الصين و”الديمقراطية الحمراء”
الثلاثاء, 20-نوفمبر-2012
الحسين الزاوي -

شكّل المؤتمر الذي عقده الحزب الشيوعي الصيني مؤخراً الذي تُوِّج بانتخاب قيادة جديدة للبلاد، الحدث الأبرز بالنسبة إلى مسار التحولات الجديدة التي تشهدها الصين في المرحلة الراهنة . ونستطيع القول إن الملاحظين باتوا يُجمعون على أن الإمبراطورية الصينية تمكنت حتى الآن من تحقيق مجمل أهدافها الاقتصادية، وهي مطالبة الآن بتفعيل دورها على مستوى السياسة الدولية حتى يتماشى هذا الدور مع ما تملكه من قدرات اقتصادية وعسكرية جبارة . فقد بات العالم يتجه نحو مرحلة جديدة ستعرف فيها الأسواق الدولية نوعاً من الانكماش، وستضطر الكثير من الدول الغربية الكبرى إلى إعادة تفعيل سياساتها الحمائية، وإلى إعادة توطين الصناعات والخدمات التي تم تهجيرها نحو الدول الآسيوية الصاعدة ذات العمالة الرخيصة، من أجل التغلب على الصعوبات الناجمة عن الأزمة الاقتصادية الحالية التي يميزها تباطؤ شديد في معدلات النمو وصل إلى مرحلة الركود، علاوة على تفشي البطالة وبلوغ المديونية العمومية مستويات خيالية، الأمر الذي من شأنه أن يهدد الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي في هذه الدول .

من المؤكد بناءً على ما سبق، أن القيادة الصينية الجديدة باتت تعلم جيداً أن مواجهة التحديات الدولية الراهنة يتطلب منها تشكيل جبهة داخلية قوية، وتحديداً في هذا الظرف الدولي الحساس الذي يشهد فيه العالم تغيرات جوهرية ومتسارعة، من شأنها أن تُسهم بشكل حاسم في رسم الخريطة الجديدة لنفوذ القوى الكبرى في العالم . فهناك من جهة أولى مطالب داخلية ملحة تتعلق بمبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية العدالة، وبضرورة تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية ما بين التجمعات القروية والمدن، وهناك من جهة ثانية، ضغوط دولية متعاظمة من أجل دفع الصين إلى تبني نموذج الديمقراطية الغربية في تسيير وإدارة شؤون البلاد، وصولاً إلى إعطاء حرية أكبر للأقليات والأقاليم .

وغني عن البيان أن القيادة السياسية الصينية تعلم جيداً، وتحديداً بالنسبة إلى الشقّ المتعلق بهذا الملف الدقيق، أن الأسس الديمقراطية التي بُنيت على أساسها الدول القومية في أوروبا الحديثة، يصعب استنساخها في دولة بحجم القارة مثل الصين، تضم عرقيات وديانات وحتى لغات متعددة، دون أن يفضي ذلك إلى انهيار المورفولوجيا (تشكّل) الحالية للدولة . وبالتالي فإن القيادة الصينية المنتخبة ستسعى دون ريب، إلى طرح أفكار جديدة تتعلق بمبادئ التحول السياسي التدريجي من خلال إدخال مزيد من الشفافية والديمقراطية في تسيير شؤون الحزب الشيوعي الصيني، خاصة على مستوى الأقاليم والمقاطعات، لإتاحة المزيد من الفرص أمام أكبر عدد ممكن من المواطنين من أجل تسيير شؤونهم المحلية .

وتشير أوساط مقربة من الرئيس الجديد إلى أنه بات مقتنعاً بضرورة إجراء إصلاحات سياسية جديدة، من منطلق أن قسم التنظيم التابع للحزب الشيوعي الصيني قام بتكليف مجموعة من الخبراء بهدف إجراء دراسة عن كيفية تحوُّل تايوان وكوريا الجنوبية من دول عسكرية مستبدة إلى أنظمة ديمقراطية . ويرى بعض الليبراليين الصينيين أن الإصلاحات السياسية المتعلقة بتحديث الحزب وتطوير أجهزته قد وصلت إلى مداها الأقصى، وأن التغيير المُقبل يجب أن يمس الدور المركزي الذي يلعبه الحزب الشيوعي الصيني في رسم السياسات الكبرى للدولة .

هناك، إذاً، قناعة راسخة لدى قسم كبير من النخبة السياسية في الصين، أن التطور الاقتصادي الهائل يجب أن يقترن بتطور ملموس على مستوى الممارسة السياسية، وإلا فإن النمو الاقتصادي الحالي القائم على بنية اجتماعية وسياسية عتيقة، سيؤدي خلال السنوات المقبلة إلى تراجع كبير في قدرة الاقتصاد الصيني على مواجهة التحديات العالمية الجديدة . ف”الرأسمالية الحمراء” كما أسماها البعض، لا يمكنها أن تُسهم في تغيير قواعد المنافسة الاقتصادية في البلاد، لأن الصين في حاجة إلى تطوير اقتصادها خلال العشر سنوات المقبلة، بالاعتماد على تشجيع الاستهلاك الداخلي . ومن ثمة فإن الهدف المتمثل في جعل هذا الاستهلاك في خدمة النمو والاستثمار المحلي، لا يمكن بلوغه دون حدوث تحولات جوهرية على المستوى الاجتماعي والسياسي، لأن هذه التحولات هي التي سيكون بإمكانها أن تتيح لشرائح واسعة من المجتمع الصيني من مضاعفة دخلها، من أجل المساهمة في تحفيز النمو والاستثمار الذي ظل معتمداً حتى الآن على عامل التصدير بالدرجة الأولى . وهذا ما يدفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن المسؤولين الصينيين، سيعملون - لا محالة- على إجراء إصلاحات سياسية، من باب الاضطرار وليس اقتناعاً منهم بضرورة وأهمية هذا الإصلاح .

لقد اعترف الرئيس الصيني المنتهية ولايته، أن الخطر الأكبر الذي يهدد الحزب والدولة في الصين يتمثل في الفساد، كما ذهب الرئيس المنتخب إلى التأكيد في أول خطاب له، إلى أن محاربة الفساد سيمثل أولوية قصوى في برنامجه خلال الخمس سنوات المقبلة . ومن الواضح أن هذا الهدف سيظل غير قابل للتحقيق، إذا لم يكن مقترناً ببرنامج طموح وشامل، يهدف إلى تعديل طبيعة الممارسة السياسية في الصين . لكن هذا التغيير المأمول، وبالرغم من كونه يشكل رهاناً رئيساً بالنسبة إلى مستقبل الصين، فإنه لن يتحقق - في كل الأحوال- وفق السجلات الغربية المتعارف عليها؛ ومن غير المستبعد أن يفاجئ القادة الصينيون العالم بإجراء تغييرات سياسية غير متوقعة، قد تكون أقرب إلى “الديمقراطية الحمراء” منها إلى الديمقراطية الغربية، مثلما سبق أن أبهروا العالم بتجربة “الرأسمالية الحمراء” التي جعلتهم يتحولون إلى قوة اقتصادية كبرى في أقل من ثلاثة عقود .



*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية