الجزائر في عيد الثورة الخمسيني
السبت, 21-يوليو-2012
د. عبد العزيز المقالح -

لم يكن احتلالاً ذلك الذي شهدته الجزائر على مدى قرن ونصف القرن، وإنما كان استيطاناً وحشياً، ومحاولة شرسة لإلحاق الجزائر بفرنسا، على الرغم مما كان ومايزال يفصل بينهما جغرافياً وهوية ولغة وتاريخاً . ولأن ذلك كان هو الهدف من الاحتلال، فقد اندفع الجزائريون بكل ما لديهم من قوة الإيمان وصلابة الهوية للدفاع عن حريتهم واستقلال بلادهم، وقدموا في سبيل الانعتاق من قبضة ذلك الاحتلال الاستيطاني مليوناً ونصف المليون شهيد . وهو ثمن غالٍ، لكن الاستقلال يستحق مثل هذا الفداء، فلا شيء يعادل الحرية ولا شيء يفوق السيادة ويقارن بالاستقلال . وإذا كانت كل الشعوب العربية التي وقعت في براثن الاحتلالات المختلفة قد قاومت وقدمت الكثير من الضحايا من أجل التحرر، فإن ما قدمه الشعب العربي في الجزائر يفوق كل تصور .

ويبدو للباحثين والمتابعين أنه كان على الشعب الجزائري أن يكون سخياً في تضحياته إلى هذه الدرجة، وأن يضرب المثل الأعلى في ارتفاع عدد الشهداء لإقناع فرنسا التي أرادت منذ أول يوم وطئت فيه أقدام جنودها أرض الجزائر ألا يكون وجودها في هذا البلد العربي احتلالاً مؤقتاً، وإنما احتلال إقامة واستيطان، وما كان يمكن مواجهة تلك الرغبة الاستعمارية إلا بذلك الفيض من الدماء والاستشهاد، ومن دون ذلك ما كانت فرنسا لتخرج أو تحني رأسها لشعب ما كان ليتراجع حتى لو لم يبق فيه رجل واحد . وقد أدرك القادة الفرنسيون بعد أن استخدموا كل ما لديهم من قوة، أن البقاء في الجزائر مستحيل، وأن الجزائر بلغتها وتاريخها وعقيدتها وهوية أبنائها، جزء من أمة كبيرة هي الأمة العربية التي مهما تجزّأت وتفرّقت مكتوب لها أن تعود .

لقد عمل الفرنسيون طوال قرن ونصف القرن على فرنسة الجزائر وإلحاقها بالأرض “الأم”، كما كانوا يزعمون، وكانت أوهامهم وأطماعهم تصور لهم أن الشعب الأعزل عاجز عن مقاومة الإمبراطورية الفرنسية، وأنه إذا ما ظهرت مقاومة فإن سحقها ممكن، لكن الشعوب العظيمة قادرة على أن تتحدى وتثبت لأعدائها أنها قادرة على تجاوز كل المخاطر والرهانات، وتلك هي الأمثولة التي ضربتها الثورة الجزائرية لشعوب العالم . وكان أثر تلك الأمثولة واضحاً ليس في الوطن العربي وإفريقيا وحدهما، وإنما في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى في آسيا مثل فيتنام على سبيل المثال التي استلهم قادتها الثورة الجزائرية، ولم تنههم عن مواصلة المقاومة ما استخدمته الولايات المتحدة من أسلحة محرّمة ومن مواجهات وحشية، ومنها استخدام أسلوب الأرض المحروقة وتدمير المدن . وكانت النتيجة في فيتنام كما كانت في الجزائر تماماً، أن انتصرت الثورة واندحر الاحتلال الأجنبي بعد أن تكبد ما لا يمكن تصوره من خسائر بشرية ومادية .

فلا خوف إذاً، على الشعوب العظيمة من أي غزو أو احتلال مهما كانت قوة المحتل وإمكاناته المرعبة، الخوف على الشعوب التي تعاني التمزق الداخلي وذلك النوع من البشر المفرّغين من الهوية الذين لا يعنيهم الوطن في شيء، إذا ما تحققت مصالحهم الذاتية، أن يعيش وطنهم حراً أو عبداً، المقياس لدى هذا النفر من مواطني الشعوب المنكسرة أن تكون لهم مصلحة خاصة ينطلقون منها إلى خدمة أية قوة مهيمنة، وهؤلاء هم الأعداء الحقيقيون، وقد أفرزتهم الجزائر أو بالأصح لفظتهم من حياتها، وهي في عيد استقلالها الخمسيني لم تشغلها الأفراح والاحتفالات عن تذكر الماضي والنظر إلى المستقبل، وفي التذكر عظة واعتبار، وفي النظر إلى الآتي إصرار على تجاوز كل ما من شأنه أن يعيق حركة التقدم، ويحول دون مواصلة التغيير والبناء بالنهج نفسه الذي مكّن الثورة من الانتصار .




.* نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية