القيادة “الشبح” في مصر
الأربعاء, 27-مارس-2013
عاطف الغمري -
قفزت إلى دوائر البحث في العلوم السياسية، قضية مواصفات “رجل الدولة” الذي يمسك بزمام الحكم والقيادة . تلك قضية مستقرة منذ زمن، إلا ما طرأ على العالم في السنوات الأخيرة، من تحولات خاصة في الفكر السياسي والاقتصادي، وما جعل العملية السياسية في أي دولة، عبارة عن عالم متغير، فإن ذلك قد طرح هذه القضية من جديد، للبحث والمناقشة والتحليل .

وبالضرورة تجذب هذه القضية النظر إلى الحالة السياسية الراهنة في مصر، وتسلط ضوءاً كاشفاً على الفرق بين الحاكم الرئيس، وبين “رجل الدولة”، وهو الذي لا ينبع قراره من الظروف التي يتطلبها الموقف الذي يواجهه في حينه، وإنما ينبع قراره من تبصره للنتائج التي لا تنحصر في مجرد تصريف الأمور .

وهذا الفرق تناولته عشرات الدراسات التي اتفقت على تحديد معايير رجل الدولة واتفقت على أن فوز الرئيس عن طريق صندوق الانتخاب، هو عبارة عن باب يدخل منه إلى عالم الحكم والقيادة، ويتطلب معايير مضافة لاكتمال الشرعية .

هذه المعايير تبدأ من الاستجابة للرأي العام الذي يجسد الضمير المجتمعي، وأن يحسن الرئيس قراءة تاريخ بلده، والخصائص القومية لشعبه، وأن يكون على تواصل مع الزمن، بحيث لا ينفصل عما يتغير في العالم من أفكار وتجارب .

وقد أصبح من المتفق عليه، أن مواصفات الرئيس - رجل الدولة، تتضمن ما يلي:

أن تكون لديه رؤية واضحة، وتوجه محدد نحو هدف يقود إليه دولته وشعبه .

أن يمتلك خطة استراتيجية تستوعب مجمل الأوضاع والقضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي يتحمل مسؤولية التعامل معها .

أن يحيط نفسه بفريق قوي من المعاونين، أصحاب الرؤية، والخبرة، والتخصص .

أن تكون لديه خاصية التحرر من قيود فكر أيديولوجي مسبق، يحصر نظرته في دائرة ضيقة، لا ترى ما هو خارجها .

أن يتصف تاريخه باستقامة المواقف، وعدم التذبذب بين الرأي والرأي المضاد إلى حد التناقض، من دون أن يمنعه ذلك من تمتعه بالمرونة في التغيير، في حالة مواجهته ظروف طارئة .

أن يكون قادراً على بث الطمأنينة في نفوس مواطنيه، في أوقات عدم اليقين، والعمل على إزالة أسباب عدم طمأنينتهم، عن طريق سرعة اتخاذ القرار، من دون تردد أو تباطؤ .

ألا يعيش في أوهام، أنه هو والدولة شيء واحد، فيعدّ المعارضين خونة، أو متآمرين، أو مثيري شغب .

هذه هي المعايير المتفق عليها التي يتصف بها رجل الدولة .

وهناك ما يعرف في مختلف أنظمة الحكم بكلمة Ghost Writer والمعنى الحرفي لها هو الكاتب الشبح، أو الكاتب في الظل . وهو الذي يكتب خطب الرئيس، بينما الخطاب ينسب في النهاية إلى الرئيس . وهو أمر معترف به، متفق مع الدساتير .

وقد شهدت مصر وضعاً قريباً من هذا - مع اختلاف في الدور والمسؤولية - اعترف بوجوده، مستشارو الرئيس الذين استقالوا تباعاً، وهو وجود دائرة مستترة، لصنع القرار، تبعث به إلى الرئيس من خارج مؤسسة الرئاسة . وهو سبب الغموض الذي يحيط بصناعة القرار، والذي يشارك فيه من ليست لديهم ملكات القيادة ومهارة الإدارة والحكم . وبهذا أصبح لدينا ما يمكن أن نسميه Ghost Leadership، القيادة الشبح، التي لا تتمتع بأي وضع دستوري . وهو وضع مناقض تماماً لإرادة شعب انتخب رئيساً ليقوده، لا أن يسلم قيادته لآخرين . وكان ذلك قد حدث بصورة ما، أيام مبارك، حين سلم إدارة شؤون الدولة في السنوات الخمس الأخيرة من رئاسته، لابنه، وهو بلا أي صفة دستورية، ما دفع النظام سريعاً إلى الانهيار .

وهناك فرق كبير بين الجماعة (القيادة الشبح)، وبين الوطن، فهي كتنظيم أيديولوجي، عاش يدير أموره سراً، لها حسابات تخصها وتفقد الشفافية، والوضوح العلني، وتتجاوز هموم الوطن وقضاياه المصيرية، بما لها من ارتباطات وعلاقات خارجية . وهذا الوضع كان من أسباب الأزمات التي تتلاحق على مصر من كل ناحية، لأن تداخل الجماعة في صناعة القرار، قد دفع الرئاسة نحو تجاهل مطلب الاستعانة بمن لديه القدرة على حل المشكلات المعيشية، والاقتصادية، وفقدان أي رؤية استراتيجية للسياسة الخارجية، وعلاقات الدولة بالخارج إقليمياً ودولياً .

ولقد أثبتت الأيام التي نعيشها، أن المختارين من الجماعة، تنحصر نظرتهم إلى العملية السياسية، في حدودهم الضيقة، فليس لديهم استيعاب لما يجري في العالم من تغيير، ولا هم يمسكون بمفاتيح صناعة التقدم التي استطاعت بها، دول فقيرة وبعضها شديد التخلف، أن تنهض، وتتقدم، وتزدهر، في سنوات قليلة . وقد ظل تبريرهم للتعثر والتدهور في الأوضاع الاقتصادية، والمعيشية، يركز على أن المشكلات كثيرة ومعقدة، ولو أنهم تركوا التفكير، والتخطيط، والإدارة، لأهل الخبرة والتخصص، لشاهدوا بأعينهم كيف أن الدول التي كانت فقيرة، ومتخلفة، كان لديها من المشكلات ما هو أكثر تعقيداً، مما لدى مصر، وأن مصر لديها من الإمكانات البشرية، والموارد المادية المهدورة، ما يفوق، ما كان لدى تلك الدول، لكن المشكلة في فقر الإدارة، وليس فقر الموارد .

إن الحالة المصرية مصابة بغياب الوعي بحقيقة أن النظام يحكم بلداً لايزال يعيش مرحلة انتقالية، لم ترسُ سفينتها بعد على شاطئ الاستقرار السياسي، والديمقراطي . وهو وضع لا يصلح الانفراد بإدارته، لفريق واحد، فمازالت بقية معايير الشرعية تنتظر أسباب اكتمالها .

والمراحل الانتقالية لا يمكن الخروج منها، إلا بتآلف كل القوى السياسية، أضف إلى ذلك أن ما جرى في مصر كان ثورة هدفت إلى إعادة بناء الدولة من جديد، ومع ذلك فقد استبعد من دائرة صناعة القرار طرف أصيل، كان له فضل إطلاق هذه الثورة، وهو طليعة الشباب من أبناء الطبقة الوسطى، واقتصرت إدارة الأمور على الجماعة، ومن هو على استعداد للتلون، ومجاراتها في أي شيء تطمح إليه .

إن الخيوط متشابكة ومعقدة، وإن حل تعقيداتها، هو مهمة من تتبلور في إدارته مواصفات رجل الدولة، حتى لو على مختلف المستويات التنفيذية، فالدولة بجميع قطاعاتها تحتاج إلى دفع الدماء في شرايينها، والقادرون على ذلك، هم أصحاب الفهم، والخبرة، والتخصص، والعلم، والمعرفة .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.