وهج الذهب هل يستمر ؟
الخميس, 03-أكتوبر-2013
د . لويس حبيقة -

بالرغم من تقلب أسعاره وتغير دوره، يبقى وهج الذهب قوياً وكبيراً . كيف يفسر هذا البريق المستمر؟ ما هي عوامل العرض والطلب الأساسية التي تؤثر، بل تحدد سعره؟ ما هو مستقبل هذا المعدن الفريد من نوعه؟ هل يبقى له أي دور نقدي أم أصبح فقط معدناً يستعمل في بعض الصناعات أهمها المجوهرات والحلي وبعض حرف التزيين؟ لماذا يتابع العالم تطور سعره بينما لا تعطى الأهمية نفسها لمعادن أخرى كالحديد والفولاذ وحتى الفضة؟ قال الرئيس الفرنسي الأسبق “شارل ديغول” إنه لا بد من العودة إلى الذهب كنقد دولي لدعم الاستقرار بسبب ميزاته الفريدة وسهولة نقله وبريقه اللافت، ولأنه لا يتبع إدارياً وسياسياً لقرارات أي دولة كبيرة كانت أم صغيرة . تجاهل ديغول تقلبات سعر الذهب التي تبقى كبيرة، وإن تكن أقل من بعض السلع الأخرى . هدف ديغول كان سياسياً بامتياز، أي محاولة منه للتخلص من سيطرة الليرة البريطانية ثم الدولار الأمريكي على التبادلين التجاري والمالي العالمي . هدفه العودة الى الذهب كنقد دولي لا تسيطر عليه أي من الدول الكبرى المنافسة لفرنسا .


تاريخ الذهب مهم ويعكس تغيرات الاقتصاد الدولي . بعد أن كان المعدن الأصفر النقد الدولي الأساسي حتى سنة ،1914 أصبح نقداً ثانوياً، أي بعد الدولار، بدأ من سنة 1944 نتيجة اتفاقية “بريتون وودز” الشهيرة . انتهى دور الذهب كنقد بعد أن حرر الرئيس نيكسون علاقة الدولار به في 15-8-1971 ولم يعد هنالك نقد دولي واحد بل مجموعة من العملات تتنافس بدءاً من الدولار الى الين والمارك والفرنك وصولاً لاحقاً الى اليورو واليوان الصيني المرشح للعب دور نقدي مستقبلي كبير . كلما انخفضت ثقة المجتمع الدولي بالعملات المتوافرة، ترتفع قوة الذهب، ليس فقط في السعر وإنما في الجاذبية والأهمية . وكلما توترت الأجواء السياسية والأمنية الدولية، كلما فكر المجتمع الدولي أكثر في الذهب . ولا شك في أن تاريخ الذهب هو مسلسل من التغيرات الحضارية والثقافية والاقتصادية التي عرفها العالم على مدى قرون من الزمن . لم يعد الذهب نقداً اليوم، لكن قيمته تبقى جاذبة وتحوز على ثقة المواطنين خاصة في الظروف الصعبة التي نعيشها منذ سنة 2008 .


للذهب مزايا فريدة تبدأ من اللون، علماً أن كلمة “Gold” تعني أصفر، من هنا يسمى الذهب بالمعدن الأصفر . قوة الذهب هي في ديمومته وبريقه الذي يضيء الليالي وسهولة استعماله بأحجام مختلفة وكذلك في كثافته الثابتة . اذا قارنا مثلاً بين الفولاذ والذهب، نرى أن الأول يستعمل في العديد من الصناعات كالبناء والسيارات والبواخر وغيرها لكنه لا يجذب الناس كما يفعل الذهب . للأخير استعمالات أقل بكثير لكنه يسمى بالمعدن الثمين ربما لأن حياة الذهب أطول ويمكن التحكم بشكله وحجمه بشكل أكبر كما يواجه الصدأ بعناد . نشير الى أن كلمة فضة أو Argent بالفرنسية تطلق أيضاً على النقد الورقي العادي، أي أن قيمة الفضة ليست مرتفعة ولا تبعد كثيراً عن قيمة الورق وأنها بعيدة جداً عن سعر الذهب . عرض الذهب أقل بكثير من عرض الفضة، مما يفسر الفرق الكبير في السعر . لا شك في أن الطلب مختلف أيضاً في تفاصيله .


ما هي العوامل التي تحرك الطلب على الذهب وهي مرتبطة ليس بالاقتصاد فقط وإنما بعلم النفس والتاريخ والثقافة بالاضافة إلى السياسة والأمن؟


أولاً: يمثل الذهب سعي المواطن للاستمرارية في حياته المادية أي الثبات في القيمة والهروب من المخاطر . ويشكل الذهب نوعاً من الضمانة أو التأمين في الظروف الصعبة . هنالك ثقة بالذهب وبريقه لا يبررها الاقتصاد بل تفسرها العوامل النفسية والتاريخية . بالرغم من تقلب أسعار المعدن الأصفر يبقى موضع ثقة من قبل المواطن العادي وحتى من قبل المؤسسات والشركات والمصارف المركزية .


ثانياً: يروي الكاتب “جون راسكين” قصة مواطن قلق وخائف من تطورات الأوضاع في بلاده، فباع كل شيء وحوله الى ذهب . أخذ السفينة وسافر الى بلاد الاغتراب . أصيبت السفينة وها هي تتعرض للغرق في عرض البحر . فما كان من المغترب إلا أن ربط كيس الذهب على خصره وقفز من الباخرة فغرق وتوفي . هذا تصرف غير عقلاني لكنه يشير الى التعلق غير الواعي بل الغريزي للإنسان بالثروة المادية فيعطيها أهمية ربما تفوق حياته . لم يكن ليتصرف بنفس الطريقة ربما لو كان معه أصول غير الذهب . يقول الاقتصادي “بيتر برنستين” إن المواطن يأخذ موضوع الذهب بجدية كبيرة وفريدة ومستعد للتضحية للحصول عليه وربما الغرق معه .


ثالثاً: قديماً كان الطلب على الذهب يأتي من قبل السلطات الدينية الغربية كما من الأمراء والملوك . يعطي الذهب صورة أو يؤشر الى السلطة والثروة والعظمة والقرب من الرب . ما تبقى منه كان يستعمل للمجوهرات والصناعات الخفيفة كما للزينة . أما الأغنياء فيشترون الذهب لسهولة نقله وأحيانا لإخفاء ثروتهم، أي يستبدلون الظاهر من أصول عقارية وانشاءات بالذهب الذي يمكن اخفاؤه في المنزل .


رابعاً: تشير الوقائع الى أن الطلب على الذهب كان يرتفع في المجتمعات التي تزدهر فيها التجارة والأعمال . وبالتالي كان يستعمل الذهب كنقد للتبادل التجاري . فازدهار أسواق الذهب كان نتيجة لانتعاش الأسواق التجارية وللاستقرار السياسي والأمني . لم يكن الذهب سبباً للاستقرار المالي الدولي الذي تحقق حتى سنة 1914 وإنما كان نتيجة له . في تلك الفترة لم تحدث حروب كبرى على عكس ما حصل منذ سنة 1914 أي حروب مستمرة بشكل أو آخر حتى اليوم .


تحويل الذهب إلى نقد سمح للجميع باقتنائه وبالتالي جعله أكثر شعبية وديمقراطية . وبسبب التزايد السكاني المستمر دولياً، يرتفع حكماً الطلب على معظم السلع والخدمات وفي مقدمها الذهب .


هل يمكن العودة الى نظام نقدي عالمي يرتكز على الذهب؟ الجواب سلبي لأسباب متعددة . أولاً أن كميات الذهب المتوافرة لا تكفي لتغطية حجم التبادل التجاري الدولي . ثانياً، لا يمكن للدول الكبرى أن تتنازل عن عملاتها لتستقبل الذهب مجدداً . ثالثاً، أن أي نظام يعيد الذهب الى مركز النقد الدولي يجب أن يرتكز على أسعار صرف ثابتة وهذا مستحيل في ظروف تقلبات سياسية وأمنية واقتصادية دولية كبيرة . لا يوجد نقد دولي رئيس اليوم، بل مجموعة منه وسيبقى الوضع كذلك . أخيراً بالرغم من هذه الأسباب يبقى للذهب وهجه النفسي الذي لا يمكن إزالته . الناس ترغب فيه كملجأ وبوليصة تأمين وجماله منه وفيه، ولا يمكن اقناع الناس بالعكس حتى لو حاولنا .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاقتصادية.