كيف يكون الوفاء لياسر عرفات.. في ذكرى غيابه
الاثنين, 11-نوفمبر-2013
خيرالله خيرالله -


قبل تسع سنوات، غاب ياسر عرفات. في ذكرى رحيل الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، برز مجددا في السنة 2013 الكلام عن أنّ الرجل قضى بالسمّ الذي دسّ له أثناء فترة الحصار التي قضاها في رام الله. قد يكون هذا الكلام صحيحا، خصوصا أن التحليلات الطبية التي أجريت في سويسرا رجحت ذلك. لكنّ ما قد يكون أهمّ من هذا الكلام، الظروف التي رافقت وضع «أبو عمّار» ابتداء من أواخر السنة 2001 في الإقامة الجبرية في «المقاطعة». مؤسف أن ذلك حصل ذلك فيما العالم، بمن فيه العالم العربي، يتفرّج.

كان هناك، على سبيل المثال، بعض العرب المتواطئين مع الاسرائيليين لمنع عرفات من الظهور، حتى بالصوت والصورة، في قمة بيروت التي انعقدت في آذار- مارس 2003. من يتذكّر وقتذاك كيف منعت السلطات اللبنانية، التي كانت تحت الوصاية السورية، الزعيم الفلسطيني من توجيه خطاب إلى القمة عبر الأقمار الاصطناعية، وذلك بحجج واهية؟

جاء هذا التطوّر الجديد المتمثل في وجود إثباتات معيّنة ترجح تسميم «أبو عمار»، في وقت بات معروفا أنّ المؤسسة العسكرية والأمنية والسياسية الحاكمة في اسرائيل، بكلّ اتجاهاتها تقريبا، راحت تعتبر ابتداء من بداية السنة 2001 أن وجود ياسر عرفات في رام الله بات عبئا. أصبح هناك شبه إجماع اسرائيلي على أنّه لم يعد ممكنا التعاطي معه بأي شكل.

كان مفروضا في البدء إعدام «أبو عمّار» سياسيا. وهذا ما حصل بالفعل. ظهر هذا الموقف جليا من خلال المؤتمر الذي ينعقد مطلع كلّ سنة في منتجع هرتسيليا، غير البعيد عن الحدود اللبنانية. تشارك في هذا المؤتمر شخصيات اسرائيلية نافذة تمثّل معظم مراكز القوى والاتجاهات والمؤسسات في دولة تمتلك قوة عسكرية كبيرة ولا تزال تعتقد أنّ في استطاعتها تكريس الاحتلال للأرض الفلسطينية، خصوصا لجزء من الضفة الغربية والقدس الشرقية.

تبلور الموقف الاسرائيلي الجديد من «أبو عمّار» نتيجة فشل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000، وهي القمة التي ضمّت الزعيم الفلسطيني الراحل والرئيس بيل كلينتون، الذي كان في الشهور الأخيرة من ولايته الثانية، وإيهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتذاك.

لم يقبل ياسر عرفات، في تلك القمة، ما كان مطلوبا أن يقبل به. في الواقع، لم يكن العرض الذي قدّمه باراك واضحا إلى درجة يمكن إلقاء اللوم في فشل القمّة على «أبو عمّار». على الرغم من ذلك، جرى الترويج أميركيا وإسرائيليا لمقولة أن ما قدّمه الجانب الاسرائيلي كان تنازلات كبيرة لم تحظ بلفتة من الزعيم الفلسطيني.

لاشكّ أن الظروف التي تلت تلك المرحلة لم تخدم الزعيم الفلسطيني الذي ارتكب خطأين فادحين في أسابيع ما بعد القمة. يتمثّل الخطأ الأوّل في رفضه الإطار العام للتسوية الذي عرضه كلينتون في الأيام الأخيرة من السنة 2000 والآخر في ما سمّي «عسكرة الانتفاضة». لم يضع «أبو عمار» في حساباته أن الرئيس الأميركي سيوصي خليفته جورج بوش الابن بوقف التعاطي معه بعدما خذله. والحقيقة أن بوش الابن لم يكن حتى في حاجة إلى مثل هذه النصيحة كي يسير فيها وكي يرفع الغطاء الأميركي عن «أبو عمّار». ساعده في ذلك العمل الإرهابي الذي أقدمت عليه «القاعدة» في الحادي عشر من أيلول- سبتمبر 2001 والذي جعل الأولوية الأميركية لما سمّي «الحرب على الإرهاب».

أمّا الخطأ الآخر فتمثّل في أنّ الزعيم الفلسطيني لم يفرّق بين وضع الضفة الغربية ووضع جنوب لبنان الذي انسحب منه الاسرائيلي في أيّار- مايو 2000. ظنّ أن مجرّد اندلاع انتفاضة جديدة يستخدم فيها السلاح وقتل بضع عشرات من الجنود الاسرائيليين، سيجعلان اسرائيل تنسحب من الضفة الغربية. لم يتفطن إلى مدى تعلّق اسرائيل باحتلال جزء من الضفة من منطلق أنها «أرض متنازع عليها»، فيما كانت مستعدة في كلّ وقت للانسحاب من جنوب لبنان، بموجب القرار 425، لقاء ضمانات معيّنة لم تحصل عليها عمليا إلا بعد حرب صيف 2006 وصدور القرار الرقم 1701 الذي وافق «حزب الله»، الذي كان يقود «المقاومة»، على كلّ حرف فيه.

المهمّ الآن، أن لا تطغى قضية تسمّم ياسر عرفات على التفكير في المستقبل. لا يختلف عاقلان على أن قضية التسمّم مهمّة وأن هناك مصلحة عربية وفلسطينية في كشف المجرم، خصوصا أن ارييل شارون خلف باراك في رئاسة الوزارة في شباط- فبراير 2001.. وكان لشارون حساب ذو طابع شخصي يودّ تصفيته مع الرجل الذي وضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الأوسط.

ماذا يمكن أن يعني التفكير في المستقبل في ظلّ الانسداد السياسي التام في المفاوضات الهادفة، إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلّة «قابلة للحياة» عاصمتها القدس الشرقية؟ كيف يتصرّف الفلسطينيون في ضوء الرغبة الإسرائيلية في متابعة الاستيطان وقضم الأرض الفلسطينية؟

يفترض في الفلسطينيين أن يطرحوا على أنفسهم مثل هذا النوع من الأسئلة في حال كانوا يريدون البقاء أوفياء لذكرى ياسر عرفات الذي عاد إلى فلسطين بفضل اتفاق أوسلو، بايجابياته وسلبياته، وهو يطرق الآن أبواب القدس يوميا من حيث ووري الثرى في رام الله.

لاشكّ أن «أبو عمّار» استطاع تحقيق الكثير على طريق إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني. لاشكّ أنّه لم يستطع استكمال المسيرة لأسباب كثيرة تحتاج إلى بحث مخصص لهذا الموضوع. ولكن، من يريد أن يكون وفيّا له يعمل أوّلا من أجل أن لا تكون الضفة الغربية أرضا طاردة لأهلها، استمرّت المفاوضات الدائرة مع اسرائيل بناء على رغبة أميركية، أم لم تستمرّ. ذلك هو التحدي المطروح، وهو تحدّ يمكن أن يساهم في صمود الشعب الفلسطيني الذي يمتلك سلاحا في غاية الأهمّية. إنّه شعب استطاع المحافظة على هويته الوطنية برغم كلّ الظلم الذي تعرّض له.. طوال قرن من الزمن.

لا يمكن شطب شعب صمد كلّ هذه السنوات من خريطة الشرق الأوسط بغض النظر عن مرحلة المخاض التي تمرّ بها المنطقة والتي جعلت ترتيب الأولويات العربية ينقلب رأسا على عقب.


*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.