إعلام الفتنة
السبت, 23-مارس-2013
د. عبد العزيز المقالح -

عنوان هذا الحديث مستمد من أحدث الشعارات السائدة والمرفوعة في أكثر من مكان من الوطن العربي، لمواجهة المستوى الإعلامي الهابط والمنطلق خارج كل الضوابط الوطنية والأخلاقية والقومية، وخارج القواعد والمعايير المتفق عليها في دنيا الإعلام الشريف والمسؤول . وهو إعلام - كما يقول عنه منتقدوه- مأجور ومدفوع الثمن، ومهمته تمزيق آخر الخيوط في التجانس الاجتماعي والفكري الذي كان ولايزال يجمع العرب من المحيط إلى الخليج . وهو لا يألو جهداً في الانقضاض على المقومات الأساسية للمعاني الكبرى التي تقوم عليها الأمم مع إصرار على تدمير الحاضر والماضي، والرقص على جثث الخلافات الثانوية من أجل حفنة من المال المشبوه والاستضافة المؤقتة أو الدائمة في أفخم الفنادق وأعلاها أسعاراً .

ومن حسن الحظ حظ الإنسان العربي وأمته أن هذا النوع من الإعلام المشبوه مكشوف وكلماته تنزلق بعيداً من العقل والوجدان، ولا تترك أي أثر يذكر في وعي الناس حتى أولئك البسطاء الذين يتعاملون مع الكلمة بثقة مطلقة من حيث إنها مكتوبة ومطبوعة وتصدر في صحف يومية أو أسبوعية، لا تفتأ تتعرّى وتفضح نفسها وتمكن القارئ من إدراك هويتها من خلال سطور قليلة . ولا يختلف الحال فيما تنشره بعض الوسائل الأخرى كالقنوات الفضائية والإذاعات ومواقع الإنترنت التي جعلت الملايين تحجب ثقتها بهذه الوسائل أيضاً وترى فيها عدواً لدوداً لقيم التعايش والتسامح في المجتمعات العربية، بما أشعلته من نيران الخلافات وابتكرته من وقائع وأحداث من شأن الاطلاع عليها أن يهدم الجسور ويزرع النفور ويقود إلى ما هو أسوأ من الواقع الراهن بانكساراته وتمزقاته .

ومما يلفت الانتباه ما يبدو من قلق عدد من الإعلاميين الكبار من ذوي الخبرة تجاه الإعلام المشبوه أو إعلام الفتنة كما يقولون عنه، وهم لا يترددون عن إعلان مخاوفهم من الآثار السلبية التي يتركها الإعلام المنحط على الإعلام بعامة، انطلاقاً من المقولة المتداولة “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق” وهو قلق في محله . يجعلنا نتساءل : كيف نواجه إعلام الفتنة، وهل تستطيع الدولة إيقاف هذا العبث الإعلامي؟ وكيف إذا كانت الدولة نفسها ترغب في إشاعة مثل هذا الإعلام المشبوه البعيد عن نظامها ومصالحه، والذي تقتصر مهمته السيئة على تشويش الوعي الفردي والجمعي بما لا يلامس أخطاء النظام وتناقضاته؟ وجواب التساؤل يمكن استخلاصه من موقف الإنسان العربي ومن عزوفه الثابت والدائم عن هذا النوع من الإعلام، وهذا الموقف من شأنه إذا ما تعمم أن يقي الأمة من شر يتربص بأبنائها صباح مساء .

لقد تحول جانب كبير من الإعلام العربي، في الآونة الأخيرة، وبعد ثورات الربيع المجهضة من رسالته الأخلاقية والفكرية والتنويرية، إلى مناوشات سياسية عقيمة وطائفية بغيضة، وصار على العربي المأزوم المنكوب أن يختار ما يقرأ وما يسمع وما يشاهد حتى لا تختلط في ذهنه الأمور أكثر مما هي مختلطة، وحتى لا يستبدل بالذي هو خير ما لا خير فيه، ولكي تبقى صفحة ذهنه نقية خالية من كل ما يكدر صفوها ويهدد حيويتها .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.