أسطورة العصر مانديلا.. صانع المستحيل
الأحد, 15-ديسمبر-2013
كريم مروة -


قدّم مانديلا في حياته نموذجاً غير مسبوق في تاريخ العالم المعاصر للقائد السياسي، وللمناضل من أجل الحرية، ولرجل الدولة من الطراز الرفيع. تعلم من والده التمرد على الظلم والظالمين، والدفاع عن الحرية والتمسك بالعدالة، وهي الأقانيم الثلاثة التي رافقته على امتداد حياته. لكنّلوالتر سيسولو، الذي أصبح نائب مانديلا في قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي دوراًآخر في توعيته وفي ارتباطه بتلك الأقانيم الثلاثة حين تعرّف إليه مانديلا في مطالع حياته النضالية.

تنقسم حياة مانديلا حين أصبح رئيساً للمؤتمر الوطني الأفريقي إلى ثلاث مراحل كانت تشكل كل منها تمهيداً للمرحلة اللاحقة وتعظيماً لدوره. كانت المرحلة الأولى البداية الأساسية في تكوين شخصيته. وهي المرحلة التي عاش فيها سبعة وعشرين عاماً داخل السجن ثابتاً في موقفه وهو يحمل راية الدفاع عن الشعب الأفريقي صاحب الأرض وصاحب تاريخها في الحرية وفي امتلاك حقه في أن يكون هو سيد مصيره. لحقه في السجن لفترة من الزمن نائبه والتر سيسولو. وحين خرج سيسولومن السجن شاركه في قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي بطل لا يجوز إغفال دوره التاريخي هو الأمين العام أوليفر تامبو.

في مطالع التسعينات بدأت مفاوضات صعبة بين مانديلا في السجن ورفاقه في المؤتمر الوطني الأفريقي وبين آخر رئيس لجنوب أفريقيا دي كلارك. وحين خرج مانديلا من السجن في عام 1993 في أعقاب تلك المفاوضات العصيبة والشائكة بدأت المرحلة الثانية التي توّج فيهانضاله من داخل السجن. وهي المرحلة التي أصبح فيها رئيساً للبلاد بالانتخاب الديمقراطي الحر. وتميزت هذه المرحلة باختياره آخر الرؤساء البيض دي كلارك نائباً ثانياً له، إذ كان النائب الأول للرئيس تامبو مبيكي الذي أصبح بعد استقالة مانديلا الرئيس الثاني لجمهورية جنوب أفريقيا.

وكان قرار مانديلا اختيار دي كلارك في ذلك الموقع اعترافاً منه بالدور التاريخي لرئيس أبيض في إنهاء مأساة الشعب الأفريقي في ظل الفصل العنصري، وتسهيل انتقال جنوب أفريقيا إلى حكم السكان الأصليين لبلادهم.في هذه المرحلة ظهرت كل صفات وسمات الرئيس الديمقراطي في بلد كان ينتقل شعبه في سرعة صاروخية، من عهد العبودية والظلم والقهر باسم العنصرية، إلى حكم بلده.

أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة التي أراد مانديلا أن ينهي حياته بها. إذ اختار طوعاً أن يترك المسؤولية بعد أن قام بما كان يعتبره واجباً عليه إزاء شعبه. اختار أن يقضي القسم الأخير من حياته بعيداً عن المسؤولية، وأن يترك للشعب اختيار قادة جدد من جيل الشباب، من دون أن يتخلى عن مسؤولياته وهو خارج السلطة.

وقد أراد بخروجه من الرئاسة أن يقول لشعبه وللعالم جميعاً بأن على أي مسؤول في الدولة في أي بلد أن يعرف بأنه لا يحق له أن يظل ممسكاً بالسلطة حتى آخر حياته بالقسر وبالقهر وبالفساد وبالاستبداد!

هذه المراحل الثلاث من حياة مانديلا هي التي أعطت لشخصيته طابع الأسطورة، وجعلت منه ظاهرة فريدة من نوعها في العصر. وقد جعلته ظاهرته هذه يدخل في قلوب الملايين في أرجاء المعمورة. فهل ستتمكن الشعوب الأفريقية أن تنتج نظيراً له في ظروف معاناتها القديمة والجديدة؟ وهل ستتمكن ثوراتنا العربية الجديدة من إنتاج، عندما تحقق في زمن قادم انتصارها على أنظمة الاستبداد والفساد والتخلف والقمع والاذلال لشعوبنا، نموذجاً يشبه مانديلا؟
"مانديلا سيظل البطل الأسطوري لجنوب أفريقيا وبطل القارة الأفريقية، والبطل الأسطوري لكل حركات التحرر"

وللحقيقة فإنه من الممكن القول إن مانديلا قد صنع في سيرته وفي الإنجاز التاريخي الذي حققه لشعبه ولبلدهما كان مستحيلاً تصوره في الخيال. لذلك فباستطاعتنا إضافة صفة صانع المستحيل إلى جملة صفاته الأخرى.

لقد أتيح لي أن أتعرف إلى العديد من قادة الحركة الوطنية في جنوب أفريقيا، من قادة المؤتمر الوطني الأفريقي ومن قادة الحزب الشيوعي الذي كان الشريك الدائم للمؤتمر في كل مراحل النضال ضد العنصرية منذ مطلع القرن الماضي. تعرّفت في ستينات القرن إلى الأمين العام للمؤتمر الوطني أوليفر تامبو وإلى عدد غير قليل من قادة المؤتمر.

وتعرّفت في ذلك التاريخ إلى أمينين عامين للحزب الشيوعي هما الأفريقي جون ماركس والهندي يوسف دادو أحد تلامذة غاندي. وفي عام 1994 ذهبت إلى جنوب أفريقيا لكي أقدم التهنئة لقادة جنوب أفريقيا الجدد باسم الحزب الشيوعي اللبناني بالانتصار العظيم. لم أستطع أن ألتقي بمانديلا الذي كان خارج البلاد، لكنني اِلتقيت بنائبه في رئاسة الحزب والتر سيسولو، ونائبه في رئاسة الدولة تامبو مبيكي. كما تعرّفت إلى العديد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والنقابية خلال الأسبوع الذي قضيته بين جوهانسبورغ وبريتوريا.

لكن الإنصاف يقضي بالتنويه بدور الحزب الشيوعي الذي كان آخر أمين عام له قبل التحرير كريس هاني الذي اغتيل بعد ذلك الانتصار العظيم. وخرج الملايين في تشعييه وعلى رأسهم مانديلا.

وأشهد أنني اكتشفت في حواراتي الطويلة مع سيسولو ومبيكي والأمين العام للحزب الشيوعي شارل نكاكولا الذي خلف كريس هاني، بأن مانديلا كان يعرف عندما نجحت المفاوضات مع البيض وتم انتخابه رئيساً للجمهورية أن مستقبل جنوب أفريقيا سيكون مختلفاً في قيادة الأفريقيين للبلاد عن المرحلة التي كانت تحت قيادة البيض. وجوهر الاختلاف الذي شرحه لي بواقعية القادة الثلاثة سيسولوومبيكيونكاكولايقوم على الصعوبة التي ستواجه الأفريقيين الخارجين من عهد العبودية والقهر في قيادة بلد كان من أكثر البلدان تقدماً. وهو ما نشهد نموذجاً له خلال الفترة الممتدة من لحظة الاستقلال حتى هذه اللحظة.

لكن مانديلا سيظل البطل الأسطوري لجنوب أفريقيا وبطل القارة الأفريقية، والبطل الأسطوري لكل حركات التحرر. فهل سيتعلم من مدرسته من يعتبرون اليوم أنفسهم في مقام القادة الذين يحملون راية النضال من أجل الحرية في بلداننا العربية، لا سيما في فلسطين التي تواجه منذ عقود ما واجهه من عنصرية شعب جنوب أفريقيا وبطله التاريخي مانديلا؟!


*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.