محاربة الفقر عبر النمو
الثلاثاء, 16-يوليو-2013
د . لويس حبيقة -
يبقى الفقر من أهم مشكلات الألفية الحالية لانعكاسه على الاستقرار السياسي والأمني كما الاقتصادي والاجتماعي . سبب الفقر هجرة الملايين من قارات الى أخرى سعياً وراء لقمة العيش . مصادر الهجرة تغيرت كثيراً مع الوقت تبعاً للظروف المعيشية والسياسية . الدول المستقبلة تغيرت أيضاً تبعاً لحاجتها إلى اليد العاملة الجديدة ونوعيتها . كل الدول تسعى اليوم إلى تحديد الهجرة في الاتجاهين تجنباً للخسائر وتخفيفاً لتكلفة الاستيعاب المهمة . للهجرة خصائص تؤثر في الموازنات والنمو وتكلفة الضمانات الاجتماعية والصحية . هنالك أسباب اقتصادية مرتبطة مباشرة بالهجرة، لكن هنالك أيضاً أسباباً أخرى مرتبطة بالأديان واللغات والحفاظ على مستوى المعيشة وغيرها . بين سنتي 1850 و ،1914 خسرت أوروبا ربع يدها العاملة أو عشر سكانها التي توجهت إلى أمريكا وأستراليا وغيرهما . اليد العاملة بحد ذاتها ليست مصدراً أساسياً للنمو، إنما اليد العاملة المتعلمة المدربة الكفؤة هي كذلك وهنالك منافسة دولية لاستقطابها .

من ناحية الدول المصدرة للمهاجرين، تغيرت الخريطة كثيراً بسبب الحاجة والتطور الاقتصادي . في فترة 1821 -،1890 90% من المهاجرين أتوا من أوروبا معظمهم من الشمال والغرب الأوروبي . في فترة 1891-،1920 89% أتوا من أوروبا إلا أن الأكثرية قدمت من الشرق والوسط الأوروبي، إضافة إلى جنوبي القارة القديمة . في فترة 1991 -،1998 فقط 3 .14% هاجروا من أوروبا مقابل 3 .49% من القارة الأمريكية (الجنوب خاصة) و32% من آسيا والبقية من إفريقيا . تحصل الهجرة لتحسين مستوى المعيشة، فعندما تحسنت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية خفت الهجرة منها، بل أصبحت تستقطب المهاجرين إليها من الدول العربية وتركيا ومناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق . كانت الهجرة النوعية مصدراً أساسياً للنمو وما زالت ضمن شروط مقيدة أكثر، لكنها واضحة ومتغيرة تبعاً لحاجات وقدرة الدول المستقبلة .

من مصادر النمو الأساسية الصحة والتعليم اللذان يعتبران أهدافاً بحد ذاتهما . كل شيء يبدأ من الغذاء الجيد، إذ تثبت الدراسات أن الأطفال الذين لا يحصلون على غذاء صحي لا ينجحون في الدراسة وتكون صحتهم عموماً دون المستوى . ليس كل التعليم مفيداً بنفس الدرجة للنمو، وذلك تبعاً لواقع الدولة والمجتمع . التعليمان الابتدائي والثانوي مفيدان جداً خاصة للدول الواقعة في فترات تنمية بدائية، أي عملياً الدول النامية وأكثرية الدول الناشئة . التعليم المهني والتقني مفيد جداً خاصة في الاقتصادات المتقدمة التي تحتاج إلى التقنيين والحرفيين الكفؤين . هنالك دول فقيرة تستثمر كثيراً في التعليم المهني والتقني ليس لحاجتها إليه، وإنما لإعطاء المتخصصين فرص عمل ليس في الداخل وإنما في العالم المتطور عبر الهجرة .

التعليم في كل حال جيد جداً، لكن الأهم هو قدرة الشباب على الحصول عليه بتكلفة مقبولة . لا يتوافر الاقتراض للعلم في كل الدول، وبالتالي يكون التعليم الجيد أحياناً مقفلاً أمام الطبقات غير الميسورة وهذا يضرب فرص التنمية المستقبلية . هنا تكمن أهمية وجود منح تعليمية كافية لتوفير الفرص خاصة للمجتهدين بحيث لا يذهبون ضحايا القدرات المالية . أما في الصحة، فهنالك عوائق أساسية أمام المجتمعات الفقيرة التي تعاني من أمراض منتشرة بسرعة وقوة بين شعوبها وليست هنالك قدرة للحكومات على المحاربة الفاعلة . تكمن المشكلة أيضاً في أن الإنفاق الدولي على الصحة يركز على حاجات الدول الغنية بل المواطن الغني أينما يكون ويهمل الفقراء الذين لا قدرة لهم على توفير الأرباح للشركات أو على توفير التمويل للبحوث الضرورية .

لا يمكن تحقيق نمو فاعل يضرب الفقر من دون سياسات صحية وتعليمية وغذائية متكاملة وجيدة . إهمال هذه الضرورات يدفع إلى الهجرة القسرية، ما يسبب سوء الاستقبال في الدول التي لم تدعهم أصلاً . لا يمكن محاربة الفقر فقط عبر سياسات تنفذ من الأعلى أي الحكومات نحو الأسفل أي الشعوب . المطلوب تنفيذ سياسات في المستويات الشعبية السفلى والمتوسطة تستطيع النهوض بها إلى المستويات العليا بحيث تكفي نفسها وتسهم في نهضة بلادها وتخفف الرغبة في الهجرة .

يقول الاقتصادي “سولو” إن ارتفاع الدخل الفردي لا يأتي فقط من توافر الادخار الداخلي وارتفاع عدد السكان، بل تحتاج الاقتصادات إلى التقدم التكنولوجي . لم يوضح “سولو” لماذا تختلف نسب نمو الناتج الفردي بين مجتمعات وأخرى تتمتع بنفس درجات التقدم التكنولوجي . لم يتطرق “سولو” إلى قدرة المجتمعات على الاستيعاب التي تؤثر حكماً في النتائج النهائية .

في الهند مثلاً وبين سنتي 1950-،1975 ارتفع الدخل الفردي سنوياً بمعدل 8 .1% أي تضاعف مرتين خلال 40 سنة . في فترة 1975 -،2000 ارتفع الدخل الفردي الصيني بمعدل 6% سنوياً أي تضاعف خلال 12 سنة فقط . هذه فروق كبيرة في وقت واجه الاقتصادان نفس التحديات التكنولوجية واستوردا المتطور منها من الغرب لكن الاستيعاب كان مختلفاً . الفارق بين الصين والهند هو أن الأولى استقدمت التكنولوجيا وغيرتها بل أعادت تركيبها لمصلحة الواقع الداخلي ما جعلها ذات فائدة أكبر بكثير . الحقيقة في أن الدول الفقيرة تحتاج عموماً إلى أفكار جديدة وليس إلى سلع كثيرة، إذ إن النجاح في الأولى يضمن الحصول على الثانية مع الوقت وبتكلفة أقل . لا يمكن لأي دولة أن تحافظ على مستوى نموها عبر نسخ الأفكار والسلع والخدمات الخارجية، بل يجب أن تصبح منتجة أو على الأقل مطورة لها . لن تنبع هذه الأفكار من تلقاء نفسها، بل يجب وضع حوافز قانونية ومالية تشجع المبدعين وحتى العاديين على التفكير والخلق والإبداع .

في العقود القليلة المقبلة سينزح نحو 3 مليارات شخص إلى المدن للاستفادة من وسائل الراحة المتوافرة داخلها . المهم ألا ينتقلوا الى أحزمة البؤس، بل أن تجد الدول وتبعاً للاقتصادي “رومر” مناطق نموذجية تسمح لهم بالعمل والتواصل والعيش الكريم . حازت جزيرة “موريشيوس” على استقلالها سنة 1968 وكانت فقيرة، لكنها خلقت مناطق نموذجية مناسبة للاستثمارات ونجحت . تحتاج الدول كما كان الحال في “موريشيوس” إلى قيادات ملتزمة بشعوبها وتطورها، فتستقطب الاستثمارات إليها بحيث تستوعب الأعداد الكبيرة الآتية الى المدن أو تشجع بعضها على البقاء في الريف .


*. نقلاً صحيفة الخليج الاماراتية