سطور مما يقال ولا يكتب
السبت, 09-مارس-2013
د.عبد العزيز المقالح -

متى كان الغزو عملاً حضارياً؟ سؤال يعود الآن إلى الواقع العربي ليطرح نفسه مجدداً مع أن عمره لا يقل عن قرنين من الزمن، إن لم يكن يزيد، وبالتحديد منذ الغزوات الاستعمارية الأولى تلك التي خرجت من القارة الأوروبية بحثاً عن المال ومناطق النفوذ . وقد جاء هذا السؤال -يومذاك- رداً على الكتابات الاستعمارية التي كانت تصور احتلال الشعوب وإخضاعها وسلب ثرواتها وكأنه عمل حضاري تنويري، متناسية -في تحدٍ وقح- ما ارتكبه الغزاة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من فظائع وفضائح لا تنسى . والمحزن، بل والمخالف لطبيعة الأشياء، أن بعض الشعوب التي خضعت للاحتلال ردحاً من الزمن ثم تخلصت منه بعد قتال مرير وتضحيات نادرة، عادت لترزح من جديد تحت وطأة احتلال أشد وأفظع، وقد تم ذلك بدعوة من بعض من ينتمون بأجسادهم إلى هذه الشعوب، كما حدث في العراق على سبيل المثال، وكما يحدث الآن في أقطار عربية أخرى لم تحسن اختيار قياداتها، كما لم تحسن الثورة عليها أو تنجح في إقامة أنظمة تؤمن بالعدل والحرية والكرامة .

لقد تحدث مفكرون عرب كثيرون عن الاستعمار القديم الذي خرج من الباب وعاد من النافذة، وتحدثوا أيضاً عن أشكال من الاستعمار الجديد الذي يبسط هيمنته السياسية والاقتصادية على الشعوب من دون أن يكون له وجود عسكري مباشر، لكن الكثير من أولئك المفكرين لم يدر في خلده أن الاحتلال يمكن أن يعود بكامل تكويناته، وأن يكون شريكاً لبعض أبناء هذه الشعوب، وأنه قد يأتي في شكل الفارس المنقذ الذي يهتم بإصلاح الأوضاع الاقتصادية وتثبيت الاستقرار وإشاعة الديمقراطية والتبشير بحقوق الإنسان، وهو ما أفقد اللغة السياسية مدلولاتها ومصطلحاتها، وعمل على خلخلة المفاهيم وإرباك التعابير التي اعتاد البشر اعتبارها ثابتة لا تتبدل، كالمقاومة والحرية، والوطنية والاستقلال، في حين لم يبق من هذه التسميات في الواقع سوى الذكرى . وحين يستيقظ الوعي الوطني والإنساني بها في بعض النفوس تجد من يسخر منها بقسوة ويتهم من تبناها بالتخلف واجترار الماضي حينما كان المواطن الشريف فيه يموت حباً في وطنه ودفاعاً عن كرامة هذا الوطن .

ثمة التباس كبير، وكبير جداً، في حياة العرب اليوم، وهذا الالتباس يدفعنا إلى أن نتساءل بمرارة إلى أين تسير الأمور بأقطارنا العربية، ونحو أي مصير وخلف أية دعوة من الدعوات التي تملأ الأرض والفضاء؟ وهي دعوات لم تعد لسبب أو لآخر قادرة على أن تملأ القلوب أو تلامس أوتارها . لقد كان الانتماء الوطني في مرحلة شبابنا اقتناعاً غير متكلّف واستجابة لنداء الحقيقة . وجاءت الكهولة ثم اقترب الخريف لنجد أن كل شيء مما تعارفت الأجيال عليه قد فقد معناه وخصوصياته، وصار على الإنسان لكي يعيش أن يقبل بالارتماء في أحضان أي تيار، وأن عليه أن يلتزم قدراً من الخفة والمرونة، وأن يستعد لتقبل أي شيء، وتنفيذ أي شيء، حتى لو كان مخالفاً أشد المخالفة لما يؤمن به ويعتقده .

لقد مر أعداء الوطن من هنا، كانوا خائفين ومرعوبين، صحيح أنهم أطالوا البقاء على أرضنا الطيبة، لكنهم لم يكونوا يشعرون بالأمان والطمأنينة كما يشعرون بذلك الآن . يحدث هذا بعد كل ما قيل من أن المواطن العربي قد ارتقى ومرت عليه من التجارب الكثيرة ما زاد من منسوب وعيه، لكننا في النهاية، وعند التحليل الأخير للواقع، نرى أن أسلاف هذا المواطن كانوا أكثر وعياً، وكانوا أنقى وأسمى في مواقفهم، وأكثر ارتباطاً بالأرض وبالحرية وبالإنسان . ولم يكن العرب في الماضي البعيد أو القريب مجموعة قبائل متنافرة ومتناقضة كما يقول بعض الدارسين الذين يجهلون حقيقة التاريخ العربي، لكن الأحداث الأخيرة التي يشهدها المجتمع العربي اليوم تؤكد أن العرب دخلوا مرحلة ملوك الطوائف في أسوأ صورها، وفي الطليعة المثقفون والنخبة الفكرية والسياسية التي تعيش بين نارين، نار العزلة والحياد، ونار الالتحاق بالوليمة الفاسدة .

*. نقلاً عن صحيفة الخليج الإماراتية.