المحافظة المالية الاستثنائية في أمريكا
الخميس, 30-أغسطس-2012
سايمون جونسون -

في معظم البلدان، أن تكون ''محافظا ماليا'' فإن هذا يعني أن تقلق كثيراً بشأن عجز الميزانية ومستويات الدين والدفع بهذه القضايا إلى مقدمة أجندة السياسات. واليوم في عديد من دول منطقة اليورو، يشكل ''المحافظون ماليا'' مجموعة قوية، تصر على ضرورة تعزيز الإيرادات الحكومية، مع وضع الإنفاق تحت السيطرة في الوقت نفسه. وفي بريطانيا العظمى أيضا، أثبت محافظون قياديون أخيرا استعدادهم لزيادة الضرائب ومحاولة الحد من الإنفاق في المستقبل.

أما الولايات المتحدة فهي مختلفة تماماً في هذا الصدد. فهناك، قرر كبار الساسة الذين اختاروا أن يطلقوا على أنفسهم وصف ''المحافظين الماليين'' ـــ مثل بول ريان، مرشح الحزب الجمهوري المفترض لمنصب نائب الرئيس لخوض انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل بجانب المرشح الرئاسي مِت رومني ــــ زيادة الاهتمام بخفض الضرائب، بغض النظر عن أثر ذلك في العجز الفيدرالي ومجموع الديون المستحقة. ولكن لماذا يولي المحافظون الماليون في الولايات المتحدة هذا القدر الضئيل من الاهتمام للدين الحكومي، بالمقارنة بأقرانهم في بلدان أخرى؟

لم تكن الأمور على هذا النحو دوما. على سبيل المثال، في عام 1960، اقترح مستشارو الرئيس دوايت د. آيزنهاور خفض الضرائب لتمهيد الطريق أمام نائبه، ريتشارد نيكسون، لكي ينتخب لمنصب الرئيس. ولكن آيزنهاور رفض، ليس لأنه لا يحب أو لا يثق في نيكسون، ولكن لأنه رأى في المقام الأول أنه من الأهمية بمكان أن يسلم خليفته موازنة أقرب إلى التوازن.

لقد تغير إطار سياسة الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة بشكل جذري مع انهيار النظام النقدي العالمي في عام 1971. فلم يعد بوسع الولايات المتحدة الإبقاء على سعر صرف ثابت لفترة أطول بين الدولار والذهب ــــ حجر الأساس لنظام بريتون وودز النقدي بعد الحرب. وانهار ذلك التدبير لأن الولايات المتحدة لم تكن راغبة في إحكام سياستها النقدية وتطبيق سياسة مالية أكثر تقييدا: فقد كان من المفهوم أن الإبقاء على الناخبين الأمريكيين سعداء أكثر أهمية بالنسبة للرئيس الأمريكي نيكسون من الإبقاء على نظام عالمي يعتمد على أسعار صرف ثابتة.

والحقيقة أنه كلما بدا العالم غير مستقر، زادت رغبة المستثمرين في الاحتفاظ بأصول بالدولار ــــ حتى وإن كانت الولايات المتحدة هي المتسببة في حالة عدم الاستقرار. فعندما تكون المصارف الأمريكية الكبيرة في ورطة أو عندما ينخرط الأمريكيون في معركة سياسة أخرى منهكة حول مواردهم المالية العامة، يتدافع المستثمرون العالميون للحصول على سندات الخزانة الأمريكية. ولعل المواجهة التي شهدها الكونجرس في العام الماضي حول سقف الديون الفيدرالية كلفت الولايات المتحدة تصنيفها السيادي (أأأ) مع ستاندرد آند بورز، ولكن تكاليف اقتراض الحكومة الفيدرالية في واقع الأمر أقل كثيراً الآن مما كانت عليه آنذاك.

ولكن ماذا فعلت أمريكا بهذه الفرصة ــ ما يزعم البعض أنها التكاليف الأقل للتمويل في تاريخ البشرية؟ ليس الكثير، فيما يتعلق بالاستثمار الإنتاجي، أو تعزيز التعليم، أو الحفاظ على البنية الأساسية الضرورية. ولكن الولايات المتحدة قطعت شوطاً كبيراً فيما يخص اعتماد تخفيضات ضريبية تعمل على تعزيز الاستهلاك نسبة إلى الدخل، وخفض الإيرادات الحكومية نسبة إلى الإنفاق. وهذا هو الإرث الدائم للتخفيضات الضريبية ''المؤقتة'' التي اعتمدتها إدارة جورج دبليو بوش في السنوات الأولى من القرن الـ 21.

إن ريان وأعضاء جناح حزب الشاي في الحزب الجمهوري يريدون بلا أدنى شك تقليص حجم الحكومة الفيدرالية، وقد أفصحوا عن خططهم لتنفيذ ذلك على مدى عدة عقود من الزمان. ولكن ما يعدون به في الأمد القريب هو في المقام الأول خفض الضرائب: وبرنامجهم العملي بالكامل يسير في ذلك الاتجاه. وتفترض حساباتهم أن هذا سيحظى بشعبية سياسية (وقد يكون هذا صحيحا) في حين يجعل عملية خفض الإنفاق بعد ذلك أكثر سهولة (وإن كان هذا أقل وضوحا). والواقع أن الضعف الناجم عن ارتفاع الدين العام على مدى العقود القليلة المقبلة كان موضع تجاهل ببساطة.

على سبيل المثال، ساند ريان انغماس جورج دبليو بوش في الإنفاق. كما يدعم الإبقاء على الإنفاق الدفاعي عند مستواه الحالي أو عند مستوى قريب منه ـــ بهدف مقاومة التخفيضات التي تم إقرارها بموجب قانون مراقبة الميزانية لعام 2011.

والفرضية هنا ــــ غير المعلنة والمثيرة لقدر عظيم من الشكوك ــــ هي أن الولايات المتحدة ستتمكن من بيع قدر غير محدود من الدين الحكومي بأسعار فائدة منخفضة في المستقبل المنظور. ولا توجد دولة أخرى في العالم قد يرغب المحافظون الماليون لديها في الارتباط بمثل هذه المقامرة المحفوفة بالمخاطر.

*نقلاً عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية.