نحو مشروع وطني للمستقبل
الثلاثاء, 08-أكتوبر-2013
يوسف الحسن -



أحسب أننا بحاجة إلى إطالة النظر في حقائق الجغرافيا والتاريخ والهوية الوطنية المنشودة، والتأمل في أحوال إقليم الخليج، كمنطقة حساسة بكل المقاييس، والنظر في خريطة الإقليم والعالم من حولنا، باعتبار أن الخريطة سوف تذكرنا بحقائق تبدو غائبة عن ذاكرة البعض منا، وإذا أطلنا النظر، ستبدو أمامنا أننا نعيش في وسط منطقة تمور بالقلق والفوران والتفاعلات الصاخبة أو الهاجعة، ويكفي الإصغاء إلى نشرة أخبار تلفزيونية، لنعرف أن الدم ينزف من كل الخاصرات، وأن وهج النيران يلفح الوجوه عن بعد، وأن المواعظ والتربويات والنوايا الحسنة، لم ترسخ مصدات للعنف المادي والمعنوي، ولم تحل دون عسكرة العلاقات الإقليمية، ولا عقلنة الخلافات والنزاعات .


تتحرك على الخريطة حولنا، كتل بركانية متدحرجة على غير هدى، لا تضبط حركتها قوانين معروفة، وبقدر ما تبدو الخريطة معقدة، فإن الحقائق على الأرض أكثر تعقيداً، فالوطنية تضرب بسيف الدين، ومطرقة التفتيت للنسيج الأهلي والحدود، لها قدرة هائلة على التدمير والفوضى، ولا ننسى أن حلم “السلام” بين عرب و”إسرائيل”، تبخر حتى ما كان موجوداً على ورق .


أما إيران، فلا أحد قادر على المحاربة، ولا أحد يستطيع قبول المسالمة، هي معادلة خطرة، وحيرة شديدة في آن .


ومنطق الأمن السائد في المنطقة، لا يستطيع وحده وقف الفوضى واللايقين، خاصة حينما يكون مجرداً من أية رؤية اجتماعية وسياسية وثقافية، وكذلك الحال مع منطق “الإسلام الرسمي” الذي يتغير بتغير الأحوال والمصالح، والذي أجاز هيمنة “الثقافة الدينية” على ساحات بلدان الخليج العربية في عقدي الثمانينات والتسعينات، وعلى هامش هذه الثقافة، انتعشت ثقافة جماهيرية سطحية (طبخ، ماكياج، شعوذة، دين زاعق، طب بديل . . إلخ)، ويكفي أن نستحضر معارض الكتاب في الدول العربية، لنقف على هذه الظاهرة بجلاء، وقامت حول هذه الثقافة حركة تعريفية وتسويقية نشطة ومؤثرة .


ويصعب إنكار دور “الرضا” المباشر وغير المباشر، لهذه الظواهر الثقافية العامة، والتي توفر فاعلين سياسيين وثقافيين، يعملون على الترويج لها .


واليوم نكتشف مدى تأثيراتها السلبية على شبابنا، وما أفرزته من تعاظم لدور تيارات إسلامية سياسية متشددة، وبروز “تدين زاعق”، من غير روحانية عميقة، تسمو على غرائز الأنانية والكراهية، وتنشد السماحة والتراحم، حتى وصلنا إلى تيارات سياسية “وقواعد شعبية”، تفهم الدين كطقوس، وكاستثمار سياسي، ومسلكيات عنف دموي .


في تلك العقود، وما بعدها بقليل، ظل المشروع الوطني في المنطقة ضبابي التحديد، ومقيداً بكثير من المعطيات الاقتصادية المجردة، وأسهمت ندرة النقاشات العامة حول السياسات الوطنية، والهوية الوطنية، في ضعف تعبئة المواطنين حول هذه المسائل، ومعرفة الأولويات والتحديات والفرص . ورغم أننا نجحنا في بناء نماذج ريادة أعمال ناجحة، في الصحة والتعليم والأمن والاستقرار والرفاه الاجتماعي، وامتلكنا قدرات ونفاذاً إلى الموارد المالية والتجارة، وتمتعنا بروابط دولية واسعة، إلا أن مشروعاً وطنياً للمستقبل، بأبعاده الفكرية والعلمية والسياسية والبحثية والثقافية، ظل ضبابياً إلى حد يشبه الفراغ، حيث غابت التنمية السياسية، وأخفقت تنمية ثقافية منشودة، رغم ولادة نجاحات محدودة مبعثرة، وواجه التعليم العالي إشكالية على مستوى التكوين الثقافي للشباب، وصُبغت الهوية الوطنية بصبغة رومانسية غائمة . لا ندري، هل هي تعبير عن حاجة لمواجهة الفسيفساء الديموغرافية المتفاقمة، أم أنها تعبير عن ضرورة لإعادة ترتيب عناصرها (عناصر الأنا الشخصي والجماعي)، وإعادة التوازن داخل الوعي العام، باعتبار أن الهوية هي وعي بالذات متطور ومتجدد .


بشكل عام، غاب المشروع الوطني خليجياً وعربياً الذي يعيد اكتشاف الذات الوطنية ويكيفها مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجارية في الداخل والخارج، ويطور بنيتها الثقافية، وينمي ويجدد هويتها، ويقوي عناصر التماسك في المجتمع، ويملأ الفراغ الفكري، ويتجه رأساً للأجيال القادمة، وجيل الشباب، الذي تتعلق الأوطان بحبال همته، ونحتاج لفهمه أولاً ولطموحاته وتفكيره، ولا يكفي ضمان مزايا توفرها الدولة له، ضمن نموذج “دولة الرفاه”، من تعليم وصحة ومسكن وماء آمن وأمن ومستوى معيشة مرتفع .


في ظل هذا الفراغ، كان سهلاً على تيارات “الإسلام السياسي” أن تملأه، مثلما صار سهلاً على آفات أخرى أن تخترقه، كالمخدرات، والميل إلى العنف الشخصي، والذي صار يأخذ شكل “عصابة” (Gang)، والاستهلاك التفاخري، وغير ذلك من السلوكيات السلبية، وبخاصة تأثره الشديد بسلبيات مجتمع الإعلام التقليدي والجديد الاجتماعي، والثقافة المعولمة، وفضاءات سائبة، تغلب عليها الثرثرة والترفيه والتغريب، ولا تؤسس لثقافة وطنية، ولا تحفز الإبداع والتفكير .


في غياب المشروع الوطني في المنطقة، بأبعاده الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وضبابية الهوية وضعف تجذرها في الوجدان والسلوك والمناهج ووسائط الإعلام، وهشاشة التكامل بين الثقافة والتعليم والإعلام من ناحية، والعمل التنموي من ناحية أخرى، واختلال التوازن بين الأشكال الإنتاجية الثقافية، ومعاناتها من أزمة ذاتية، وندرة النقد والنقاش العام، وغير ذلك من الأبعاد والعناصر، أوجد كل هذا الغياب، وتفاعلاته، فراغاً هائلاً، وإشكاليات متعددة، وأنتج خطاباً ثقافياً “دفاعياً”، لا مبادراً أو استراتيجياً، وبدت الثقافة أنها غير قادرة على صياغة قيم وبنى تحتية تصلح أساساً للبناء الاجتماعي والهوية الوطنية . . ولتغذية التماسك الاجتماعي وإثرائه، وتحفيز الطاقات والإبداع والتفاعل الإيجابي المنتج مع العصر .


ومن عواقب هذا الغياب، وهذا “الفراغ” سهولة الارتداد إلى هويات فرعية مذهبية وقبلية، ونشوء حاضنات للفكر الديني المتطرف ومسارب غير ممانعة لفساد أو محسوبية، وعلوم دينية في ثقافتنا بقيت مستعصية على التجديد، وغيرها الكثير .


لا نبالغ إذا قلنا إن الثقافة في المشروع الوطني، قضية أمن وطني، وهي ليست شأناً خاصاً بوزارة الثقافة، أو بمؤسسات ثقافية “محلية”، وإنما هي شأن عديد من الوزارات والمؤسسات وجمعيات النفع العام (التي تحتاج إلى إنعاش) . . إنها مسؤولية الجميع .


هناك إذاً حاجة ماسة لمشروع وطني للمستقبل، يعزز سلطة الدولة الوطنية ودورها، بوصفها الضامن الأول لحقوق المواطن ورفاهيته وأمنه الإنساني الشامل .


إن السياسة في المشروع الوطني هي الرؤى والاختيارات، وهي آليات تطبيق وأطر تنفيذية، في حين تكون الثقافة والفكر مضمونه ومحتواه، وهما اللذان يضفيان الشرعية على السياسة ويساعدانها .


المشروع الوطني، هو الذي يملأ “الفراغ”، ويعطي للإنسان قوة الإلهام، ويحفز التماسك المجتمعي، ويعزز القدرات الذاتية للاستجابة إلى تحديات المستقبل، ومواجهة رياح التغيير السلبي وثقافات الهيمنة الخارجية، وتيارات الغلاة . ويوفر مناعة مستدامة “لمجتمع متوحد”، وراسخ في قيم مشتركة، وضمان ديناميات المبادرة والإبداع والتجدد والعافية والعطاء والتأثير .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.