الاستدامة: دعوة لتصحيح الهياكل الاقتصادية
السبت, 09-مارس-2013
د . غسان قلعاوي -

إلى جانب الفكر الذي يصر على معالجة الأزمة المالية والاقتصادية بمزيد من التيسير أو التسهيل الكمي والديون، يطل بين الحين والآخر فكر يتطلع إلى نظام عالمي أكثر إنصافاً للبشر وللأرض التي يحيون عليها ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر في الهياكل والأنماط الاقتصادية القائمة لتجنب الأزمة مستقبلاً ولبناء اقتصادي أكثر وفاء للبيئة وللإنسان .

الحديث عن ضرورة اعادة النظر في الهياكل والأنماط الاقتصادية قد لايكون نتاج الأزمة الأخيرة، بل قد يكون أقدم من ذلك إن تذكرنا ما كان يدعى يوماً (الحوار بين الشمال والجنوب)، لقد كان تقرير اللجنة المستقلة المشكلة لبحث قضايا التنمية الدولية والمعروف بتقرير (الشمال والجنوب: برنامج من أجل البقاء)، سليماً في تصوره وصادقاً في تحذيره عندما تضمن الإشارة إلى تزايد “التكلفة الإنسانية” نتيجة الإصرار على حماية أو الحفاظ على الهياكل أو البنى الاقتصادية التي في سبيلها إلى البلى والتقادم، لأن ذلك يمنع البشرية من تكييف أوضاعها بما يناسب المتطلبات والأنماط الجديدة لتقسيم العمل والتخصص والحفاظ على البيئة على الصعيد الدولي .

لقد كانت صادقة في حينها، إلى حد كبير، تمنيات أوأحلام النظام العالمي الجديد التي تم تصورها إبان الحوار بين الشمال والجنوب التي انتهت مع ثمانينات القرن الماضي عندما آل زمام اقتصاد العالم بدءاً من العهد (الريجاني التاتشري) للمغالاة في الأخذ بمعادلة الجدوى المادية وحدها، أو ما يعرف بهدف “تعظيم الربح” كائناً ما كانت الوسائل التي تستخدم في سبيل تحقيق هذا الهدف، حتى ولو كان ذلك على حساب الأرض وسكانها، وهو عهد عانى فيه العالم مجموعة من الأزمات الموضعية ثم انتهى بأضخمها أزمة الديون أو الرهون العقارية العالمية في ،2008 إضافة إلى الاستمرار في تلويث البيئة وعدم الالتزام بما اتفق عليه دولياً من اجراءات الحفاظ عليها . .

ولم يعد يذكر الناس التحذيرالصريح الذي تضمنه تقرير الحوار بين الشمال والجنوب في ذلك الحين من أن استمرار وتفاقم ظلم الأرض ومن عليها سيقود العالم إلى الفوضى .

في أعقاب الأزمة تأكدت الدعوة إلى ضرورة اعادة النظر في الهياكل والأنماط الاقتصادية، وان أتت تلك الدعوة، على صدقها وإخلاص دعاتها، كأنها صيحات في واد مازالت تهيمن عليه ذيول إجراءات تبدو كأنها تصر على علاج الأزمة بالتي كانت هي الداء: مزيد من التيسيرات أو التسهيلات الكمية والديون والمزيد من اللامبالاة واهمال مراعاة البيئة .

من تلك الدعوات الحديثة للنظر في تعديل أو تصحيح الهياكل الاقتصادية مقال مشترك لبان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة وآل غور النائب الأسبق لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية حول النموذج الاقتصادي ومراعاة البيئة “الخليج الاقتصادي” في (24/2/2009) جاء فيه أنه (يجب أن يساعد الاقتصاد العالمي على دخول القرن الحادي والعشرين، لا على إدامة صناعات آيلة للموت وعادات سيئة من مخلّفات الأمس . بل إن الإمعان في صب آلاف مليارات الدولارات على هياكل أساسية تستند إلى غاز الكربون ودعم الوقود الأحفوري هو أشبه بالعودة إلى الاستثمار في العقارات الممولة بقروض بسعر المخاطرة . . .)، وأن الأمر ( . . يتطلب بالضرورة تنفيذ تغييرات بنيوية سريعة في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء . . .) . . .

ومن ذلك أيضاً ما ورد في مقال حديث حول أزمات ما بعد الأزمة (“الخليج الاقتصادي” 12/1/2013) يؤكد فيه “جوزيف ستيغليتز” ضرورة التغيير البنيوي ويجعله من عوامل علاج الأزمة حين لا يتفق مع “البعض الذي يرى أننا ينبغي لنا، نظراً للتباطؤ الاقتصادي، أن نؤجل التعامل مع قضية الانحباس الحراري العالمي . ولكن العكس هو الصحيح، ذلك أن تعديل وتكييف الاقتصاد العالمي وفقاً لتغير المناخ من شأنه أن يساعد على استعادة الطلب الكلي والنمو” .

كذلك ينقل لنا “لاري إليوت” (“الخليج الاقتصادي” في 12/1/2013) تحذيرالمنتدى الاقتصادي العالمي من حدوث الاضطرابات المالية والبيئية حيث (أن ضعف الاقتصاد المزمن يوهن قدرة الحكومات على التعامل مع مسألة تهديد النمو نتيجة التقلبات المناخية ومخاطر حدوث إعصار كامل مصدره وقوع انهيار اقتصادي وبيئي في وقت واحد .) ليعيد بذلك تذكيرنا بتحذير انتشار الفوضى في العالم الذي أشرنا إليه كما ورد في تقرير الشمال والجنوب، لكن الفوضى كما يشير إليها إليوت قد تنجم عن انهيارين معاً انهيار اقتصادي يضاف إليه الانهيار البيئي، ليشكل بذلك “إعصاراً كاملاً” .

فهل تتمكن البشرية من انتهاز فرصة علاج الأزمة بالاستثمار في هياكل وبنى جديدة وفق أنماط أخرى تدفع عنها مثل هذا “الإعصار”؟

* باحث في شؤون المال والاقتصاد

*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.