لماذا نحتاج لحكم القانون؟
الأحد, 02-مارس-2008
 موريس
آندرو بي. موريس - آندرو بي. موريس
أستاذ القانون والتجارة في جامعة إلينوي.

في عام 1766 أعلن جون آدمز أن أمريكا "هي أمة قوانين وليست حكم رجال." السياسيون من جميع المنطلقات قد استخدموا هذا التعبير منذ ذلك الحين، لادعاء موقف أخلاقي مرتفع. مثل هذا الاتفاق النادر بين الأطياف السياسية، حتى وإن كان خطابياً، هو إشارة إلى قوة فكرة حكم القانون.
ماذا يعني وجود حكم القانون؟ إن اعتراض آدم على حكم الرجال بدلاً من حكم القانون، يعطي جزءاً من الجواب. "أمة من الرجال" ستكون حكومة تحكمها الأهواء ورغبات الحكام، لا تردعهم أية قيود في فرض ما يرون على من يخضع لحكمهم. فالنزاعات تقرر وفق أفضليات الحكام، وليس وفق المبادئ، بحيث يترك الأفراد تحت رحمة الحاكم، ولا من يحميهم منه. "أمة القانون"، من الناحية الأخرى، تستبدل التفضيل بالمبدأ، في إصدار الأحكام.
انظر إلى سؤال بسيط حول ما إذا كان يتوجب على جون تسديد قرض إلى ماري. في أمة يحكمها الرجال وليس القانون، فإن حقيقة القرض تصبح غير ذات موضوع؛ الذي يَهُم هو ما إذا كان راعي جون أهم وأعلى من راعي ماري. أما في أمة يحكمها القانون، من الناحية الأخرى، فإذا استطاعت ماري أن تثبت بأن جون قد اقترض المال منها ولم يسدده، فإن مبادئ قانون العقود، يوجب على جون إعادة القرض الذي أخذه، بغض النظر عما إذا كان مع جون أصدقاء أقوى من أصدقاء ماري.
وبعبارات أخرى، فإن المجتمعات، بدون حكم القانون، تكون في عيش الطبيعة البدائية التي وصفها هوبز، والتي لا يمكن الهرب منها إلا من خلال تدخل الحاكم السلطوي. مثل هذا الهرب إنما يُشترى بالتنازل عن الحرية للحاكم المطلق، والقبول بأوامره، على حساب تجنب خسائر أكبر، في حرب الجميع ضد الجميع. في مجتمع يحكمه القانون من الناحية الأخرى، فإن الأفراد لن يخافوا جيرانهم، لأن النزاعات سوف تقرر من خلال تطبيق المبادئ، المعروفة سلفاً. لا يكون لأولئك الأفراد أي سبب للخضوع لسلطة الحاكم المطلق (ما نعرفه عن مجموعات متعددة من "المجتمعات البدائية"، يبين بأن حكم القانون كان منتشراً أكثر كثيراً مما كان يظن فيما مضى. بروس بنسون، في كتابه: فعل القانون، على سبيل المثال، يوثق لوجود حكم القانون، في عدد من المجتمعات ما قبل العصر الحديث).
ففي مجتمع يخضع لحكم القانون، علينا أن نتوقع ملاحظة أمرين رئيسيين. أولا، أن المبادئ التي سوف تحل بموجبها النزاعات، هي معروفة سلفاً. جون يعرف قبل أن يقترض المال من ماري، بأن التعهد بتسديد القرض هو أمر يخضع للتنفيذ. ثانياً، إن نتائج تطبيق تلك المبادئ لأي نزاع، لا يتوقف على من هي أطراف النزاع. الناس الأقوياء يخضعون لنفس القوانين التي يخضع لها الضعفاء، وكذلك الأغنياء يخضعون لنفس الأحكام التي يخضع لها الفقراء.
هذه ضرورة، ولكنها ليست شرطاً كافياً لحكم القانون. وبينما نحن، في بعض الأحيان، نأخذ مضامين حكم القانون كأمور مُسلَّم بها في يومنا هذا، فقد كانت هذه القوانين مغيبة، في ظل الحكام المستبدين. وعلى سبيل المثال، كان الإمبراطور الروماني كليجولا يأمر بأن تكتب أوامره بأحرف صغيرة، وأن تعلق عالياً بحيث لا يمكن لأحد قراءتها، للتأكد من أن المواطنين لا يمكنهم أن يعرفوا ما إذا كانوا قد خالفوا القانون أم لا.
تلك الشروط كافية، لاستبعاد الحكم الاستبدادي مثل حكم كليجولا، ولكنها ليست كافية لإيصالنا إلى المجتمع الحر. علينا أن نقيّد مضامين القوانين لسببين: أولاً، حتى يكون هنالك حكم القانون، يتوجب أن يكون جون وماري مُؤمنين بدرجة كافية بحقوق ملكيتهما، بحيث استطاعا جمع ثروات كافية لجعل الصفقة بينهما ممكنة. ثانياً، علينا أن نكون قادرين على إبعاد نظم استبدادية، مثل الفاشية والشيوعية، التي تستبد بالناس بقوانين توضع بموجب "إجراءات مناسبة"، وكذلك مجرد قوانين عشوائية مثل قوانين كليجولا.
النظام الألماني النازي مثلاً، كان له قوانين كثيرة معروفة ومفهومة ومعها أحكام تطبيقية مناسبة. قوانين نورنبرغ سيئة السمعة، على سبيل المثال، حرّمت الزواج بين "المواطنين الألمان، والأجناس القريبة منها،" مع اليهود. القانون كان معروفاً ومفهوماً من قبل الناس، وكان يُطبق بالتساوي. وكما هو الحال في معظم الدكتاتوريات، بطبيعة الحال، كان تطبيق القانون في بعض الأحيان يوقف عشوائياً—بيد أن اعتراضنا الرئيس على النظام النازي كمخالف لحكم القانون، ليس بسبب أن تلك القوانين الكريهة، لم تكن تُطبقُ بشكل صحيح. بعض القيود على مضامين ما يستطيع واضعو القانون عمله، يبدو ضرورياً.
بطبيعة الحال، فإن قوانين نورنبرغ، بُنيت على أساس التمييز بين من هم ألمان، أو من ذوي دماء قريبة منهم، وبين اليهود، وهو تمييز ندرك في يومنا هذا أنه غير قانوني على الإطلاق. ألمانيا، لم تكن وحدها قد وضعت مثل ذلك التمييز: فكثير كان يتوقف على التمييز الدقيق في درجة "الدم الإفريقي" بموجب القوانين التي كانت سائدة في فترة ما قبل الحرب الأهلية، وقوانين الفصل العنصري الأمريكية، وقوانين سخيفة مماثلة مستمرة حتى اليوم في الولايات المتحدة (حول سكان هاواي الأصليين، ووضع الأمريكيين الهنود)، وفي نيوزيلندا، حول وضع (الموري الأصليين). إن تلك القوانين موجودة في التمييز على أسس غير الأسس العرقية—قوانين التمييز في العمل، والتي يتوقف التعامل بموجبها على كونهم من أصحاب الأعمال الصغار أم الكبار، أصحاب العمل أو الموظفين لديه، الأصحاء أو ذوي الإعاقات البدنية، وهذه مجرد أمثلة قليلة منتقاة. وفي الحقيقة، فإن أحد القضايا الجوهرية في النظام القانوني السائد اليوم، هي أن حقوقنا كثيراً ما تعتمد على كيفية التصنيف الذي وضعنا فيه القانون، وهو موضوع سوف نعود إليه في سياق هذا البحث.
لذا، فإن معاملة الأفراد، تعاملاً مختلفاً، ليس مجرد إرث من الماضي الاستبدادي، بل هو مسألة حقيقية في النظام القانوني المعمول به في يومنا هذا.
وضع ضوابط للمضامين
إن وضع ضوابط لمضامين القوانين يتطلب أن نتولى تقييد السلطات التي نملك وضعها. أية نظرية معقولة لحكم القانون يجب أن تستطيع التفريق بين نظام القانون النازي وبين النظم القانونية في المجتمعات الحرة. وفي الحقيقة، فإن ذلك هو الحد الأدنى من المتطلبات. هنالك حالات أقرب كثيراً، حيث نريد من نظريتنا بأن تبذل جهداً أكبر كثيراً لرسم المفارقات بينها. لذا، فإننا نحتاج لإضافة بعض من القيود ذوات المضامين إلى الشروط الأولية التي ذكرناها. وهنا تبرز بعض القضايا المُحيّرة.
إن فكرة أن حكم القانون يتطلب قيوداً على صلاحيات واضعي القوانين، هو بعيد جداً عن القبول على مستوى العالم. وعلى سبيل المثال، فإن هانز كيلسن، أحد أعظم علماء القانون في القرن العشرين، لا يقبل بها. كيلسن (الذي اضطر إلى الهرب من ألمانيا عندما جاء هتلر إلى الحكم)، اعتقد بأن القوانين النازية العرقية تستجيب لتحديد القانون، بسبب أنه قد وصف القانون، في ضوء قدرة الدولة على دعم أوامرها، بالتهديد باستخدام القوة، ولم يفرض قيوداً حسية على مضامين القوانين. إن نظرياته ما زالت تُدرَّس في كل أنحاء العالم، وبالأخص في البلدان التي تطبق القوانين المدنية. ومن المعجبين بنظريته ريتشارد بوزنر، أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في المؤسسات القانونية الأمريكية اليوم (لحسن الحظ، ونظراً لمركزه، فإن فقه القانون لدى بوزنر هو أفضل كثيراً من فقه كيلسن)!
ولدينا أيضاً مسألة أين نجد القيود التي نود فرضها. في كتابه: موجز لتاريخ الزمن، يذكر العالم الشهير ستيفن هوكنج قصة عن عالم، والذي بعد أن ألقى محاضرة عن تكوين النظام الشمسي والمجرات، جاءت نحوه سيدة مسنة صغيرة الحجم. قالت له إن حديثه لا يسوى شيئاً لأن كل واحد يعرف بأن الأرض مسطحة، وتحقق توازنها باستنادها إلى ظهر سلحفاة عملاقة. وقد أجاب العالم بسؤالها: وعلى ماذا تستند السلحفاة! وقد أجابت "أنت ذكي جداً أيها الشاب اليافع، ذكي جداً. إنها سلاحف على طول الخط." لسوء الحظ فإن المحاولات الكثيرة التي تبذل لإيجاد القيود المحسوسة على النظام القانوني، تتمحور حول وضع منطلقاتنا على أعداد غفيرة من "السلاحف" التي تزداد باستمرار. وكما لاحظ فريدرك هايك بتفهم في عام 1973، فإن المشكلة تكمن في أن النظام القانوني "يرفض الاعتراف بجبرية أية أنظمة للسلوك ما لم تكن مُسوغاتها قابلة للتبرير العقلي، أو، أن تكون واضحة ومُبينة لكل شخص،" وهي مشكلة ظلت تتردد وبلا توقف منذ القرن التاسع عشر (القانون، التشريع، والحرية، المجلد 1، ص. 25؛ [أرقام الصفحات التالية هي من هذا الكتاب]). ومثلما أن التخطيط الاقتصادي المركزي قد تطفل على النظام العفوي لاقتصاد السوق، على امتداد القرن العشرين، كذلك، فإن التخطيط القانوني المركزي، قد أزاح أكثر فأكثر من النظام العفوي للقانون القائم على العرف والعادة غير المكتوبة. ونتيجة لذلك، فإنها "سلاحف" على طول المدى لمعظم أصحاب النظريات القانونية الحديثة. وفي سعيهم لفرض أنظمتهم القانونية المعقدة والمخططة والعقلانية على مجتمعاتهم، فإنهم يُكدِّسون "سلحفاة فوق سلحفاة،" في محاولتهم إيجاد مصدر مقبول لاستنباط القوانين التي يكتبونها.
المصادر الخارجية للقيود
أحد المصادر الممكنة لإيجاد قيود حِسِّيةٍ، هي في التطلع خارج النظام القانوني، لمجموعة من المبادئ التي تُرشد القانون. هنالك تنوعات لا متناهية كمصادر ممكنة: حركة المساواة بين الجنسين، الماركسية، الفاشية، القانون الإلهي، أو أية أيديولوجية تكون رائجة في زمن ما. إنها جميعها تعاني من مشكلة السلحفاة، بطبيعة الحال، ذلك لأنها بكل بساطة تكون قد استبدلت مسألة تبرير موضوع مساواة الجنسين، والماركسية وغيرهما، في السعي لإيجاد مبررات لتقييد النظم القانونية. أتباع تلك النظريات المختلفة على امتداد العالم يدركون الحقيقة الجوهرية لآرائهم الخاصة تلك، بيد أن إقناع البقية منا كان ينتهي عموماً باستخدام سلطة الدولة لفرض الخضوع للقانون. طبعاً، السلحفاة التالية هي مسألة كيفية فض النزاعات وباستخدام أية نظرية. لأولئك الذين يُعرّفون القانون فقط كأمر من الحاكم صاحب الأمر، فإن هذه لا تُشكل مشكلة له. إن صاحب الأيديولوجية التي يستخدمها من يملك مَدَافع أكثر يأمرنا بما يجب أن نفعل، ويجب أن نكون شاكرين إذا لم يكن أصحاب السلطة تلك من الخمير الحمر أو طالبان.
إنني لا أعني بهذا أن لا تلعب معتقداتي الدينية أو الفلسفية أي دور رئيسي في تكوين سلوكي، مثلما تفعل قناعاتك في تكوين سلوكك. القضية هي ما إذا كانت معتقداتي تتاح لها الفرصة للتأثير في سلوكك. والعكس بالعكس.
إن سجلات المجتمعات التي تطلّعت خارج الأنظمة القانونية، إلى النظم الدينية والسياسية وغيرها من النظم الأخلاقية، كأسس للتقيد بالقانون، هي ليست ليبرالية، كما أنها لم تكن تجارب سعيدة. الاتحاد السوفييتي، وماستشوستس الدينية المتزمتة، ونظام طالبان في أفغانستان، هي مجرد أمثلة قليلة على مجتمعات فاشلة اعتمدت على منظومات خارجية من المعتقدات، كمصدر للتشريع في نظامها القانوني. ولسوء الحظ، فإنها أيضاً مجتمعات أكثر شهرة بسبب محاكماتها التمثيلية المضحكة (السياسية والدينية)، أو لعمليات القتل الجماعي منها لاقتصاديات مزدهرة أو حريات. الدرس المستفاد هو أنه إذا أردنا أن يكون لنا مجتمع يكون فيه الناس أحراراً باعتناق آراء متباينة، حول القضايا الدينية والأخلاقية، فإننا لا نستطيع الاعتماد على مثل تلك المصادر لتقييد السلطة، بدون إشعال فتيل النزاع، حول أي من الأديان أو النظم الأخلاقية يتوجب الاعتماد عليها.
مصدر ممكن آخر للقيود، هو في اختصار المواضيع التي يمكن وضع القوانين بشأنها. النزاعات حول أخلاقيات السلوك المتفق عليه بين الراشدين، على سبيل المثال، يمكن تركه لمنبر الوعظ، أو إلى أجهزة تبريد المياه، إذا لم تكن الولاية مفوضة بإصدار تشريعات بشأنها. الدستور الأمريكي، يأخذ هذا المنحى عن طريق تحديد دقيق للمواضيع التي تملك السلطات الفيدرالية حق التشريع بشأنها. وبمثل ذلك التقييد، كان أمل واضعي الدستور تقييد الحكومة المركزية ضمن مساحة ضيقة نسبياً. لسوء الحظ، فإن هذه الاستراتيجية تبين أنها غير كافية للحد من توسع سلطات الحكومة المركزية. وما أن استقرت الحكومة الفيدرالية في السلطة، حتى غدت لوبياً دائماً لتوسيع سلطاتها نفسها، وعلى مر الزمن، قليلاً قليلاً، تمزقت القيود التي كان الدستور قد فرضها. وعلى سبيل المثال، سمحت المحكمة العليا بتوسيع متزايد لسلطات الكونغرس، بموجب الفقرة الخاصة بالتجارة التي ورد ذكرها في الدستور (المادة 1، القسم 8، البند 3)، وفي نهاية الأمر، الأخذ برأي قانوني صدر عام 1942 في قضية ويكارد/فيلبورن ومفاده أن الكونغرس يستطيع الاعتماد على السلطات التي تنظم التجارة بين الولايات، لمعاقبة مزارع قمح، زرع قمحاً على أرضه، ولأغراض استهلاكه (مع الأسى، فقد تبنت المحاكم سنة 2005 مرة أخرى هذا التوجه، في قضية غونزاليس/ريك، عندما تمسكت بالقوانين الفيدرالية التي تمنع الاستخدامات الطبية للماريوانا).
ومع أن المحاكم حاولت في الآونة الأخيرة إعادة بعث فكرة الصلاحيات المتعددة، كقيد فعال على الحكومة الفدرالية، فإن مدى قوتها اليوم يصيب بالصدمة بكل تأكيد حتى أولئك الأكثر حماساً لتوسيع السلطات الفيدرالية، بين مؤسسي الدستور. ومع أن فرض أعداد كبيرة من القيود على سلطات الدولة، من خلال دستور مكتوب، هو أمر جدير بالمتابعة، يجب الاعتراف بأن مثل تلك القيود معرضة للزوال تحت الضغوط المتواصلة من قبل الحكومات، وجماعات المصالح الخاصة.
الحل من وجهة نظر هايك
أين إذن نستطيع أن نجد مصدر تقييد من شأنه تحديد سلطات الدولة، ويمكننا من العيش تحت حكم القانون، وليس حكم الأشخاص؟ لقد كتب هايك مطولاً حول القانون، مطبقاً آراء المدرسة النمساوية للاقتصاد في دراسة المؤسسات القانونية في كتابه: دستور الحرية (1960)، وملف من ثلاثة مجلدات بعنوان: القانون، التشريع، والحرية (1973، 1976، و1979)، وعلى الرغم من وجود بعض التناقضات والثغرات في تحليلاته، فقد قدم هايك، على الأقل، حلاً جزئياً لمسألة تأمين حكم القانون، بحيث استجاب بوضوح لكيفية تقييد التشريعات القانونية على أساس دائم، وإيجاد مصادر قبول متبادل لما يقيد القانون.
في قلب نظرية هايك حول القانون، هو التفريق بين القانون والتشريع: القانون هو نظام عفوي انبثق إلى حد كبير من العادات والأعراف؛ أما التشريع فهو نظام مخطط، ابتدعته مؤسسات الإنسان مثل المؤسسات التشريعية. التمييز يبدو مغايراً لما هو متعارف عليه. نحن نتحدث كثيراً عن "قوانين" أصدرها الكونغرس أو مجالس التشريع في الولايات. قليل من التشريعات التي صدرت حديثاً تقارب توصيف هايك للقانون (لقد كان هايك يعترف بالحاجة إلى قوانين هيكلية لتنظيم الدولة، وإجراءات لتخفيض الكلفة التي تعطي أنظمة واضحة حول الإجراءات الرسمية الواجب اتخاذها لإبرام عقد ملزم). وبتقديم هذا التمييز، أرشدنا هايك نحو حل لمسألة تقييد السلطات التشريعية. وبسبب أنه ينبثق من الأعراف، وأنه نتيجة لعملية لامركزية لحل النزاعات، فإن قانون هايك، ليس معرضاً أو مكشوفاً أمام ضغوط أصحاب المصالح الخاصة، التي تؤثر سلباً على العمليات التشريعية (هايك لم يستبعد كلياً الهيئات التشريعية من المساهمة في الصياغة. فقد سمح بالتدخل لإنقاذ النظام القانوني من نظريات "الطرق المسدودة" [ص. 155]، على الرغم من أنه لم يُفصح كلياً عن كيفية التفريق بين حل الطريق المسدود وبين تشريعات مصالح الجماعات الخاصة).
فوفق نظام هايك القانوني "يتولى القاضي خدمة، أو يحاول المحافظة على، أو تحسين، نظام عامل لم يصممه أحد؛ نظام صمم نفسه بنفسه، دون معرفة، وفي كثير الأحيان ضد رغبات السلطة، والذي يمتد إلى ما هو أبعد من أي تنظيم أقامه أحد ما، والذي لا يستند إلى أفراد ينفذون إرادة أي كان، بل على توقعاتهم بأن تصبح معدلة توافقياً" (ص. 18-19). ومن الأمور الأساسية هنا "فإن المسألة بالنسبة للقاضي لا يمكن أن تكون ما إذا كان الفعل الذي تم عمله حصيفاً من وجهة نظر أعلى، أو أنه قدم خدمة نتيجة محددة تريدها السلطة، بل فقط ما إذا كان الفعل مدار النزاع متوافقا أم لا مع القوانين المرعية" (ص. 87). ونتيجة لحصر صياغة القانون ضمن إطار حل النزاعات، فإن الأنظمة القانونية في نظام هايك تُركز على أن "تجعل ممكناً، في كل لحظة، تأكيد الحدود بين الصلاحيات المحمية لكل منها" (ص. 157).
كانت وجهة نظر هايك هي أن الأنظمة القانونية يجب أن تستجيب لمبدأ العمومية؛ أي أن تكون عامة، وغير عشوائية، وأن تطبق بالتساوي على الجميع. الأنظمة القانونية التي انبثقت عن أحكام العرف والعادة، والتي تقبع جذورها في العادات، تستجيب لهذه المقاييس؛ معظم القوانين التي تصيغها الهيئات التشريعية لا تستجيب لها. مبدأ هايك في العمومية يحل مسألة القيود، دون الاستناد إلى نظرية السلحفاة. إننا نتفادى معاملة قوانين نورنبرغ النازية كأطر صحيحة، ذلك لأن قانوناً يُميّز بين أولئك الذين هم من دم ألماني أو قريب منه، وبين اليهود، يطعن في مبدأ التعميم بسبب استناده إلى التمييز. كما نتجنب مسألة التشريع القائم على أساس المصالح الخاصة بنفس المنطلق: المصالح الخاصة لا يمكن أن تكون "خاصة"، إذا لم تستطع تمييز نفسها عن الآخرين. ونتيجة لذلك، فإنهم لا يستطيعون مصادرة أملاكنا لصالحهم.
ما هي أنماط القوانين التي تستجيب لمقاييس هايك الخاصة بالعمومية؟ الأنظمة التي تسمح للأفراد بعمل وصيانة الاتفاقيات الخاصة، وتحل النزاعات، وتنظم تعاملاتها، هي مما يستجيب بنجاح لمقاييس هايك. أساسيات الملكية وقوانين الجزاء والعقود هي أيضاً تتفق مع مقاييسه. ولكن ما هي القوانين التي تفشل في تلبية تلك المقاييس؟ ليس كثيراً من الإدارة العصرية في ظل دولة الرفاه. ومن بين تلك التي ستفشل:
 قوانين البيئة التي تفرض معاملات مختلفة لمصالح مختلفة (مثل التمييز بين النقطة وغير النقطة في المصادر، بموجب قانون المياه النظيفة، والذي يعامل أولئك الذين ينبعث من حقولهم التلوث الناتج عن الأسمدة معاملة تختلف بشكل راديكالي عن نفس التلوث الذي يصدر عن مصنع).
 قوانين العمل والعمالة التي تعامل أصحاب العمل والعمال معاملات متفاوتة.
 القوانين التنظيمية التي تَحُدّ من حرية الفرد في اختيار نوع عمله.
وفي الحقيقة، جميع القوانين التي تأخذ حقوق الملكية من شخص ما، وتعطيها بشكل غير مباشر لشخص آخر (ما يسمى بالعطاء التنظيمي) لا تتلاقى مع مقاييس هايك (هايك أدخل بعض الغموض حول هذه النقطة في المجلد الثالث من مؤلفه: القانون، والتشريع والحرية، عندما أوضح أنه ربما يصح وجود استثناءات للمبادئ المذكورة في الكتاب بالنسبة للتوظيف، وحماية البيئة وعدد غير قليل من المناحي الأخرى. وهذه هي من المناسبات النادرة التي أشعر بارتياح عندما أقول بأنه كان على خطأ).

لماذا نحتاج إلى حكم القانون (وليس لأي شيء آخر)؟
ولكن هذا لن يتركنا عاجزين. وكما كتب ريتشارد إبستين ببلاغة، فإن الأنظمة البسيطة يمكن أن تكون في منتهى الفعالية في حل قضايا عالم معقد (أنظمة بسيطة لعالم معقد، 1997). إن مبادئ قوانين الجزاء، والملكية والعقود، هي كافية لتمكين قوى السوق من ابتداع حلول للمشاكل التي تؤرق المشرّعين الذين يحاولون كتابة أنظمة واسعة شاملة، في الوقت الذي يتفادون فيه قضايا مصالح الجماعات الخاصة الكامنة في أعمال الحكومة. وفي الحقيقة، فإن هذه المجموعة الصغيرة نسبياً من القوانين هي كل ما نحتاج إليه، لنفس الأسباب التي تجعلنا في غير حاجة لمساعدة الحكومة في أعمال السوق. نظرية هايك القانونية متجذرة في نظرياته الاقتصادية، وبالأخص، فهمه للدور الحساس الذي تلعبه المعلومات المتباعدة.
وكما بيَّن هايك في بحثه عام 1945 بعنوان: "إستخدام المعرفة في المجتمع،" والذي يحاول تحديد قضايا معينة في السوق، عن طريق تغيير الأسعار بقرارات حكومية، والتي تلحق الضرر بقدرة السوق على التوفيق بين الحاجات والموارد المتنوعة لملايين الأفراد، كذلك فإنه يشرح كيف أن محاولات تسوية قضايا قانونية، من خلال تشريعات تفيد مصالح الجماعات الخاصة، تلحق الضرر أيضاً بالقدرة على وضع القوانين. وفي اللحظة التي تتجاوز فيها المحاكم مجرد تطبيق توقعات الفرقاء بموجب القانون، في محاولة لتحقيق نتائج معينة في التوزيع، فإن قدرة النظام القانوني على التوفيق بين أعمال الأفراد، في تحقيق أهدافهم المتنوعة، سوف يُلحَق بها الضرر.
وعندما لا يعود الناس يعتمدون على تنفيذ اتفاقياتهم بإرادتهم الطوعية، فإن الناس يتجهون بأنظارهم إلى صاحب السلطة المطلقة لنيل الحماية، بحيث يتنافسون على الاعتراف بمركزهم كمستحق للاعتراف، ونيل المعاملة الخاصة التي يسبغها عليهم مثل ذلك الاعتراف. والنتيجة هي دورة لا نهاية لها، من أعمال اللوبي، تنتج عنها أعداد متزايدة من القوانين التي تعطي معاملة مميزة للزبائن من الأقوياء.
إننا نستطيع رؤية هذه الديناميكية في القوائم المتصاعدة لطبقات العاملين الذين تحميهم قوانين العمل. إن القائمة للأسس الممنوعة لقرارات التوظيف قد اتسعت في بعض التشريعات الأمريكية، بحيث أصبحت تشمل التوجهات الجنسية، والمظهر، والوزن والتدخين. بمثل هذه القائمة الواسعة من الأسس المانعة للتمييز، فإن أصحاب العمل لا يعودون قادرين على التوظيف والاستغناء عن العاملين. ولتفادي قضايا أمام المحاكم، فإن أصحاب العمل يجدون أنفسهم مضطرين للإنفاق في برامج باهظة الكلفة للتدليل على انصياعهم لتلك التشريعات ونشر الإعلانات لتجنب أي مظهر من مظاهر عدم اللياقة.
لماذا لا يهتم أي أحد آخر
هل الليبراليون الكلاسيكيون هم وحدهم المهتمون بحكم القانون؟ هذا يبدو أكثر فأكثر بأنه الواقع. إن إدارة محافظة بالاسم في واشنطن لهي أكثر اهتماماً بالنتائج منها بالمبادئ، بحيث تتخلى عن الفيدرالية كلما ترى فرصة مناسبة لفرض نتيجة تريدها على مستوى الوطن. بعض التشريعات التي تخدم الفئات الخاصة هي من الأمور المتوقعة من أي سياسي، كثمن للعمل السياسي (التعرفة على الفولاذ عام 2000، هي مثال واضح على ذلك)، بيد أن التخلي الواسع عن المبدأ في حقول متباعدة واسعة كتشريعات البيئة وإصلاح قوانين الجزاء، تبين افتقاد الالتزام بحكم القانون. وفي الوقت ذاته، فإن المعارضة الليبرالية إسما تبلور تحديات للمرشحين للمناصب القضائية، ليس في ضوء كفاءاتهم، بل بناءً على ما إذا كانوا في صميم التوجه السياسي العام—أو بكلمات أخرى، ما إذا كان المرشحون سوف يتخذون المواقف السياسية "الصحيحة" عندما يعتلون كرسي القضاء. وقد علق أنتونين سكاليا، عضو المحكمة العليا مؤخراً قائلاً، إن النقاشات الحادة التي تجري من خلال الموافقة على تعيين القضاة تدل على أن المحاكم لم تعد تتمحور حول تغيير القوانين الموضوعة، وإنما حول اتخاذ القرارات السياسية:
"عندما نختار محامياً، عندما تختار أناساً لقراءة نص وإعطائه المعنى الصحيح الذي قُصد عند إقراره، نعم، فإن أهم شيء يجب عمله هو استدعاء محام جيد. ولكن من الناحية الأخرى، إذا كنا نختار أناساً على استعداد للتخلي عن ضمائرهم، والخوض في صياغة دستور جديد، يشتمل على مجموعة كبيرة من القيم الجديدة لحكم مجتمعنا، عندها، لا يتوجب النظر في اختيار محام جيد. يجب أن ننظر إلى أناس يتفقون معنا—الأغلبية... ولهذا السبب فإنك تسمع في أحاديث الناس حول هذا الموضوع كلمة معتدل، وأنهم يرغبون في تعيين قاضٍ معتدل. ما هو التفسير المعتدل للنص؟ منتصف الطريق بين ما يعني النص فعلاً، وما تود أنت أن يكون التفسير عليه؟ لا يوجد هنالك ما يُسمى بالتفسير المعتدل للنص. هل تطلب من محام أن يصيغ لك عقداً معتدلاً؟ الطريقة الوحيدة التي يكون فيها لتلك الكلمة أي معنى هي إذا كنت تفتش عن شخص لكتابة القانون، أو كتابة دستور، بدلاً من تفسيره."
لقد استحوذت السياسية على نظام القانون الأمريكي، وهي نتيجة لا مفر منها، بسبب النشاط القضائي الذي انبثق عن فترة الـ"نيو ديل"، ورضوخ المحاكم إلى السلطات التشريعية والتنفيذية. ونتيجة لذلك، فإن جماعات المصالح من لوبيات أصحاب الأعمال، إلى جماعات "المصلحة العامة،" أصبحوا ينظرون إلى المحاكم كمجرد ميدان آخر لنيل معاملة خاصة. كثيرون هم الذين يستفيدون من هذا الوضع: المحامون، واللوبيات، والمشرعون، وأصحاب المصالح الخاصة أنفسهم. إنهم لا يرون مصلحة في التخلي عن هذا الميدان المربح، عن طريق إعادة تطبيق حكم القانون.
إن إعادة حكم القانون سوف يكون طريقاً شاقاً وطويلاً، بيد أن بلورة الفوائد سوف تساعد في خلق الأجواء التي يمكن من خلالها، جعل ذلك ممكناً. الآراء تؤدي إلى نتائج—وحول هذا الموضوع، فإن الليبراليين الكلاسيكيين يملكون الآراء الأفضل.
مجلة فريمان، تشرين الثاني 2005.
المصدر: www.misbahalhurriyya.org/policies/show/284.html