روسيا والعلاقة مع الإمبرياليات العالمية
الأحد, 07-ديسمبر-2014
عمار ديوب -
شكّل وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم، وإنهاء فترة بوريس يلتسن، بداية مرحلة جديدة لروسيا، واستئنافا للطموح القومي الجديد. بوتين القادم من الاستخبارات الروسية، ووصول روسيا لما يقارب دولة عالم ثالثية بعهد سابقه، فرض عليه ضرورة وضع نهاية لسياسات إلحاق روسيا بأميركا وأوروبا. وقد استطاع مع فريقه، وتحديدا ميدفيدف، أن يعيد روسيا كوريثة للاتحاد السوفيتي، وإن ليس بالمقدار ذاته.
بوتين، قيصر روسيا الجديدة، لم يتقبّل دخول الاتحاد الأوروبي أو أميركا إلى مجاله الإقليمي، وبدأت روسيا معه مرحلة استعادة الهيمنة على مجالها هذا، وإيقاف الثورات الملوّنة في الجمهوريات السوفيتية السابقة. وفي عام 2008 غزا جورجيا بحجة طلب أوسيتيا وأبخازيا التدخل الروسي، وجاء هذا بعد محاولة جورجيا إعادة هذين الإقليمين بالقوة إليها.
وفعلا فهمت جورجيا أن اللعب القديم زمن يلتسن انتهى. وفي أوكرانيا كانت الحكومة الموالية لروسيا تؤمّن مصالح الأخيرة، لكن مع وصول حكومة جديدة على خلفية أزمة اقتصادية عنيفة وسياسية كذلك، وتريد تعميق الصلات بأوروبا، وإدارة الظهر كلية لروسيا والتعامل معها بشكل ندّي. واستشعر الروس بالخطر على مجالهم الإقليمي، فحركوا منطقة القرم، ولاحقا استقلّت بقوة التدخل الروسي. وكذلك الأقاليم في شرق أوكرانيا، التي تتصارع مع الحكومة المركزية وتتجه نحو الانفصال بدورها. وموسكو لن تعترف باستقلال أوكرانيا، وتعمل لإبقائها ضمن اتحادها الروسي.
وتكمن مشكلة روسيا في عدم انتهاج نظام مؤسساتي، وشعور كافة شعوب الاتحاد السوفيتي السابق أن من حقها الاستقلال والتبعة لأوروبا وأميركا.
وقد تدهورت روسيا، خلال مرحلة يلتسن، كثيرا، وبالتالي تدمّر اقتصادها العام والقويّ، والمتوارث من زمن الاتحاد السوفيتي وتمّ بيعه بأرخص الأثمان. ولم تكن أزمات الاقتصاد القديمة السبب في تدميره بل السياسات الليبرالية والالتحاقية ليلستن. وقد أنهى بوتين ذلك، مع التأكيد على أن أوكرانيا ضمن مجاله وستظل.
عقوبات مدمرة
بدورها تميل ألمانيا إلى تقسيم أوكرانيا، لا سيما وأن جزءا كبيرا من السكان لديه ميولا كاثوليكية نحو ألمانيا بسبب الرابط الديني هذا، ولكنها ملتزمة بسياسة الاتحاد الأوروبي في معاقبة روسيا على غزوها القرم ودعم الأقاليم الشمالية.
إلا أن العقوبات أصبحت تمثّل مشكلة حقيقية في الأشهر الأخيرة، حيث هرب المستثمرون الأجانب وفقدت البلاد أكثر من 125 مليار دولار. وفُرضت على كبار رجال الدولة الروسية، والبنوك أيضا، وأوقفت كثير من القروض المستحقة لروسيا، ويقول وزير مال روسي سابق وهو “ألكسي كودرين” (أدت العقوبات وانخفاض أسعار النفط إلى تدهور الاقتصاد الروسي، ولا شك في أن تعويض الخسائر الروسية يقتضي من 7 إلى 10 سنين).
أوكرانيا بدورها راحت تشترط أسعارا مخفضة أكثر مقابل مرور الغاز الروسي إلى أوروبا. ونضيف أن 70 بالمئة من صادرات روسيا هي من الطاقة، وبالتالي لا تستطيع روسيا وبسبب اقتصادها المتدهور إيقاف تصدير المواد الأولية. وكذلك خسر الروبل أكثر من 30 بالمئة من قيمته مقابل الدولار.
ودار مؤخرا حديث عن انكماش كبير قد يصيب الاقتصاد الروسي، وأن نسبة النمو متدنية جدا. طبعا أوروبا متضررة من هذه العقوبات المفروضة على روسيا ولا سيما بخصوص الغاز والطاقة الروسية المصدرة إليها. وهناك دول كإيطاليا وغيرها، بدأت تستشعر خطرا كبيرا على استقرارها بسبب ذلك. ويؤكد بعض المحللين أن ما يشبه حربا باردة اندلعت بين روسيا والإمبرياليات العالمية.
دخول روسيا في صدام مع أوروبا وأميركا ورفضها التفاوض بخصوص حقوق أوكرانيا والدعم لأقاليم أوكرانيا، يمنع قيام أي توافق مع أميركا وأوروبا. وهو ما دفع أوباما، ليؤكد أن الموقف الروسي واحد من مشكلات العالم الثلاث حاليا، أي مع مرض إيبولا والحركات الجهادية.
تم التنديد الواسع بروسيا أوروبيا وأميركيا ووصلت العلاقات إلى مرحلة حرجة، وهذا يأتي بعد رفض روسيا الحرب الفرنسية والأميركية على ليبيا واعتبار ذلك تم بخديعة لها، وخارج الشرعية الدولية. وكذلك يعتبر تشكيل التحالف الدولي ضد داعش أيضا خارج مجلس الأمن الدولي، وهو كذلك، ولكن روسيا تأخذ الأمر حجة سياسية فقط، فهي دخلت القرم دون قرار دولي وضد إرادة الدول العظمى وتسبب ذلك بعقوبات واسعة عليها.
أوباما: الموقف الروسي واحد من مشكلات العالم الثلاث حاليا، أي مع مرض إيبولا والحركات الجهادية
تصيد الخلافات
تؤكد موسكو أن واشنطن تريد تغيير النظام السوري وفرض حكم يناسبها بحجة محاربة داعش، وإلا كان عليها التنسيق مع النظام السوري ومعها. وتصرّ دائما على أنها متمسكة بحل سياسي، وباجتماع الأطراف السورية؛ النظام والمعارضة، ورفض شرط المعارضة باستبعاد رأس النظام كشرط للتفاوض. وقد رفعت روسيا حق النقض، “فيتو”، أربع مرات في مجلس الأمن ضد قرارات تحاصر النظام السوري. وأفشلت اتفاق جنيف، وتحديدا ما يخص الهيئة الانتقالية وأن تتشكل من النظام والمعارضة ورفضت استبعاد الرئيس السوري كجزء من عملية الانتقال؛ ولم تترك القيادة الروسية مناسبة دولية إلا وأعادت ترديد أن الولايات المتحدة تريد غزو سوريا وأن سوريا دولة مستقلة، وأنها لن تسمح بغزوها. الموقف الروسي لم يتزحزح قيد أنملة طيلة أربعة أعوام. كان بمواجهة واشنطن وأصدقاء سوريا. وكانت روسيا وكلما برزت خلافات في البيت الأوروبي أو بين واشنطن وحلفائها تسارع إلى عقد صفقات مع تلك الدول، كما الحال مع مصر والسعودية بخصوص اتفاقيات السلاح وغيرها، وكذلك حين حوصر المالكي في بغداد في قمّة الثورة ضد نظامه، عقدت معه صفقة الطيارات القديمة. وأخيرا ونتيجة التباعد بين تركيا والولايات المتحدة بخصوص أهداف التحالف واستبعاد الولايات المتحدة قوات النظام السوري من قائمة الأهداف، دخلت روسيا وعقدت عدة صفقات مع النظام التركي بما يسمح بارتفاع التبادل التجاري بينهما من 30 مليار سنويا إلى مائة مليار، ولكن بقيت نقطة الخلاف على الرئيس السوري قائمة بينهما.
تريد روسيا إنشاء خط غاز، يمر بتركيا وإلى أوروبا، أي تريد الاستغناء عن الابتزاز الأوكراني فيما يخص خط النفط العابر فيها إلى أوروبا. وقد أعطت حوافز في سعر الغاز إلى تركيا من أجل هذه الخط، إضافة إلى بنائها مجمعا للغاز، ومنشآت نووية.
طبعا العلاقة الروسية الإيرانية مستمرة وقوية. وقد ارتاحت لتمديد الاتفاق النووي، حيث سيسمح لها بتعزيز العلاقات التجارية مع إيران، التي ستستغل الأشهر السبعة القادمة لتعزيز دورها الإقليمي والعالمي، لتكون مستعدة لمفاوضات جديدة.
العقوبات المفروضة الآن على روسيا قاسية وخطيرة، ومحاولات بوتين الأخيرة لتفاديها وإيقاف الضرائب والتعهد بعدم متابعة المخالفات المالية الكبيرة وسواها لن تخفف من حدتها. ويرى محللون أن القدرة على الصمود وتجاهل العقوبات، وخطرها على الجانبين الأوروبي والروسي كبير، لا سيما وأن دولا أوروبية كإيطاليا وغيرها، قد لا تتمكن طويلا من الاستغناء عن الغاز الروسي، وهناك دول في أوروبا الشرقية بدأت تقدم ملاحظات بخصوص جدوى العقوبات.
روسيا دولة إمبريالية، وهي كما أوروبا وأميركا غارقة في أزمات اقتصادية كبرى، ولكنها كذلك تحاول إعادة اقتسام العالم مجددا. الإشكال الأكبر، أن هذه الإمبرياليات، غير قادرة على أن تكون إحداها مهيمنة عالميا، وما يحدث من أحلاف دولية في الفترة الأخيرة، لا يسمح بحدوث حرب عالمية جديدة؛ ربما حرب باردة جديدة، ولكن لا روسيا قادرة على تحمل العقوبات طويلا ولا أوروبا قادرة على ذلك. ولهذا ورغم حدة الخلاف بخصوص أوكرانيا خاصة وسوريا، فإن هذه الخلافات لا بد من وضع حد لها، وإلا فإن احتمال أن تتحول الحرب الباردة إلى ساخنة أمر وارد. هذه الفكرة ليست من الخيال؛ فالتاريخ مليء بالحروب العالمية، وقد تتكرّر.
*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.
.
|