العقيدة الألمانية في مواجهة أزمة اليورو
السبت, 28-يوليو-2012
فهد إبراهيم الشثري -

إذا كان هناك من فائدة من الأزمة المالية والاقتصادية التي لا يزال العالم يشهدها، فهو أن أفضل علاج لمثل هذه الأزمات الكي. والكي في بداية هذه الأزمات ذات التأثير الشامل أقل ألماً من الكي في آخرها، لأن منطقة الكي ستزداد كلما تأخرنا في معالجة الأزمة، والتعامل معها بشكل حاسم. التعامل مع الأزمات أصبح له منهجان متباينان في فلسفتهما، الأول المنهج الأمريكي الذي يستخدم أسلوب البازوكا، أو الكي من البداية، والثاني الأوروبي الذي يستخدم أسلوب الأسلحة الخفيفة ذات التأثير المحدود. عدم اعتراف الأوروبيين بحجم مشاكلهم من البداية جعلهم يتأخرون كثيراً في التعامل معها، مما ضاعف كثيراً من تكلفتها، وساهم بشكل كبير في انتشارها. العقيدة الألمانية في التعامل مع المشكلة، ساهمت في تعميقها وتعقيدها بدلاً من حلها.
عامان مرا على بداية أزمة الديون السيادية الأوروبية، ولا يزال الأوروبيون يراوحون مكانهم، بل يتراجعون إلى الوراء بعد كل اتفاق بينهم. لكن ما الذي يجعل الأوروبيون ينهجون هذا المنهج الذي في كل مرة يأخذ الاقتصاد العالمي معه في متاهات تراجع الثقة وزيادة المخاوف. في البداية كان الجميع، بمن فيهم الأوروبيون يرفضون فكرة إعادة هيكلة ديون اليونان، لكن ذلك حصل. في السابق كانت فكرة قيام آلية الاستقرار الأوروبي EFSF بإعادة هيكلة ديون المصارف في منطقة اليورو مرفوضة على الإطلاق، وذلك وفقاً للعقيدة الألمانية التي تطالب أن يتم ذلك من خلال الحكومات لكي يتم فرض شروط تصحيحية عليها. لكن ذلك لم يؤد إلا إلى المزيد من زيادة أعباء الديون على الحكومات ــــ كما في حالة إسبانيا ـــ وهو ما أدى في النهاية إلى قبول فكرة قيام آلية الاستقرار المالي الأوروبي بإعادة هيكلة ديون المصارف، في هزيمة أخرى للعقيدة الألمانية.

كان الألمان متمسكين منذ بداية الأزمة بأولوية إصلاح أوضاع المالية العامة في الدول التي تسعى إلى الحصول على برامج إقراض تصحيحية من قبل الترويكا (الاتحاد الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي). لكن بعد الانتخابات الفرنسية الأخيرة وفوز المرشح الاشتراكي فرانسيس هولاند بالرئاسة خسر الألمان، وبالتحديد المستشارة الألمانية ميركل، الداعم القوي لفرض سياسة ألمانيا تجاه عملية الإصلاح في منطقة اليورو. على خلاف ميركل فإن هولاند يرى أهمية التركيز على النمو كوسيلة لانتشال دول الأزمة من مشاكلها، وهنا وجد كل من رئيس الوزراء الإيطالي مونتي، الذي تبنى خطة تقشف غير مسبوقة في إيطاليا، ورئيس الوزراء الإسباني، فرصة لهما في دعم موقف الرئيس الفرنسي، مما أضعف من موقف ميركل، وجعلها تقبل فكرة التركيز أيضا على النمو.

المرحلة الحالية تشهد ضغوطاً كبيرة على البنك المركزي الأوروبي، المتبني منذ تأسيسه عقيدة وفكر البنك المركزي الألماني (البوندزبانك)، لكي يقوم بدور في سبيل دعم المصارف الأوروبية مباشرة، أو ما يسمى المقرض الأخيرThe Lender of Last Resort، وذلك يعني تغييرا كاملا في المهمة الرئيسة التي تحددها اتفاقية تأسيسه، التي تركز على استقرار الأسعار، ولا تشمل في ذلك العمل على تحقيق الاستقرار المالي وزيادة التوظيف. في هذه النقطة يختلف دور البنك المركزي الأوروبي عن غيره من البنوك المركزية في العالم، كالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، مما سيجعل من الصعوبة بمكان قبول فكرة التدخل المباشر من البنك المركزي الأوروبي لإعادة شراء الديونDebt Monetizing، أو بضخ المزيد من السيولة بزيادة عرض النقود.

لكن نوعاً من عملية مبادلة الديون قام بها البنك المركزي الأوروبي على مرحلتين في نهاية عام 2011 وبداية العام الحالي، من خلال برنامج شراء السندات SMP، مما ساهم في التخفيف من آثار الأزمة في ذلك الوقت. لكن استمرار البنك في القيام بدور المقرض الأخير سيتطلب الدخول فيما يسمى باتحاد مصرفي Banking Union بحيث يكون هناك إشراف مصرفي واحد وآلية موحدة لتأمين الودائع على مستوى منطقة اليورو. المشكلة الأخيرة التي سيجب التعامل معها هي وجوب أن تكون هناك سياسة مالية موحدة على مستوى الاتحاد تدار من قبل مؤسسة خزانة أوروبية لتقابل في مهمتها مهمة البنك المركزي الأوروبي. كل هذه متطلبات يجب توافرها لكي يتمكن البنك المركزي الأوروبي من القيام بدور أكبر في معالجة الأزمة.

من كل ذلك نستخلص أن الأزمة هي صراع بين فريق داعمي المزيد من التكامل الاقتصادي على مستوى منطقة اليورو، بما في ذلك التخلي عن مزيد من السلطات الوطنية لصالح سلطة أوروبية موحدة على مستوى منطقة اليورو، وهذا الفريق يتمثل في ألمانيا وهولندا والدول الأخرى ذات الوضع المالي الجيد، في مقابل دول أخرى لا ترغب في التخلي عن سيادتها على بعض هذه السياسات، لكنها مرغمة على ذلك إذا كانت ترغب في الخروج من الأزمة. لكن كل فريق سيدفع ثمناً باهظاً، فالألمان سيتخلون عن عقيدة البوندزبانك التي تسيطر حالياً على البنك المركزي الأوروبي، وسيتحملون جزءاً كبيراً من تكاليف التصحيح في دول الأزمة، في حين ستقبل الأخيرة مرغمة أن تضع سياستها المالية والنقدية بالكامل تحت إشراف سلطة أوروبية.

*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.