزاب أخري. وأخيرا يقترح بوا في السيناريو الثالث, أن آليات الإصلاح الانتخابي يمكن أيضا أن تتحدد تبعا لطبيعة الأحزاب السياسية الصاعدة. فحيثما كانت هذه الأحزاب ليست سوي أكثر قليلا من 'مجموعات من الشخصيات المحلية المتميزة' تكون هناك فرص كبيرة لتبني أوالإبقاء علي صياغة انتخابية ترتكز علي أشخاص المرشحين, من أجل 'تقوية الروابط المحلية' وعلاقات البائع العميل. في المنطقة العربية ليست هناك أهمية سوي للسيناريوهين الثاني والثالث, لأنهما يحملان بعض الملامح الرئيسية للأنظمة غير التنافسية. هنا, غالبا ما نجد أحزابا سياسية تشبه ليس أكثرمن 'مجموعات من الشخصيات المحلية المتميزة' وتظل عمليات الإصلاح الانتخابي - كما ذكرنا آنفا- مدفوعة بقوة لمصلحة النخب الحاكمة. أيضا لهذا السبب بالضبط يحمل السيناريو الأول - النخب المتساومة تحت ظروف من عدم التأكد- قدرة ضعيفة علي التفسير في ظل سياق الدراسة. وبأخذ العامل التجريبي في الاعتبار, يمكننا أن نشير إلي عدة حالات إصلاح في المنطقة العربية تعطي مصداقية لأطروحة 'بوا' الثانية. حيث كانت الإصلاحات الانتخابية تنفذ مع مراعاة المطلب المعلن بتحجيم مكاسب المعارضة لمستويات 'مسموح بها' ولتسهيل وجود أغلبية برلمانية في مصلحة الحكومة. عادة ما كان يتم تحقيق ذلك, إما عن طريق فرض حدود دنيا يكون من الصعب علي أحزاب المعارضة تجاوزها, أوترسيم حدود الدوائر الانتخابية بشكل غير عادل لمصلحة القوي الداعمة للنظام. يمكننا أن نعثر علي نماذج لهذا النمط من الهندسة الانتخابية في الجزائر, مصر, والأردن. لنأخذ على سبيل المثال ديناميات النظام الانتخابي التي تكشفت في الجزائر بين 1989 و1990. في هذه الفترة لم تكتف السلطات الجزائرية بالتخلي عن خططها المبدئية لإجراء أول انتخابات برلمانية علي أساس التمثيل النسبي, ولكنها أيضا انخرطت في عملية موسعة لإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لمصلحة جبهة التحرير الوطنية الحاكمة. يفترض الكثيرون أن حمي هندسة النظام الانتخابي هذه انتزع فتيلها الظهور القوي لجبهة الإنقاذ الإسلامية المعارضة, أثناء الانتخابات البلدية والمحلية عام 1990, والتي نجحت, بالرغم من التحيز الكامن في نظام التمثيل النسبي المطبق آنذاك, في أن تفوز بأغلبية كاسحة في مواجهة جبهة التحرير الحاكمة. ومن هنا فإعادة الترسيم الجذرية التي تبعت ذلك, والتحول النهائي من نظام التمثيل النسبي إلي نظام الأغلبية المطلقة لابد أن تتم قراءتهما في ضوء هذا النصر الذي حققته جبهة الانقاذ. فهذا التغيير في النظام الانتخابي كان محاولة من قبل الدولة لتحسين فرص جبهة التحرير في الاقتراع الانتخابي التالي وللوصول بمكاسب جبهة الإنقاذ إلى حدها الأدنى. وفيما يتعلق بتغير النظام الانتخابي, ففيما يبدو اعتقدت السلطات أن نظام الأغلبية الجديد سيقود لمواجهات مباشرة بين مرشحي الجبهتين في جولة الإعادة, وأن الناخبين, وقد أرهبهم احتمال انتخاب حكومة إسلامية, سيحتشدون وراء الحزب الحاكم ليضمنوا له النجاح. وفي مصر, سادت حسابات مماثلة أثناء العمل بالنظامين المعتمدين علي التمثيل النسبي في 1984 و1987, وهنا أيضا نفذت الإصلاحات الانتخابية الحقيقية بواسطة السلطات التنفيذية وحدها دون أي دور للمعارضة. وبالرغم من ارتكاز هذين النظامين علي مبدأ القائمة النسبية, الا أن كلا النظامين تضمن نصوصا قانونية مصممة عن عمد للحد من مكاسب المعارضة ولتأمين هامش انتصار مريح للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. فأولا, في كل من انتخابات 1984 و1987 كان علي الأحزاب السياسية أن تنجح في تحقيق حد أدني تمثيلي مرتفع إلي حد كبير يبلغ نسبة 8%. ولأنه لم يسبق لأي من أحزاب المعارضة الحصول علي ثمانية بالمائة من الأصوات في انتخابات سابقة, كانت هناك أرضية عريضة للإيمان بأن الحد الأدني الجديد سيحد بشدة من فرص قوي المعارضة هذه في دخول البرلمان, حتي في ظل نظام تمثيل نسبي. بالإضافة إلي ذلك فإن القانون الانتخابي لسنة 1984 نص علي أن كل الأصوات التي ينالها حزب ما أقل من الثمانية بالمائة تؤول تلقائيا إلي حزب الأغلبية, أي إلي الحزب الوطني. ونلاحظ أن النص علي الحد الأدني التمثيلي يهدف لتقييد المعارضة, في نفس الوقت يؤمن أكبر أغلبية ممكنة للحزب الحاكم, بغض النظر عن أداء الحزب ذاته. وأخيرا في الأردن, حيث نري هنا أيضا دليلا علي أن التحول في النظام الانتخابي في العام 1993 من نظام التعددية البسيطة إلي نظام الصوت الواحد غير القابل للانتقال SNTV تمت هندسته عمدا من قبل السلطات التنفيذية للحد من مكاسب المعارضة ولتعزيز تواجد القوي السياسية المؤيدة للملكية في البرلمان. ويري كثيرون أن هذا الإصلاح بعينه مهد له عدم رضي الملك علي نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1989. فلقد حقق التيار اللإسلامي خلال هذه الانتخابات أداء مؤثرا, ليحصد ما يقترب من 40% من مجمل المقاعد البرلمانية. هذا الصعود للتيار الاسلامي نحو التألق السياسي عزي آنذاك لعاملين بالأساس. الأول هو القدرات التنظيمية للإسلاميين أنفسهم, والتي فاقت أي نظير لها في الأحزاب الأخري. والثاني هو النصوص القانونية المتعلقة بالتصويت المتعدد. هذه النصوص, علي حد ما قيل آنذاك, أتاحت للناخبين التصويت علي أساس كل من انتماءاتهم الشخصية والسياسية, وقد بدا أن هذه الأخيرة أتت ثمارها لمصلحة المرشحين الإسلاميين بالذات. ونتيجة لذلك قررت السلطات الأردنية إنهاء العمل بنظام التصويت المتعدد واستبداله بنظام 'الصوت الواحد للفرد الواحد' للحد من الفرص الانتخابية للتيار الإسلامي. فمن خلال الحد من عدد الأصوات, كان متوقعا أن الناخبين سيعودون للتصويت علي أساس انتماءاتهم الأولية ومن ثم يصوتون للمرشحين المنتمين لقبائلهم و/أو عائلاتهم, بدلا من مرشحين يتبنون أجندة سياسية أوسع, مثل الإسلاميين. وقد تبدي واضحا فاعلية هذا الاعتبار الاستراتيجي في انتخابات 1993, والتي تقلص فيها نصيب الإسلاميين من مقاعد البرلمان من 40% إلي 28%. إثباتا لأطروحة بوا الثانية, توضح الأمثلة الثلاثة أن الإصلاحات الانتخابية يمكن أن تأتي بها النخب الحاكمة للحد من المكاسب 'الزائدة عن الحد' للمعارضة. إضافة, مثل هذا النمط من الهندسة الانتخابية يمكن أن يرد إلي معادلتين أخريين لهما أهمية خاصة في الأنظمة غير التنافسية. واللتين تعتمدان حصريا علي المصالح والأفعال الاستراتيجية للنخب الحاكمة, والتي ثبت أنها تنطوي علي الفاعلين السياسيين الأهم وراء التغيرات الانتخابية في هذا النوع من الأنظمة. بداية حسب المعادلة الأولي, فإن الهندسة الانتخابية يمكن أن تتولد كأداة للشرعنة في عملية تغيير القيادات. في أوقات التحول هذه, غالبا ما يعتمد استمرار القيادات السياسية الجديدة سواء وصلوا لمناصبهم, بالانتخاب أو بالتولي, علي مدي مهارتهم وسرعتهم في الحصول علي السيطرة الكاملة والشرعية في المؤسسة المركزية للدولة. كذلك, ومن أجل تعظيم سلطاتهم السياسية, قد تسعي هذه القيادات السياسية المنتخبة حديثا لتحقيق نوع من المصداقية والشرعية السياسية بين مختلف القطاعات المجتمعية وكذلك في المجتمع الدولي بشكل أوسع. هناك عدد من الوسائل المتاحة, والتي تم استخدامها, من قبل القيادات السياسية المنتخبة حديثا لتحقيق الأهداف المذكورة آنفا. بعض الأشكال الشائعة تتمثل في المبادرة بحوار من نوع ما بين النظام وقوي المعارضة, وتقديم وعود برفع القيود عن الحريات السياسية والمدنية, والإفراج عن المعتقلين السياسيين. وفي هذا الإطار, يمكن أن يمثل الإصلاح الانتخابي وسيلة شعبوية لحشد القوي المجتمعية والمجتمع الدولي حول القيادة الجديدة. وعادة ما يتم هذا من خلال تعديل النصوص الانتخابية القائمة من أجل زيادة احتمالات مشاركة المعارضة والتمثيل السياسي. بعض الأمثلة التي تدعم هذا النمط من التحليل هي حالات الإصلاح التي يبادر بها من يصلوا حديثا للسلطة, كالرئيس حسني مبارك في مصر, الرئيس بن علي في تونس, والملك محمد الخامس في المغرب. كذلك, كما هو متوقع, كل حالات الإصلاح هذه تضمنت تعديلات خفضت من الحد الأدني التمثيلي للأقلية ومن ثم مشاركة المعارضة. ولابد أن نتذكر بالطبع أنه في معظم هذه الحالات, توقفت مبادرات الإصلاح هذه عاجزة عن التأثير في اختلال ميزان القوي أو أفق المشاركة السياسية بالتوافق مع معارضة مدمجة بشكل رسمي وتدين بالولاء للنظام. يمكن للمرء أن يتعامل مع اللجوء المتصاعد للهندسة الانتخابية كمتغير تابع لتناقص إمكانية التزوير الانتخابي المباشر. فالتلاعب الانتخابي المكشوف يفقد الأنظمة الحاكمة المصداقية محليا -وأهم من ذلك دوليا- في عصر اشتراطات الدول المانحة والضغوط من أجل الرقابة الدولية علي الانتخابات, لذا قد تنتقل هذه الأنظمة إلي وسائل أقل وضوحا لضمان الفوز بالانتخابات. ومن ثم تغدو التشريعات المتعلقة بأنظمة التصويت وإجراءاته, والجغرافيا الانتخابية أو اللوائح المنظمة للأحزاب وتمويلها أدوات مفيدة للوصول لنتائج مقبولة للانتخابات بغير اللجوء لتزوير الأصوات أو التجاوزات الانتخابية المباشرة. قدمت هذه الورقة البحثية أطروحتين حول مرونة وأهمية المؤسسات الانتخابية في الأنظمة العربية غير التنافسية. في البداية, ناقشنا أن فكرة استقرار النظام الانتخابي لا يمكن ان تتسق في بعض الدول العربية محل الدراسة, وبدلا منها نلقي إصلاحات انتخابية متكررة وغالبا جذرية. بعد ذلك أوضحنا أن هذه الإصلاحات غالبا ما تم تنفيذها من قبل النخب الحاكمة لتحقيق هدف ما, أهم هذه الأهداف علي الإطلاق هو التحكم في المعارضة السياسية. ولنتذكر, أن هذه النقطة الأخيرة بالأخص مفاجئة, في ضوء الاهتمام القليل بدور الأنظمة الانتخابية في الأنظمة غير التنافسية حتي هذه اللحظة. وكما ناقشنا في المقدمة, ينزع معظم الأكاديميين لاعتبار الأنظمة الانتخابية مؤسسات غير ذات شأن في الدول التي تستخدم وسائل مختلفة من التجاوزات الانتخابية وغياب النزاهة . تقترح هذه الورقة أن مثل هذه الأطروحات تحتاج لإعادة نظر, وأن المؤسسات الانتخابية في الحقيقة تحمل أهمية أكبر في الأنظمة غير التنافسية عما هو معترف به حتي الآن. قطعيا نحن في حاجة إلي المزيد من البحث في هذا الاتجاه لكي نستوعب تماما ديناميات ووظائف الإصلاحات الانتخابية. في هذا الشأن, قد يمنحنا بحث مقارن في حالات الإصلاح الانتخابي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أوروبا مقترحات مثمرة لأبحاث مستقبلية. هذا بالطبع يعود إلي أن الظروف السياسية في أوروبا آنذاك وفي منطقة الشرق الأوسط اليوم يبدو عليها بعض نقاط التشابه المثيرة للتأمل. هذا فيما يتعلق أولا بالطبيعة غير المنظمة للأنظمة الحزبية وثانيا بسيادة أنظمة محافظة أو أحزاب مؤيدة للنظام تعمد لاستخدام كل الوسائل الممكنة للاحتفاظ بتفوقها السياسي.
*هندريك ج. كرايتشمار: أستاذ مساعد للعلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في القاهرة.
|