الصين توجه أنظارها غرباً
الاثنين, 11-مارس-2013
الميثاق إنفو -
منذ أكثر من سنة والولايات المتحدة تمضي قدماً في تطبيق استراتيجية عالمية جديدة أطلق عليها اسم “الانعطاف”، وتقضي بتحويل أكثرية قواتها العسكرية إلى منطقة آسيا الهادي . والهدف واضح، وشبه معلن، وهو تطويق الصين وكبح صعودها كقوة عالمية كبرى . فما هو رد الصين؟ حتى الآن، لم يعلن المسؤولون الصينيون أي شيء رسمي بهذا الخصوص، ولكن الكاتبة يون سون، الزميلة الزائرة في مؤسسة بروكينغز، والتي عملت سابقاً محللة متخصصة في الشؤون الصينية في مجموعة الأزمات الدولية، قدمت قراءتها لتفكير القيادة الصينية في مقال نشرته في موقع “فورين بوليسي” وجاء فيه:

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أصبح باراك أوباما أول رئيس أمريكي يزور بورما أثناء ولايته، ثم أول رئيس يزور كمبوديا . وفي إطار استراتيجية “الانعطاف” نحو آسيا التي اعتمدتها إدارته، أخذ أوباما يزيد من نشاط دبلوماسيته في المنطقة، وإضافة إلى جنوب شرق آسيا، الذي يقترب أكثر فأكثر من الولايات المتحدة على حساب علاقته مع الصين، أخذ أوباما يعيد التركيز أيضاً على علاقة أمريكا الأمنية مع منافس الصين، اليابان .

ولكن بينما تحول الولايات المتحدة محور تركيزها من الشرق الأوسط وأفغانستان نحو شرق آسيا، تناقش الصين انعطافها الخاص، وهو مشروع استراتيجي كبير يقضي بتحويل بؤرة الاهتمام من شرق آسيا، وإعادة موازنة أولويتها الجغرافية - السياسية باتجاه الغرب، نحو آسيا الوسطى، وجنوب آسيا والشرق الأوسط .

هذه الاستراتيجية، التي أطلق عليها اسم “المسير غرباً”، عرضها وانغ جيسي، عميد كلية الدراسات الدولية في جامعة بكين، وأحد أهم المنظرين الاستراتيجيين في الصين، في مقال نشره في صحيفة “غلوبال تايمز” في اكتوبر/تشرين الأول . ومشروع هذه الاستراتيجية تجاوز مرحلة البحث الأكاديمي، وأصبحت دائرة صنع السياسة الخارجية في بكين في حالة تعبئة لدراسة جدوى هذه الاستراتيجية، وتطبيقها، وردود الفعل المحتملة عليها . وحسب باحث يعمل في بكين، فإن الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وهي أبرز مجمع للفكر والبحث في الصين، ستنظم مؤتمراً داخلياً لدراسة “المسير غرباً” . وفي هذه الاثناء، تعكف السفارة الأمريكية في بكين بهدوء على استقصاء مشروع الاستراتيجية، حسب عدة أشخاص تحدثوا مع مسؤولين أمريكيين حول هذه الاستراتيجية .

وهذه الاستراتيجية هي فكرة جريئة . فبينما تعيد واشنطن تركيز اهتمامها على آسيا، يرى وانغ أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين أخذت تصبح مشاكسة أكثر فأكثر، وحصيلتها باتت صفراً، من حيث إن أرباحها تعادل خسائرها . وهو يرى أن مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة قد تصبح حتمية، لأن كلتا القوتين تسعى لتوسيع نفوذها في شرق آسيا . وتعتقد بكين أن واشنطن تسعى لإعاقة صعود الصين في الشرق من خلال تعزيز تحالفات عسكرية، وتخريب روابط الصين مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، وتقويض مسعى الصين لقيادة التكامل الاقتصادي للمنطقة، وذلك من خلال الدفع لتنفيذ مشروع “الشراكة عبر الهادي”، وهو مشروع اتفاقية تجارة حرة يراد له أن يتمحور حول الولايات المتحدة، وأن تستثنى منه الصين . ورداً على ذلك، يدعو وانغ إلى تعزيز حضور الصين، وجهودها الدبلوماسية، وارتباطها بآسيا الوسطى، وجنوب آسيا، والشرق الأوسط .

وبينما يرى وانغ تهديدات في البحار الواقعة إلى الشرق، فإن المنطقة الواقعة إلى الغرب من الصين لا تنطوي على مثل هذه المخاطر . إذ لا يوجد في هذه المنطقة نظام إقليمي تهيمن عليه الولايات المتحدة، ولا آلية للتكامل الاقتصادي . وخلافاً لأوروبا الغربية أو شرق آسيا، يقول وانغ إن هذه المنطقة لم ولن تقيم تحالفاً عسكرياً تقوده الولايات المتحدة . والحليف الحقيقي الوحيد للولايات المتحدة في هذه المنطقة هو “إسرائيل” . ولنقارن ذلك مع شرق آسيا، حيث توجد بلدان قوية عدة لديها روابط أمنية وتجارية وثيقة مع الولايات المتحدة، من استراليا حتى اليابان .

ومنطق “المسير غرباً” يعكس المأزق الإقليمي المعقد للصين - ولكنه يعكس أيضاً فرصة غير مستغلة . ففي شرق آسيا، كثيراً ما تكون الصين والولايات المتحدة على خلاف، بينما إلى الغرب هما تتقاسمان مصالح مشتركة: كلتاهما تريد الاستقرار في أفغانستان والعراق، وإنهاء الصراع المحتدم في سوريا، وكبح الإرهاب، ومنع الانتشار النووي إقليمياً، وتدفقاً مستقراً للنفط . والمسير غرباً سيمنح بكين عامل قوة استراتيجياً إضافياً بمواجهة واشنطن، التي يقول وانغ إنها “ترغب باستماتة في الحصول على مساعدة الصين لتحقيق الاستقرار في أفغانستان وباكستان” .

وانعطاف الولايات المتحدة نحو آسيا لا يعني أن واشنطن تنوي التخلي عن الشرق الأوسط أو بقية العالم . وبالمثل تماماً، المشروع الصيني للتوجه غرباً لا يعني التخلي عن شرق آسيا . ولكن القادة الصينيين يعون تماماً التدهور السريع في البيئة الخارجية للصين في تلك المنطقة، ولهذا تدعو سياسة وانغ إلى التنازل في مناطق معينة . وفي الواقع، يبدو الآن أن الصين باتت أكثر استعداداً للتعاون مع الولايات المتحدة بشأن كوريا الشمالية . ففي يناير/كانون الثاني، أيدت بكين تبني قرار لمجلس الأمن الدولي يشدد العقوبات على ذلك البلد، وتحدثت بلهجة أكثر صرامة من المعتاد ضد بيونغ يانغ .

وقد ظهرت بالفعل بعض المؤشرات على أن الصين بدأت انعطافها الخاص . ففي سبتمبر/أيلول، قام زهو يونغ كانغ، وكان في حينه عضواً في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي، وهي أعلى هيئة لصنع القرار في الصين، بزيارة إلى كابول، فكان أرفع مسؤول صيني يزور أفغانستان خلال نحو 50 سنة . وأثناء زيارته، أعلن عن تعهد صيني لا سابقة له بتقديم دعم “لتدريب، وتمويل، وتجهيز الشرطة الأفغانية” . وفي مؤشر على اهتمام الصين بالأمن الداخلي لأفغانستان، أجرت بكين في يناير/كانون الثاني محادثات رسمية مع باكستان حول الوضع في أفغانستان، بعد أن كانت قد رتبت في العام 2012 “مشاورات ثلاثية الأطراف” بين البلدان الثلاثة . وهذا التحرك يؤشر على تحول سياسي مهم، من موقف متفرج إلى التزام نشط بتحقيق الاستقرار في بلد مجاور مضطرب .

وفي الواقع، كانت الصين تتطلع غرباً منذ العام 2000 على الأقل، عندما أطلقت برنامج “التنمية العظيمة في الغرب”، وهو استراتيجية وطنية غايتها تصحيح اختلال التوازن بين النصفين الغربي والشرقي للبلاد . وحسب أرقام العام ،2010 يمثل غرب الصين 71% من مساحة البلاد، ولكن فقط 27% من سكانها، و7 .18% من ناتجها المحلي الاجمالي . ومن الواضح أن هناك فرصة متاحة في الغرب . وفي مقاله، أشار وانغ إلى أنه من 2001 إلى ،2011 ارتفع حجم تجارة الصين مع جنوب آسيا وغرب آسيا أكثر من 30 مرة، في حين أن حجم تجارتها مع بقية العالم خلال الفترة ذاتها ارتفع 7 مرات . كما لا حظ وانغ أنه بقدر ما تكون أفغانستان، وقرغيرستان، وباكستان، والبلدان الأخرى الواقعة إلى الغرب من الصين، أكثر غنى واستقراراً، بقدر ما يكون تطور التنمية الاقتصادية لغرب الصين أكثر سهولة . وفي سعيها لتحقيق هذه الغاية، يتعين على الصين أن تسرع بناء روابط تجارتها واتصالاتها مع آسيا الوسطى وما وراءها - وهو ما تسميه “طريق الحرير الجديد” - من أجل ضمان التدفق المستمر لامدادات الطاقة والسلع إلى غرب الصين، ومن أجل تعزيز التعاون الاقتصادي مع المنطقة .

ونلاحظ أن وانغ ليس أول مفكر استراتيجي صيني بارز يدعو إلى تحول استراتيجي باتجاه الغرب: فمنذ العام ،2004 كان الجنرال في جيش التحرير الشعبي ليو يازهو قد اقترح أن “تتواجد الصين في مركز العالم” (الشرق الأوسط) .

هذه السياسة لم تصبح بعد عقيدة استراتيجية معتمدة، حيث إنه ليس معروفاً ما هو الموقف الذي يتخذه منها الرئيس المقبل تشي جينبينغ واللجنة الدائمة الحالية للمكتب السياسي . وسلف تشي، هو جينتاو، كان قد عزز قوة منظمة شنغهاي للتعاون - وهي تجمع إقليمي، يضم الصين، وروسيا، ومعظم دول آسيا الوسطى - ولكنه لم يعرض بالتفصيل رؤيته لمركز الصين في المنطقة . ومن جهته، أكد وانغ - بتواضع - في نهاية مقاله أنه لا يدعو إلى أن تصبح استراتيجيته “سياسة خارجية محددة بوضوح” . ومع ذلك، يبدو أن استراتيجيته لها تأثير قوي، إلى درجة أنها قوبلت بمعارضة مفكرين استراتيجيين مثل الادميرال يانغ بي، الذي جادل بأن توسع الصين في المحيطين الهادي والهندي هو شرط لازم حتى تستطيع بلاده أن تصف نفسها بأنها قوة كبرى عالمية .

غير أنه سيكون من الحكمة بالنسبة لواشنطن أن تبدأ التفكير ملياً في “المسيرة غرباً” . فهذه الاستراتيجية يمكن أن توفر للصين دائرة نفوذ بديلة، تكون متحررة من الهيمنة الأمريكية . وبعودتها إلى جذورها كقوة قارية، يمكن للصين أن تتجنب مزيداً من المواجهات مع الولايات المتحدة في شرق آسيا، وأن تعزز الاستقرار في المنطقة، وتبني علاقة أفضل مع واشنطن من خلال التعاون في أماكن مثل أفغانستان وباكستان، وهذا ربما يكون التجلي النهائي للاستراتيجية العسكرية الشهيرة التي حددها ماو تسي تونع بقوله: “حيثما يتقدم العدو، ننكفئ . وحيثما ينكفئ العدو، نتقدم” .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.