عالم بلا أقطاب أخطر على العرب من عالم القطب الواحد
الأربعاء, 29-أكتوبر-2008
وحيد عبد المجيد -

من أزمة القوقاز إلى الأزمة المالية، يجد العرب الحالمون بنظام عالمي متعدد الأقطاب ما يغذي حلمهم. لا يعرفون أنه حلم إلا عندما يفيقون فيصدمهم الواقع. غير أن الواقع العالمي الراهن يحتاج إلى يقظة شديدة، وليس إلى نوم. فإذا كان تعدد الأقطاب مستبعداً، فالأحادية القطبية تبدو اليوم في تراجع مستمر لكنه لا يقترن بتقدم قوى دولية أخرى في مسار يقود إلى تعددية النظام العالمي. وهذا وضع فريد في تاريخ هذا النظام. فما يحدث منذ فشل الولايات المتحدة في العراق، وإخفاق مشروعها لشرق أوسط كبير أو جديد، وحتى الأزمة المالية الراهنة، تراجع في نفوذها العالمي، أي قدرتها على التأثير، أكثر منه في قوتها التي ما زالت تحتفظ بامكانات تجعلها غير مسبوقة تاريخياً.
وفي المقابل، يزداد تأثير دول، وجماعات في داخلها، وأخرى عابرة للحدود، من دون أن تمتلك مقومات القوة الحقيقية المعرفية منها والاقتصادية والعسكرية. فطابع النظام العالمي يحدده ميزان القوى حين تكون القوة منتجة لنفوذ مساو لها. ولكن إذا لم يتساويا، يصبح هذا النظام مرتبطاً بمساحات النفوذ أكثر من قياسات القوة. وهذا جديد عالمنا راهناً، والذي يتيح لأطراف أضعف قوةً ممارسة تأثير يفوق قوتهم، فيما تبدو القوة التي لا حدود لها في ذاتها محدودة من حيث النفوذ الذي تنتجه.
وهذا الوضع الفريد لا يستعصي على الفهم. فالعالم الآن ليس مثله قبل عقود. والتغيير الذي أحدثته ثورات العلم في هذه العقود يبدو أكبر من كل ما ترتب على سابقاتها عبر التاريخ. ولذلك تحتفظ أميركا حتى الآن بأهم مصادر قوتها بالرغم من تراجع نفوذها العالمي، مادام إنتاج المعرفة فيها يفوق مثله في القوى الكبرى الأخرى مجتمعة.
وهذا هو المصدر الرئيس للقوة في عصرنا. كما أن اقتصادها هو الأكبر في العالم في ظل ناتج قومي إجمالي يصل إلى 14 تريليون دولار. ولديها أكبر قوة عسكرية استناداً على إنتاجها المعرفي، وليس فقط على حجم إنفاقها «الدفاعي» الذي وصل إلى خمسمئة بليون دولار سنوياً.
غير أن وجود الكثير من الأسلحة الذكية ضمن هذه القوة العسكرية لا يغني عن سياسة ذكية افتقدتها الولايات المتحدة في السنوات السبع الأخيرة، ما أسهم في تراجع نفوذها. فالقوة العسكرية الهائلة بكل ما يميزها من ذكاء لا تفيد كثيراً في «الحروب غير المتماثلة»، التي تواجه فيها هذه القوة «ميليشيات» صغيرة في مسارح حروب غير تقليدية ومقاتلين مستعدين للموت.
كما أن احتفاظ اميركا بتفوقها الاقتصادي العام لا يخفي تراجعا في نسبة ناتجها القومي إلى الإجمالي العالمي نتيجة النمو المتزايد لاقتصادات آسيوية وغيرها، وتقلصاً في حصتها من التجارة العالمية. وهذا فضلاً عن الأثر السلبي للسياسات غير الذكية التي استنزفت الموارد الأميركية خلال السنوات الأخيرة.
ويغري هذا الاستنزاف الكثير من الحالمين بعالم متعدد الأقطاب باستعادة نظرية المؤرخ البريطاني بول كينيدي في انهيار الولايات المتحدة، في كتابه المشهور عن صعود وسقوط القوى الكبرى. فهذه نظرية تقيس على تاريخ لم يعد فيه الكثير مما يصلح للقياس عليه. ولم يعد ممكناً استشراف مستقبل عالم القرن الحادي والعشرين بناء على تاريخ الإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية، رغم أن الأخيرة لم تسقط نهائيا إلا منتصف القرن الماضي. لكن حين غربت شمسها، التي أشرقت لقرون على ما يقرب من ثلث سكان العالم، كانت دولتان كبيرتان تصعدان بقوة إلى القمة، وتتجاوزان بريطانيا وغيرها بمسافات تتزايد. ولا توجد الآن دولة مرشحة لمثل هذا الصعود في عصر لم يعد استنزاف الموارد في الخارج، أو ما أسماه كينيدي التمدد المفرط، كافيا لانهيار دولة عظمى تمتلك قدرة على تعويض الاستنزاف، وفي غياب دول قادرة على أن تّبزَّها في مصادر القوة الحقيقة.
لا يعني ذلك أن العالم ما زال يعيش في ظل الأحادية القطبية، بخلاف ما يراه الكاتب الأميركي ذو الأصل الهندي فريد زكريا في كتابه الجديد عن عالم ما بعد أميركا.
فبالرغم مما يوحي به عنوان الكتاب، فهو يتوقع استمرار النظام العالمي الأحادي مع اختلاف نسبي في توزيع القوة في هيكله. ولئن بالغ كينيدي كثيراً في تقديره لعدم قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بتفوقها، ذهب زكريا بعيداً في حساب قدرتها على تكريس هذا التفوق والاحتفاظ بالنظام الأحادي. وربما تكون الفكرة الأولية التي طرحها الخبير الاستراتيجي الأميركي ريتشارد هاس (رئيس مجلس الشؤون الخارجية) عن عالم بلا أقطاب، أقرب منهما إلى واقع المشهد العالمي الآن. فهذه الفكرة، التي لم تتبلور بشكل كاف بعد، ربما تكون الأكثر انسجاماً مع فرادة اللحظة الراهنة، الأمر الذي يفرض يقظة عربية تجاهها سعيا إلى الإحاطة بتعقيداتها.
فالسطحية الغالبة في الأوساط السياسية والفكرية العربية قد تحول دون إدراك الفرق الجوهري بين عالم بلا أقطاب ونظام التعددية القطبية. فالقاسم المشترك بينهما عدم قدرة دولة واحدة على فرض نفوذها أو الهيمنة على العالم. لكن هذا المشترك تقل أهميته كثيراً لأن العلاقات الدولية في عالم اللاقطبية قد تأخذ منحى غير نظامي. ففي ظل تعدد الأقطاب، يفترض أن تكون هناك قواعد للعب حتى إذا لم يلتزم بها اللاعبون الرئيسيون، إذ تُعقد تحالفات فابلة للتغير بين بعضهم، وربما تعاونوا أيضاً. ولا يقل أهميةً وجود معايير لتوقع مسار العلاقات بينهم، سواء تعاوناً أو صراعاً. فالنظام المتعدد الأقطاب، في الأغلب، نظام توازن قوى. لذلك ترتبط حروبه، غالباً أيضا، بحدوث تغير أو اضطراب في توازنه.
وليس ثمة ما يدفع للاعتقاد بتوقع مسار العلاقات الدولية، على هذا النحو، في عالم لاقطبي، وخصوصاً حين يشتد الاضطراب كما الحال الآن. وفي وضع كهذا تفوق الأخطار ما يفوق كل مساوىء النظام الأحادي. وربما كان الشعور بها ما دفع السكرتير للأمم المتحدة بان كي مون لإطلاق دعوته إلى إيجاد قيادة عالمية.
ويبقى أن ندرك نحن، في العالم العربي، أخطار عالم اللاقطبية ونعرف أنها تشتد على الضعفاء. وأكثر ما يضعفنا الجمود الفكري والكسل العقلي اللذان يجعلان الحلم بعالم متعدد أسمى أمانينا، وقد يدفعان إلى خلط كارثي بين هذا العالم البعيد عن الواقع الراهن والعالم اللاقطبي الذي يبدو أنه يتشكل في ظل اضطراب عارم.


<h1>عالم بلا أقطاب أخطر على العرب من عالم القطب الواحد</h1>
<h4>وحيد عبد المجيد الحياة - 26/10/08//</h4>
<p>
<p>من أزمة القوقاز إلى الأزمة المالية، يجد العرب الحالمون بنظام عالمي متعدد الأقطاب ما يغذي حلمهم. لا يعرفون أنه حلم إلا عندما يفيقون فيصدمهم الواقع. غير أن الواقع العالمي الراهن يحتاج إلى يقظة شديدة، وليس إلى نوم. فإذا كان تعدد الأقطاب مستبعداً، فالأحادية القطبية تبدو اليوم في تراجع مستمر لكنه لا يقترن بتقدم قوى دولية أخرى في مسار يقود إلى تعددية النظام العالمي. وهذا وضع فريد في تاريخ هذا النظام. فما يحدث منذ فشل الولايات المتحدة في العراق، وإخفاق مشروعها لشرق أوسط كبير أو جديد، وحتى الأزمة المالية الراهنة، تراجع في نفوذها العالمي، أي قدرتها على التأثير، أكثر منه في قوتها التي ما زالت تحتفظ بامكانات تجعلها غير مسبوقة تاريخياً.<br>وفي المقابل، يزداد تأثير دول، وجماعات في داخلها، وأخرى عابرة للحدود، من دون أن تمتلك مقومات القوة الحقيقية المعرفية منها والاقتصادية والعسكرية. فطابع النظام العالمي يحدده ميزان القوى حين تكون القوة منتجة لنفوذ مساو لها. ولكن إذا لم يتساويا، يصبح هذا النظام مرتبطاً بمساحات النفوذ أكثر من قياسات القوة. وهذا جديد عالمنا راهناً، والذي يتيح لأطراف أضعف قوةً ممارسة تأثير يفوق قوتهم، فيما تبدو القوة التي لا حدود لها في ذاتها محدودة من حيث النفوذ الذي تنتجه.<br>وهذا الوضع الفريد لا يستعصي على الفهم. فالعالم الآن ليس مثله قبل عقود. والتغيير الذي أحدثته ثورات العلم في هذه العقود يبدو أكبر من كل ما ترتب على سابقاتها عبر التاريخ. ولذلك تحتفظ أميركا حتى الآن بأهم مصادر قوتها بالرغم من تراجع نفوذها العالمي، مادام إنتاج المعرفة فيها يفوق مثله في القوى الكبرى الأخرى مجتمعة.<br>وهذا هو المصدر الرئيس للقوة في عصرنا. كما أن اقتصادها هو الأكبر في العالم في ظل ناتج قومي إجمالي يصل إلى 14 تريليون دولار. ولديها أكبر قوة عسكرية استناداً على إنتاجها المعرفي، وليس فقط على حجم إنفاقها «الدفاعي» الذي وصل إلى خمسمئة بليون دولار سنوياً.<br>غير أن وجود الكثير من الأسلحة الذكية ضمن هذه القوة العسكرية لا يغني عن سياسة ذكية افتقدتها الولايات المتحدة في السنوات السبع الأخيرة، ما أسهم في تراجع نفوذها. فالقوة العسكرية الهائلة بكل ما يميزها من ذكاء لا تفيد كثيراً في «الحروب غير المتماثلة»، التي تواجه فيها هذه القوة «ميليشيات» صغيرة في مسارح حروب غير تقليدية ومقاتلين مستعدين للموت.<br>كما أن احتفاظ اميركا بتفوقها الاقتصادي العام لا يخفي تراجعا في نسبة ناتجها القومي إلى الإجمالي العالمي نتيجة النمو المتزايد لاقتصادات آسيوية وغيرها، وتقلصاً في حصتها من التجارة العالمية. وهذا فضلاً عن الأثر السلبي للسياسات غير الذكية التي استنزفت الموارد الأميركية خلال السنوات الأخيرة.<br>ويغري هذا الاستنزاف الكثير من الحالمين بعالم متعدد الأقطاب باستعادة نظرية المؤرخ البريطاني بول كينيدي في انهيار الولايات المتحدة، في كتابه المشهور عن صعود وسقوط القوى الكبرى. فهذه نظرية تقيس على تاريخ لم يعد فيه الكثير مما يصلح للقياس عليه. ولم يعد ممكناً استشراف مستقبل عالم القرن الحادي والعشرين بناء على تاريخ الإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية، رغم أن الأخيرة لم تسقط نهائيا إلا منتصف القرن الماضي. لكن حين غربت شمسها، التي أشرقت لقرون على ما يقرب من ثلث سكان العالم، كانت دولتان كبيرتان تصعدان بقوة إلى القمة، وتتجاوزان بريطانيا وغيرها بمسافات تتزايد. ولا توجد الآن دولة مرشحة لمثل هذا الصعود في عصر لم يعد استنزاف الموارد في الخارج، أو ما أسماه كينيدي التمدد المفرط، كافيا لانهيار دولة عظمى تمتلك قدرة على تعويض الاستنزاف، وفي غياب دول قادرة على أن تّبزَّها في مصادر القوة الحقيقة.<br>لا يعني ذلك أن العالم ما زال يعيش في ظل الأحادية القطبية، بخلاف ما يراه الكاتب الأميركي ذو الأصل الهندي فريد زكريا في كتابه الجديد عن عالم ما بعد أميركا.<br>فبالرغم مما يوحي به عنوان الكتاب، فهو يتوقع استمرار النظام العالمي الأحادي مع اختلاف نسبي في توزيع القوة في هيكله. ولئن بالغ كينيدي كثيراً في تقديره لعدم قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بتفوقها، ذهب زكريا بعيداً في حساب قدرتها على تكريس هذا التفوق والاحتفاظ بالنظام الأحادي. وربما تكون الفكرة الأولية التي طرحها الخبير الاستراتيجي الأميركي ريتشارد هاس (رئيس مجلس الشؤون الخارجية) عن عالم بلا أقطاب، أقرب منهما إلى واقع المشهد العالمي الآن. فهذه الفكرة، التي لم تتبلور بشكل كاف بعد، ربما تكون الأكثر انسجاماً مع فرادة اللحظة الراهنة، الأمر الذي يفرض يقظة عربية تجاهها سعيا إلى الإحاطة بتعقيداتها.<br>فالسطحية الغالبة في الأوساط السياسية والفكرية العربية قد تحول دون إدراك الفرق الجوهري بين عالم بلا أقطاب ونظام التعددية القطبية. فالقاسم المشترك بينهما عدم قدرة دولة واحدة على فرض نفوذها أو الهيمنة على العالم. لكن هذا المشترك تقل أهميته كثيراً لأن العلاقات الدولية في عالم اللاقطبية قد تأخذ منحى غير نظامي. ففي ظل تعدد الأقطاب، يفترض أن تكون هناك قواعد للعب حتى إذا لم يلتزم بها اللاعبون الرئيسيون، إذ تُعقد تحالفات فابلة للتغير بين بعضهم، وربما تعاونوا أيضاً. ولا يقل أهميةً وجود معايير لتوقع مسار العلاقات بينهم، سواء تعاوناً أو صراعاً. فالنظام المتعدد الأقطاب، في الأغلب، نظام توازن قوى. لذلك ترتبط حروبه، غالباً أيضا، بحدوث تغير أو اضطراب في توازنه.<br>وليس ثمة ما يدفع للاعتقاد بتوقع مسار العلاقات الدولية، على هذا النحو، في عالم لاقطبي، وخصوصاً حين يشتد الاضطراب كما الحال الآن. وفي وضع كهذا تفوق الأخطار ما يفوق كل مساوىء النظام الأحادي. وربما كان الشعور بها ما دفع السكرتير للأمم المتحدة بان كي مون لإطلاق دعوته إلى إيجاد قيادة عالمية.<br>ويبقى أن ندرك نحن، في العالم العربي، أخطار عالم اللاقطبية ونعرف أنها تشتد على الضعفاء. وأكثر ما يضعفنا الجمود الفكري والكسل العقلي اللذان يجعلان الحلم بعالم متعدد أسمى أمانينا، وقد يدفعان إلى خلط كارثي بين هذا العالم البعيد عن الواقع الراهن والعالم اللاقطبي الذي يبدو أنه يتشكل في ظل اضطراب عارم.</p>
</p>