كتاب .. تاريخ الشعوب في الحرب العالمية الثانية
الثلاثاء, 12-مارس-2013
الميثاق إنفو -
يكشف هذا الكتاب تاريخ صراع الشعوب في الحرب العالمية الثانية، خاصّة أنّه حتّى الآن، ركّزت أغلب الروايات التاريخيّة على الصراع بين دول المحور ودول الحلفاء حيث كان الهدف الهيمنة الإمبرياليّة . يبين غلوكستين أنّه في الحقيقة بين عام 1939-1945 تمّ خوض حربين منفصلتين، واحدة من “الأعلى” (حرب القوى الإمبرياليّة) والثانية من “القاع” (حرب الشعوب) .

ويسلّط الكاتب الضوء على النضال الشعبيّ بأشكاله المختلفة وحركات المقاومة التي ولدت خلال الحرب العالميّة الثانية، وكيف أنّهم لم يحاربوا فقط الفاشيّة، بل الاستعمار والإمبراطوريّات، ويشير إلى الخيانة التي لقيتها الشعوب من قوى الحلفاء في نهاية الحرب .

يكشف هذا الكتاب الغني حياة أولئك الذين خاضوا معارك في الخفاء والأسباب التي دفعتهم إلى خوض هذه الحرب، كما ينعكس على واقع الشعوب في الدول العربيّة التي شهدت ثورات، حيث ثارت لأجل الديمقراطيّة وتحسين الظروف المعيشيّة وحقوق الإنسان، في حين سعت وتسعى القوى الإمبرياليّة إلى ركوب الثورات وتوجيه دفّتها بما يخدم مصالحها ومصالح الكيان “الإسرائيليّ” في منطقة الشرق الأوسط، ولتتعرّض الجماهير بعدها لخداع تاريخيّ كبير شديد الإيلام . وقد استفاد الكثير من المحلّلين الغربيّين من موضوع هذا الكتاب في تحليل الراهن في دول “الربيع العربيّ” .

إنّ ما قدّمه غلوكستين بحق في كتابه الموجز هذا عن حرب كبرى وواقع ظلاميّ عاشته شعوب الإنسانيّة في فترة عصيبة من التاريخ الحديث، مفعم بالمآسي والفواجع البشريّة من دون أن يخلو من الأمل .

الكتاب صادر عن دار النشر البريطانيّة “بلوتوبرس”، ويقع في 267 صفحة من القطع المتوسط، والمؤلّف أستاذ جامعيّ في كليّة ستيفنسون، أدنبرة، بريطانيا، له العديد من المؤلّفات .

الشعوب لم تحارب الفاشية فقط، بل قاتلت ضد الاستعمار والإمبراطوريات

يشير الكاتب في مقدّمته أنّ الحرب العالميّة الثانية هي من الحروب الفريدة من نوعها في الصراعات والحروب التي وقعت في القرن العشرين . فالحروب الأخرى مثل الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حرب الفيتنام (1956-1975)، حرب العراق (2003)، حرب أفغانستان (2001)، بدأت بالتهيئة لها إعلاميّاً، وضاعت خلالها الحوافز الحقيقيّة للحكومات خلال الدعاية الإعلاميّة التي أجريت لها . أمّا الحرب العالميّة الثانية بقيت سمعتها إيجابيّة من البداية حتّى النهاية، ولم تلوّث حتّى الآن .

ويأتي الكاتب بأمثلة عمّا ورد حول هذه الحرب، فالضابط ديمتري لوزا في الجيش الأحمر مجّد القتال ضدّ النازيّة وسمّاها “الحرب المقدّسة” ومما قاله: “جاءت الحرب إلينا في 22 حزيران/يونيو ،1941 جلبت معها الدماء والدموع، ومعسكرات الاعتقال، ألحقت التدمير والخراب بمدننا وقرانا، وقضى مئات الآلاف من الضحايا . لو كان في الإمكان جمع كلّ هذه الدموع التي انهمرت خلال السنوات الأربع من الحرب، وصبّت على ألمانيا، لأصبحت البلاد في قاع بحر عميق . .” وفي مكان آخر أضاف لوزا: “إنّ الناس نصبوا جداراً ضدّ من يمارس القمع، والظلم، واللصوصيّة، والتعذيب . هؤلاء فاسقون، فاشيّون، تافهون، إنّهم حثالة الإنسانيّة . فقد ألقوا بكلّ كراهيتهم في وجه هذا العدو الكريه والمقيت” .

يوضحّ الكاتب من خلال استشهادات كثيرة جانباً مهمّاً في الحرب العالميّة الثانية هو أنّ الملايين من الناس كانوا يطمحون إلى المقاومة ومحاربة الإبادات الفاشيّة، الاستبداد، الاضطهاد، ولم يشعروا يوماً أنّهم وقعوا في خديعة هذا الاعتقاد . خاصة بعد ما شاهدوه من الفظائع التي قام بها هتلر داخل وخارج ألمانيا، وما ارتكبه موسولويني وإن كان أقلّ عنصريّة من هتلر في ذلك عند غزوه الحبشة في عام (1935-1936)، حتّى أنّ الكاتب يستشهد بما قاله ابن موسولويني حول هذه الحرب، التي كان يجد متعة وشكلاً من الرياضة في إلقاء القنابل على الناس . كما أنّ الهجوم الياباني على الصين الذي اشتهر بأفظع ممارساته في مذبحة نانجنغ أو كما يسمّونها “اغتصاب نانجنغ” عام ،1937 حيث استباحت القوات اليابانيّة هذه المدينة وقامت بالنهب والسلب والقتل والاغتصاب والإعدامات، وقارب عدد الضحايا نحو 250 ألف شخص في أقل من شهرين من الزمن .

ويشير الكاتب هنا أنّ دول المحور لم تشارك الناس العاديّين في أنّ الحرب العالميّة الثانية هي “حرب خيّرة” . خاصّة أنّ ممارساتها لم تكن تشي بذلك، على سبيل المثال، الهجوم النوويّ على هيروشيما وناغازاكي من قبل الولايات المتحدة . ويبيّن أنّ دول المحور وجدت أنّها فرصة ملائمة لتقاسم الثروات والنفوذ، وليس كما أظهرت للشعوب على أنّهم يحاربون البرابرة والفاشيّين والنازيّين بدواعٍ إنسانيّة، ومن أحد من استشهد بهم الكاتب هو سياسيّ روسيّ قال بما معناه: “إنّ السلام سيحدث، ويبدو أنّه سلام النفط، وسلام الذهب، وسلام الشحن . .إنّه خالٍ من أيّ هدف أخلاقيّ” وحينها وضّح وزير الخارجية الأمريكيّ أنّ الولايات المتحدة ستقود “نظاماً جديداً من العلاقات الدوليّة . .لأسباب بغاية المنفعة الذاتيّة الوطنيّة الصرفة بشكل رئيسيّ” .

مع ذلك، يؤكّد الكاتب أنّ الإحصاءات مدهشة، حيث بلغ عدد الضحايا في الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) أكثر من 21 مليون شخص . وعدد القتلى في فيتنام لمدة 20 سنة من القتال وصل إلى 5 ملايين، في حين بلغ عدد القتلى في الحرب على العراق (2003) ما يقارب 655 ألف شخص . وعلى الرغم من الافتقاد إلى الإحصاءات الدقيقة في الحرب العالميّة الثانية (1939-1945)، إلا أنّ أحد المصادر يجد أنّ 50 مليون شخص قتلوا فيها، 28 مليوناً منهم من المدنيين . وبلغت الخسائر الصينيّة وحدها مجموع مافقدته كلّ من ألمانيا، بريطانيا، فرنسا في الحرب العالميّة الأولى .

يجد الكاتب أنّ الاعتقاد الدارج هو أنّ هذه الحرب هي “الحرب الخيّرة”، حيث انتصر الحقّ على الظلم، الديمقراطيّة على الديكتاتوريّة، التسامح على العنصريّة، الحرّيّة على الفاشيّة . ويتساءل: “لماذا لم تشوّه مثل هذه المذابح سمعة الحرب العالميّة الثانية؟” .

حربان متوازيتان

يشير الكاتب إلى أنّ الفجوة بين دوافع حكومات التحالف والذين حاربوا في وجه الوحشيّة والاضطهاد والديكتاتورية لايمكن ردمها، لذلك فالأحداث العالميّة مابين (1939-1945) لم تشكّل معركة وحيدة ضدّ قوات المحور، لكنّها بلغت حربين منفصلتين .

يستشهد الكاتب بكلمة مشهورة لكلوزويتز: “إنّ الحرب ليست مجرّد فعل سياسيّ، بل أيضاً أداة سياسيّة حقيقيّة، استمرار للتجارة السياسيّة، وتنفيذ الشيء نفسه بوسائل أخرى” .

يرى أنّه في حالة الحرب العالميّة الثانية ولّدت العلاقات السياسيّة الحربَ بين دول المحور ودول الحلفاء، إلا أنّ العلاقات السياسيّة بين الشعوب والحكومات أنتجت حرباً من نوع آخر، خاضتها الشعوب لأهداف نبيلة، وكانت هذه الظاهرة واضحة بشكل خاص في حركات المقاومة التي تحرّكت من وراء قبضة الحكومات الرسميّة .

ويبيّن الكاتب أنّه على الرغم من الاختلافات الإيديولوجيّة بين ستالين وتشرشل، إلا أنّ ستالين وافق على التحالف معهم لأجل هدف وحيد هو تدمير نظام هتلر، ولم يظهر استياء تجاه الإهانة التي وجهها تشرشل في كلمة الترحيب للروس عند الانضمام إلى معسكر الحلفاء عندما قال: “إنّ هذه الحرب ليست طبقيّة، بل حرب تشترك فيها كلّ الإمبراطوريّة البريطانيّة ودول الكومنولث من دون تمييز في العرق أو الحزب أو المذهب . إنّها قضية الرجال الأحرار والشعوب الحرّة في كلّ ركن من العالم” . والحقيقة أنّ كليهما كانا عنيدين في معارضتهما لقوات المحور، ليس بسبب تهديدها الرجال الأحرار أو الشعوب الحرّة، بل لأنّها هدّدت تحكّم دول الحلفاء في كلّ رقعة من الأرض .

ويورد الكاتب ما قاله ليون تروتسكي حول هدف دول الحلفاء من محاربة الفاشيّة والنازيّة، حيث يشير إلى أنّها استمرار للهيمنة، وممّا قاله: “إنّ نصر الإمبرياليّين الفرنسييّن والبريطانيّين سيكون مخيفاً على البشريّة بشكل لا يقلّ عن نظامي هتلر وموسولينيني . إنّ المهمة التي طرحها التاريخ ليس صراع طرف من النظام الإمبرياليّ ضدّ الآخر، بل وضع نهاية للنظام ككلّ” .

كان تروتسكي يجد ضرورة معارضة الحرب العالمية الثانية كحرب إمبرياليّة، ويجب استبدالها بحرب الشعوب في وجه الفاشيّة، وكان يدعو إلى حروب عادلة، تساعد في تحرير الشعوب والأمم المضّطهدة، وقد لقي تروتسكي حتفه على يد أحد عملاء ستالين في ،1940 ولم يتسنّ له رؤية أنّ حرب الشعوب وحرب الإمبرياليين تحدث بشكل متوازٍ إلى جانب بعضهما البعض .

كما يسلّط الكاتب الضوء على آراء أخرى منها ما تبناه هوارد زين وهنري ميشيل، اللذين تبنيا موقفاً ثالثاُ يعترف بالوجود الآنيّ للعناصر المعادية للفاشيّة والإمبرياليّة في الحرب العالميّة الثانية، ويقسّمان العوامل إلى قصيرة المدى وبعيدة المدى .

ويستعرض ملخص كتاب “حرب الظلّ” للكاتب ميشيل سالازار، الذي يعتبر كتاباً مؤثّراً يبيّن تعقيدات الحرب العالمية الثانية وممّا جاء في الكتاب: “في الحرب العالمية الثانية تمّ خوض نوعين من الحروب: ترواحت الأولى بين الجيوش من الطرفين المتخاصمين (دول المحور ودول الحلفاء) والحرب الثانية في الخفاء . وكانت هاتان الحربان على جانب الحلفاء مختلفتين كاختلاف الليل والنهار” .

صراع الإمبراطوريّات

في عام ،1939 كانت بريطانيا تملك أكبر مساحة من الأراضي والسكان في التاريخ، حيث كانت تغطّي ربع مساحة الأرض والسكان، “كانت الإمبراطوريّة التي لم تغب عنها الشمس، والتي لم يجفّ فيها الدم” كما يشير الكاتب . أمّا فرنسا، فقد كانت الإمبراطوريّة الثانية التي كانت تستحوذ على 10% من العالم . وكان الاتّحاد السوفيتيّ يغطّي سُدس الكرة الأرضيّة، ولم يكن غالبية السكان من الروس . وفي ظلّ حكم ستالين، كما في الأزمنة القيصريّة، كانت سجناً كبيراً للشعب، وبعد ذلك ضمّت غالبية دول أوربا الشرقيّة . كما لم تكن الإمبرياليّة الأمريكيّة قد بلغت ذروتها حينها، ففي عام 1939 كانت مشغولة بتأسيس تفوّقها الاقتصاديّ الذي تهيمن به على العالم وتموّل آلتها العسكريّة التي لها اليوم 737 قاعدة خارج أراضيها، وأكثر من 5 .2 مليون من الأفراد المنتشرين في العالم .

مقارنة مع بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، كانت دولة المحور من الوافدين الجدد على اللعبة الإمبرياليّة، حيث ظهرت اليابان من عزلتها الذاتيّة في عام ،1867 وتوحّدت إيطاليا فقط في عام ،1870 وألمانيا بعدها بسنة . كانت الكرة الأرضيّة موزّعة بين الدول الإمبرياليّة، وسعت الدول هذه بكلّ ما عندها من قوّة وعدوانيّة ودهاء إلى دحر القوى المتنافسة . وقد حاولت ألمانيا أن تحصل على زمام القوّة، إلا أنّها فشلت في تحقيق ذلك خلال الحرب العالميّة الأولى (1914-1918)، وتمّ معاقبتها بمعاهدة فيرساي للسلام بعد ذلك . وقد دعمت إيطاليا واليابان التفاهم خلال الحرب العالميّة الأولى على أمل الحصول على نتف من طاولة المنتصرين، لكن خيّب أملهم على نحو كبير . وجاءت الحرب العالميّة الثانية لتشهد جهوداً متكّررة للقوى الثلاث في سبيل الحصول على القوّة الإمبرياليّة .

حرب الشعوب

يرى الكاتب أنّ “حرب الشعوب” أكثر إشكاليّة كفكرة، وربما تظهر قاسية بشكلٍ غير كافٍ . ويشير إلى أنّه يجدر بالمرء أن يعود ويتذكّر ما قاله ستالين عن دول أوروبا الشرقيّة التي سيطر عليها بعد ،1945 حيث أطلق عليها “ديمقراطيات الشعوب”، ليرى كيف أنّ كلمة “الشعوب” يساء استخدامها . وأمام هذا التعريف هناك عدد من الأسئلة يطرحها الكاتب منها:

السؤال الأوّل: ما هي بالضبط هذه الشعوب؟

لاتستلزم مثل هذه الحرب النشاط العالميّ، فتحت الاحتلال تكون هناك عقبة الاتصال كون أيّ حركة مقاومة في هكذا ظروف ستكون سريّة بالضرورة، إضافة إلى خطر الاعتقال على يد غيستابو أو مثيلاتها من قوات الشرطة، وهذا يعني أن أقلية فقط ستكون متورّطة بشكل مباشر . علاوة على ذلك، استمتع المقاومون المنظّمون بتعاطف طبقات أوسع بسبب البطولات والتضحيات التي بذلوها .

وفي دول الحلفاء غير المحتلّة، قاتلت أعداد كبيرة بشكل حماسيّ بغية الحصول على الحريّة ومجتمع أفضل . حتّى لو أنّهم كانوا يتبعون أولئك الذين في السلطة ممّن كانوا يفكّرون بطريقة مختلفة عنهم . وفي آسيا، قاتل الشعب لينهي الاستعمار الأوروبيّ واليابانيّ . والنقطة المحوريّة هي أنّه سواء خاض الناس الحرب أو لا إلى أيّ مدى كان، فإنّه تمّ خوضها لأجل تحقيق المطالب التي كان الشعب يصبو إليها .

السؤال الثاني: ما الذي يميّز حرب الشعوب عن الحرب الطبقيّة أو الحرب الوطنيّة؟

إنّ التعريف الماركسي للطبقة- مجموعة اجتماعيّة يتقاسم أفرادها علاقة مشتركة لوسائل الإنتاج- لا يطبّق على حرب الشعوب، على الرغم من أنّ تأثير العمّال كان بارزاً كما في حالة إيطاليا . إلا أنّ المقاومين كانوا ينحدرون من كافة الأطياف الاجتماعيّة . مع ذلك وعلى حدّ سواء، لم تكن حرب الشعوب حرباً وطنيّة . ولم تكن محصورة على هدف الاستقلال، بل دائماً ما ناضلت إلى مجرّد حفظ أو انبعاث المجتمع القديم أو الحالة القديمة .

ويشير الكاتب إلى أنّه كظاهرة طبقيّة، كانت إيديولوجيّتها من إحدى أشكال الرفض للنظام الاجتماعيّ ما قبل الحرب، ولمصلحة الطبقات الأقل (بصرف النظر عن الأصول الاجتماعيّة للأفراد) . وكظاهرة وطنيّة، أصرّ المحاربون من الشعب أنّ الجماهير كذّبت النخب ومثّلت الدولة . إنّ فشل الطبقات الحاكمة لدول الحلفاء لمواجهة المعتدين الخارجين، واستعدادهم للتواطؤ مع دول المحور (سواء عن طريق الإرضاء قبل الحرب أو بعد الاحتلال) قوّى هذا الإدعاء .

يرى الكاتب أنّه بالطبع، سيكون الأمر ملائماً لفصل الحرب الطبقيّة عن الحرب الوطنيّة، لكنّ لذلك لم يكن ممكناً للأسباب المذكورة . بنفس الطريقة، سيكون الأمر مساعداً لو أنّ صراعات التحرير تنفصل بعيداً عن التأثيرات الإمبرياليّة، لكن الاثنين كانا غالباً متشابكين بطريقة معيّنة .

ويجد الكاتب إلى أنّه بالرغم من أنّ فكرة الحربين المتوازيتين تمّ الحديث عنها بشكل طفيف في عدد من الدراسات إلا أنّ التحليل لم يكن مطابقاً على الحرب العالميّة الثانية بمجموعه، لأنّه على ساحة المعركة التقليديّة أولئك الذين أعطوا الأوامر وأولئك الذي نفّذوها عملوا معاً على الرغم من كلّ اختلافاتهم . لذلك كان من المتعذّر تمييز هاتين الحربين حتى بالنسبة للذين تورّطوا فيها . ويشير إلى أنّه كانت هناك مواقف كان الانقسام فيها واضحاً . ففي الدول التي كانت تحت هيمنة قوّات المحور تطوّرت حركات المقاومة الجماعيّة بشكل مستقلّ، وذلك للقضاء على الإمبرياليّين من الحلفاء، وفي آسيا كانت السلطة الاستعماريّة متعرّضة للضعف بالحرب في أوروبا أو باجتثاثها عن طريق الغزو اليابانيّ . وجاءت لحظة شفّافة أخرى في عام ،1945 أرادت فيها حكومات الحلفاء تسوية بناءً على مصيرهم في الحرب الإمبرياليّة، التي كان القصد منها إحلال واقع ما قبل الحرب، لكنّ السكان المحليّون أرادوا عام ما بعد الحرب بناء على نجاحات الحرب التي خاضتها شعوبهم .

استثناء روسيا

يشير الكاتب إلى أنّ روسيا لعبت دوراً حاسماً في إلحاق الهزيمة بهتلر، لكنّها لم تختبر الحربين المتوازيتين لسببين:

أوّلاً: السياسات الوحشيّة التي انتهجها الغزاة النازيّون جعلت السكان يحتشدون حول نظام ستالين في صراعه الشديد من أجل النجاة . وعلى خلاف حركات المقاومة في أماكن أخرى، مئات الآلاف من المحاربين السوفييت الذين قاتلوا في المعارك الباسلة بين صفوف الألمان لم تفرض بديلاً لموسكو .

ثانياً: كانت الدولة الروسيّة قمعيّة بشكل كبير . على سبيل المثال، تمّ ترحيل المجموعات العرقيّة بالكامل، كالشيشان، التي كان من المحتمل أن تشكّل تهديداً عليها نحو الشرق تحت ظروف مروّعة . وذلك لم يترك مساحة تعبير مستقلّ لحرب الشعوب . وكانت القوى الكبيرة الوحيدة التي عارضت موسكو، مثل الجنود المتمرّدين الذين انضموا إلى الجنرال فلاسوف، أدوات إيجابيّة بيد الإمبرياليّة النازيّة . وكان لهذا النقص في حرب الشعب عواقب كئيبة بالنسبة لمن وقع تحت عبوديّة الجيش الأحمر، عندما ساقوا النازيّين من أوربا الشرقيّة .

يبيّن الكاتب أنّه كان لروسيا تأثير كبير في الحربين المتوازيتين، من جهة أنّ الأحزاب الشيوعية الأجنبيّة كانت بارزة تقريباً في كلّ حركة من حركات المقاومة، وقد قادوا واستلهموا وماتوا لأجل حرب الشعب . ويبيّن الكاتب إلى أنّه كان القصد من الولاء لروسيا ستالين هو أنّهم كانوا متأثّرين بشكل كبير بالأهداف الأجنبيّة الإمبرياليّة . وهذا قادهم إلى القبول بالتطوّرات الدراماتيكيّة المفاجئة في السياسة . وحتّى منتصف ثلاثينيّات القرن المنصرم كان الاتّحاد السوفيتي يدافع عن “خطّ الفترة الثالثة”، المبدأ الإيديولوجيّ الذي تبنته منظمة الكومنتيرن الشيوعيّة في مؤتمرها العالميّ السادس الذي انعقد في موسكو عام 1928 .

يبيّن الكاتب أنّ الشيوعيّين نظّموا وقادوا المقاومة الشعبيّة ضدّ الفاشيّة أكثر من أيّ تيارات أخرى، وعزّزوا أمل العمّال والفلاحين بالحصول على حياة أفضل ما بعد الحرب . ويشير إلى أنّهم خلقوا الحركات الشعبيّة وأخصوها في الوقت ذاته، حيث بعد هزيمة الفاشيّة سمحوا لمجموعات من الطبقة الحاكمة غير الموثوقة أن تستلم زمام السلطة على حساب الناس العاديّين . ويؤكّد الكاتب أنّ الشيوعيّن مثّلوا تقاطع حرب الشعوب وسياسات قوّة إمبرياليّة تظهر داعمي الإمبرياليّة على أنّهم لم يصطفّوا بشكل غير رسميّ على جانب، وممّن خاض حرب الشعوب على جانب آخر . لكنّهما اندمجا معاً ونسّقا ضمن الحركات، والمنظمات، والأفراد . لذلك يرى الكاتب أنّ فكرة الحروب المتوازية لا يمكن معاملتها ببساطة .



تأليف: دوني غلوكستين - عرض وترجمة: عبدالله ميزر

نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية.