الدولة تكون أو لا تكون
الخميس, 31-يناير-2013
أمينة أبو شهاب -

بعد أن زرع “الإخوان” أسباب الفوضى والعنف والعصيان وعدم احترام القانون، ها هم يقولون الآن إنهم سيستعيدون النظام بفرض قانون الطوارئ وحظر التجول في مدن القناة الثلاث السويس وبورسعيد والإسماعيلية حيث لا حضور للدولة ولا لهيبتها .

فقدت الدولة المصرية سلطتها الأخلاقية على الشعب على يد “الإخوان” أكثر من غيرهم وأكثر من سابقيهم في الحكم . ومن هنا، فإن سلطة الدولة لم تفقد في السويس والإسماعيلية وبورسعيد فحسب، وإنما حدث هذا التحول تجاه الدولة في عقول وقلوب مصريين كثر يرون رئيسهم يمثل “الإخوان” ويتحدث إليهم وباسمهم ولا يمثل المصريين جميعاً .

وإن كان هذا قد أحدث شرخاً في مؤسسة الدولة وتقسيماً للمجتمع فإن محاولة تحجيم سلطة القانون والقضاء وخصومة “الإخوان” المستمرة مع رجالات هذه السلطة ومن يمثلها قد أضاف بعداً آخر للصورة العامة لغياب الدولة في وجهها القانوني خاصة بعد أن جمع مرسي سلطات القانون في يده وفرض اجراءات ضد الدستور ورأي القضاء بإعلانه الدستوري في نوفمبر/تشرين الثاني من السنة الماضية .

ولقد توازي الجهد الإخواني في زعزعة سلطة القضاء والقانون وافراغها من محتواها واحلال “الإخوان” محلها مع عمل مستمر كذلك لسلب سلطات أخرى في الدولة وجودها أو تحييدها أو تهديدها ومحاولة سد فراغها بالوجود الإخواني .

حين يفرض قانون طوارئ مرسي بتطبيق مفهوم جديد لعمل الشرطة ودورها في قمع الشعب المعارض والرافض للإخوان وحين يستخدم الجيش كذلك (وهو الذي رفض دعم مبارك في آخر أيام حكمه)، فإن أول ما يمكن قراءته في هذا القانون هو العلاقة المتوترة بين الإخوان والشعب المصري في أغلبيته التي أصبحت ترى الدولة قد تقزمت وأصبحت فريقاً سياسياً ينحاز إلى نفسه ويجيز استخدام العنف السياسي لامتداداته السياسية أو لحلفائه من التيار نفسه وذلك ضد المعارضة . سلطة الشرطة والأمن هي المخولة وحدها قانوناً بحماية مؤسسات الدولة ومنها مؤسسة الرئاسة، ولكن “الإخوان” وحلفاءهم السياسيين هم من تولوا حماية قصر الاتحادية الذي يشكل مقراً لمرسي . لم يعترض مرسي على حماية جماعته لقصره في ظل وجود أجهزة رسمية مهمتها حمايته وليس غيرها . وتلا هذا الحدث ظهور ميليشيات وتنظيمات شبه عسكرية تستعرض قوتها في الشارع وتهدد المؤسسات الحزبية والإعلامية والقانونية باعتداءاتها وحصارها، واستدعت هذه الظاهرة بطبيعة الحال ظهور منظمات مشابهة على الطرف الآخر من الصراع السياسي كان آخرها ال “بلاك بلوك” .

وكما أن قانون مرسي للطوارئ هو عنوان للتوتر السياسي في العلاقة مع الشعب، فهو كذلك يشير إلى ضيق الأفق السياسي لدى “الإخوان” ونفاد صبرهم مع أشكال المعارضة والرفض والاحتجاج في الشارع، توصف هذه المعارضة المتواجدة في الشارع ب “الإجرام” و”البلطجة” من قبل القيادات الإخوانية، وذهب القيادي الإخواني المعروف صبحي صالح إلى إجازة قتل أفراد جماعة “بلاك بلوك” التي ظهرت أخيراً على الساحة حين رؤيتهم في الشارع وذلك من دون اعتبار إلى الحرمة الدينية لفعل خطير كهذا من دون محاكمة أو حوار، ومن دون التوقف إلى ما يجره سياسياً من انتقامات أهلية متبادلة تفتح باب الاقتتال .

شيطنة المعارضة واتهامها في الخطاب الإخواني بالخيانة والتآمر مع الخارج وبأنها تقف مع الأشقياء والمجرمين (كما هو وصف النشطاء من الشباب) كان سيتزامن من توجه إخواني واضح نحو استخدام العنف والقبضة الحديدية في حل الأزمة السياسية وذلك بدلاً من الحل السياسي . وهنا لا يتطابق نظام محمد مرسي الإخواني مع حكم مبارك (الذي أتى لينقضه ويبنى نظاماً بديلاً له) فحسب، بل يمثل استمرارية له ونفياً قاطعاً لدعوى الثورة والنظام الثوري .

محمد مرسي هو الذي وعد المصريين الذين عانوا طويلاً من قانون الطوارئ بأنه لن يعيده أبداً ولن يفرضه عليهم من جديد، وحين يعيده فهو يؤكد صورة النظام القديم نفسه في استمراريته الجديدة وفي أدوات عمله ولغته السياسية التي تتعامل مع “بلطجية” وليس معارضة سياسية .

حين تفقد الدولة المصرية آخر ما لديها من رصيد السلطة الأخلاقية في الحقبة الإخوانية فإن ذلك أمر يدعو إلى التأمل فيه كثيراً نظراً، أولاً، لتمثيلهم “واجهة إسلامية وبالتالي سبباً كبيراً لشرعية شعبية . وثانياً لشرعية إدعاء الثورة والقدوم إلى الحكم بسببها ومن خلال العملية الانتخابية، وتلك أسس وشرعيات لم يمتلكها مبارك ونظامه . ومع ذلك فقد خسرت الدولة المصرية في الحقبة الإخوانية القصيرة الكثير مما تملك من قوة وتواجد معنوي ومادي في المجتمع . كان منتظراً أن يضيف الإخوان قوة ونظاماً إلى الدولة المصرية، ولكنهم بدل ذلك أضافوا أسباباً جديدة تجرها الآن إلى الترنح ولجوء الفرقاء والأفراد إلى استخدام العنف واللجوء إليه في الخلاف السياسي والاجتماعي . فراغ الدولة في زمنهم هو كبير ومخيف كما لم يكن من قبل أبداً .

ويبقى السؤال الجدير بالوقوف عنده طويلاً وهو لماذا تم تطبيق قانون طوارئ مرسي في مدن القناة وحدها مع أن التوتر السياسي والعنف هو حالة يومية مستمرة في مدن مثل القاهرة والاسكندرية والمحلة؟ لقد كان معروفاً مسبقاً وعلى نطاق واسع أن قانون حظر التجول سوف يفشل ويعطل منذ أول ليلة في مدن القناة التي يعرف أهلها بصلابتهم ومقاومتهم للاستعمار وأنهم كذلك أكثر من قدّم الشهداء في تحرك الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني لعام ،2011 سقط من أهل بورسعيد والسويس خمسون قتيلاً على يد الشرطة ما يمثل نقطة دامية في علاقة هذه المدن بالدولة، وجاء فرض قانون الطوارئ ليمثل عقاباً إضافياً في نظر أهلها الذين تساءلوا لماذا هم وحدهم من فرض عليهم مرسي قانون طوارئه ولمدة شهر كامل؟

إن كان معلوماً وواضحاً من البداية أن أهل هذه المدن سيسقطون قانون الطوارئ ويتحدونه، كما فعلوا بخروجهم بمئات الآلاف في أول ليلة لتطبيقه، فما هي حكمة فرضه في ضوء تراكمات الغضب من الدولة لدى أهل مدن القناة وشعورهم أن نصيبهم من التنمية ومن دخل قناة السويس هو نصيب غير عادل؟ بنظرة أولية وسريعة إلى رد الفعل الشعبي على قانون طوارئ مرسي يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أنه ضربة في عمق الوحدة الوطنية وكيان الدولة ووحدتها . إنه خطوة إخوانية أخرى (يصفها البعض أنها عشوائية!) لتقسيم الكتلة المصرية الموحدة .

المراسلون الأجانب الذين زاروا المدن الثلاث بعد فرض قانون الطوارئ فيها وجدوها خالية من حضور الدولة ومؤسساتها، كانت مدناً غاضبة ومتمردة على الدولة ويتحدث بعض أهلها عن “استقلالها” عن الدولة، كما يتحدثون عن مورد مصر الاستراتيجي وهو قناة السويس وكونها السبب في “حصارهم” بقانون الطوارئ وذلك تهيئة لصفقة ترهنها في أيدي قوى راعية للحكم الإخواني .

قانون طوارئ مرسي لا مكان له في دولة تظهر علامات ترنحها وانهيارها ما لم تشدها يد التماسك الداخلي التي تنقذها من استفراد “الإخوان” بها ومحاولتهم التمكن النهائي منها .

الموضوع الحقيقي في مصر اليوم هو أن تكون الدولة أو لا تكون .



*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.