ديمقراطية “تكميم الأفواه”
الخميس, 27-ديسمبر-2012
محمد عبيد -
مهما تكن نتائج الاستفتاء على مشروع الدستور المصري الذي أعلن مؤيدوه قبوله بنسبة 64%، وطعن معارضوه في آلية الاقتراع عليه، واصمين إياها ب”التزوير”، ومطالبين بإعادته، فإن الفكرة المجرّدة من أي موقف سياسي تؤكد أن الأساس في الأمور هو الخيار الديمقراطي للشعب المصري، والإرادة الحرة لناخبيه الذين يحق لهم التصويت .

لكن هذا الحديث لا يعني بأي حال من الأحوال، تحويل الديمقراطية ومبادئها إلى “سبيّة” للأغلبية المصوّتة ومن تدعمهم، ولا يعني كذلك أن تتحول إلى شكل من أشكال تكميم أفواه المعارضين، بوسائل مادية أو معنوية، ولا يعني بالمطلق أيضاً الركون إلى هذه الأغلبية، خصوصاً أنها تشكل نحو ثلثي المقترعين الذين وصلت نسبتهم من مجموع من يحق لهم التصويت بالكاد إلى 32% .

الحسبة بسيطة إذاً، ثلثا الثلث مع الاستفتاء وثلثه ضد، وثلثا الشعب المصري أغلبية حقيقية صامتة، لا تعبر ولا تنطق بما يختلج في صدورها من خلال الصناديق، وهذا هو العدد الجدير بالالتفات إليه جيداً والاهتمام به، كون الصمت لن يدوم الدهر كله، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تكميم أفواه جائعين أكثر من كونهم محتجين .

على الدوام كانت للقضاة ورجال القانون والصحافة وحتى الأطباء والمهندسين، وتشكيلاتهم المهنية والنقابية، كلمتهم الواضحة، وصوتهم العالي، في حركتهم النضالية ضد استبداد النظام السابق، ومع تراكم تراث وخبرات هؤلاء في الدفاع عن مصالح منسوبيهم، وعن القانون والعدالة، تبدو محاولة الاعتداء على رئيس نادي قضاة مصر أحمد الزند ليل الأحد الماضي، عقب اجتماع ندد فيه بالمساس بالسلطة القضائية، محاولة مكشوفة لتكميم الأفواه .

وليست محاولة الاعتداء تلك بحد ذاتها القضية، بل الوسيلة التي استخدمت في الاعتداء الذي طال رئيس القضاة جسدياً، ومن ثم تحول إلى إطلاق نار، ما يعني أن الأمر مخطط له، ومعد ليتحول إذا لزم الأمر إلى استهداف جسدي، بدل أن يحتج معارضو الرجل والنادي بطريقة سلمية، رافضين توجهاته وتصريحاته .

هؤلاء أنفسهم من أنصار ومؤيدي النظام الجديد يحاصرون المؤسسات القضائية، وكأن قطاع العدالة المصري هو المستهدف فعلاً، مع أنه لا يشكل أي نقيض أو منافس سياسي، ويبدو أن الأمر يتعدى الاحتجاج إلى محاولة طي السلطة القضائية تحت جناح الإسلاميين ومؤيديهم، ما يعني اختطاف القرار السياسي والتنفيذي والتشريعي والقضائي في البلاد .

الأنكى في الموضوع أن النظام السابق بقوات أمنه ومخابراته وقمعه لم يتمكن من الوصول إلى هذه النقطة المتقدمة في محاولة السيطرة على جميع مفاصل الدولة، وأثبتت التجربة أن أي نظام مهما بلغت سطوته، لن يستطيع تكميم الأفواه المناهضة له أو لسياساته ومشاريعه، وهذا ما يجب أن يأخذه في الحسبان كل من يتصدى لقيادة الدولة العربية الكبرى .

لا مكان لنسخة ديمقراطية من طراز “تكميم الأفواه” في مصر، كما أنه لا مكان لأي من يحاول الإيحاء بأنه الشعب، وأنه صاحب القرار، لأن الشعب موجود، وقراره يطبقه حسب ما يرى ويريد، ولأن أغلبية عاجزة من أصل أقلية ناشطة على مستوى صندوق الاقتراع، لن تتمكن يوماً أن تقنع أحداً بأنها تملك مسار الأمور، فالأغلبية الصامتة، وهي الشريحة الكبرى، لن تلبث إلا أن تتحرك سعياً إلى التغيير، بمجرد تعاظم الإحساس بفقدان الحقوق، وعدم تحقيق تقدم موعود انهالت تصريحات المبشرّين به على رؤوس المسحوقين مثل أمطار “كانون” .

احترام الإرادة الشعبية تقليد ديمقراطي أساسي، لكن التمترس خلف مزاعم الإمساك بزمامها يغدو في مرحلة متقدمة، رهاناً غير محسوب العواقب، والأسلم في حالة مثل تلك ألا يحاول هؤلاء المتغنون ب”أغلبيتهم” التحوّلَ إلى نموذج تسلطي، يعلمون جيداً كيف ستكون عاقبته .


*. نقلاً عن الخليج الاماراتية