الواقع والكلمة
السبت, 06-أكتوبر-2012
د.عبد العزيز المقالح -

إذا كان واقعنا العربي بما أفرزه الأمس وبما يفرزه اليوم من أوضاع خطرة ومستجدات كارثية، يبعث على الأرق والقلق، فإن وضع العالم بالمقابل لا يقل خطورة وكارثية، فأوضاعه السياسية كما أوضاعه الاقتصادية لم تصل في يوم من الأيام إلى ما وصلت إليه الآن . وضرورة المعالجة تستدعي العمل الجاد والسريع لتجاوز هذا الواقع قبل أن تتفاقم مشكلاته المتفاقمة أساساً .



وكنت منذ سنوات لا أدري عددها وقد تلقيت السؤال الآتي من صحافي عربي كان يزور اليمن لاستطلاع آراء عدد من المتخصصين في مجالات مختلفة عن الأوضاع التي كانت تسود العالم في ذلك الحين . والسؤال هو: »يتجه العالم بسرعة نحو الهاوية، وربما يكون اليوم على حافة الهاوية فعلاً . . . هل ما يزال بوسع الكلمة أن تفعل شيئاً؟« . . ولا أدري كيف كانت إجابتي عن هذا السؤال الكبير والمخيف . وما يهمني قوله في هذه الإشارات أن العالم الذي كان على حافة الهاوية قد وقع فيها تماماً، وأنه الآن رغم كل ما يقال ويتردد من تطمينات يصارع الهاوية التي كان ينبغي عليه لو استخدم العقل والحكمة في معالجة قضاياه السياسية والاقتصادية لما وقع في الهاوية ولكان على الأقل يعيش على حافتها في انتظار معجزة تبعده عنها قليلاً أو كثيراً .



ويبدو وقد وصل الحال بالعالم إلى ما هو عليه أن الكلمة باتت أعجز وسيلة تعمل على إخراج هذا العالم من المستنقع الكريه الذي وقع فيه بفضل ساسته وقادة الاقتصاد المعولم . ولعل الكلمة - بعد أن أسيء استخدامها - لم تعد قادرة حتى على القيام بدور القشة التي يتمسك بها الغريق، فقد تحولت في كثير من الميادين والحقول إلى لعنة ووصمة عار على اللغات بعد أن انزلقت إلى إشاعة الكراهية ونشر السموم الطائفية والعنصرية . وتولت في البلدان المتقدمة تطوير مسارات التعالي وتخريب ما كانت قد اضطلعت به في عصور قديمة من تعميق الانتماء الإنساني ومغادرة أقبية الجنس واللون والانطلاق نحو فضاء لا تحده الجغرافيا واللغات والقوميات التي هي في حقيقة أمرها علامة من علامات التنوع والتعدد، لا علامة للتمييز والاختلاف .



كيف اختفى ذلك الدور الإنساني للكلمة؟ وكيف لم تعد قادرة على هداية البشر وإنقاذهم من خطر الوقوع في ما وقعوا فيه؟ وكيف أصبحت اللغة مغبّشة وملتبسة وخائفة من أن تقول الحقائق كما هي بعيداً عن التزوير والمخاتلة؟ لذلك كله فقدت دورها وأهميتها، وصار دورها إخبارياً، بمعنى نقل الأخبار وإغراق الناس في مزيد من الهموم من خلال وصف ما يحدث هنا وهناك من قتل وتدمير، ولم تعد قادرة على الحديث عن مشاعر الحب والشجاعة والتعاطف الإنساني، وتقديم النماذج الجميلة للحياة التي نريد أن نعيشها ونستمتع ببهائها وجمالها وبشيء من الهدوء الذي نحتاج إليه وتحتاج هي إليه أيضاً .



لقد وقعت الكلمة في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم والناس في فخّ لا تستطيع أن تتخلص من براثنه إلاَّ بمقاومة عالية وثورة عارمة، وبتحدٍ صارم وعنيف لكل وسائل التدجين والتزييف، ولكل ما من شأنه أن يوجّه الكلمة إلى حيث يريد لا إلى حيث تريد هي، ويريد ضمير كاتبها، الذي أفلت منه في السنوات الأخيرة زمام السيطرة، فطارت الكلمات من بين يديه وكأنه ليس صاحبها ولا يمت إليها بصلة، وهذا ليس دفاعاً مباشراً عن الكاتب وإنما هو إدانة مبطّنة له وللكلمة التي باتت تغمض عينيها عن كثير من المآسي التي تضج بها الأرض ويأرق لها ضمير الإنسان الذي مايزال يحتفظ بشيء من الاحترام لذاته ولكلماته .




*. نقلاً عن صحيفة الخليج ا لإماراتية