اسماعيل الأكوع: رجل التراث اليمني والخصوصيات اليمنية
الأربعاء, 29-أكتوبر-2008
رضوان السيد -

تعرفت الى الشيخ اسماعيل الأكوع عام 1980 في المؤتمر الذي أقيم وقتها عن الهمداني، العالِم اليمني الكبير في القرن الرابع الهجري، وصاحب «الإكليل»، وصفة جزيرة العرب، وكتاب الجوهرَين (الذهب والفضة). قدّمني إليه يومَها أستاذنا الراحل الدكتور إحسان عباس. قال لي عباس يومها: هذا الرجل هو أعلَمُ الأحياء بالمخطوطات اليمنية، الفقهية والتاريخية. وكان الأكوع في ذلك الحين مشرفاً على مخطوطات الجامع الكبير في صنعاء ومكتبة الأوقاف المجاورة للجامع. ثم تولّى إدارة المخطوطات والمكتبات في وزارة الثقافة، وتابع اقتناء المخطوطات من المجموعات الخاصة، بحيث اجتمعت في الإدارة الجديدة ألوف المخطوطات أيضاً. وبقيت في اليمن حتى اليوم عشرات ألوف المخطوطات في المجموعات الخاصة، إضافة الى الخمسين ألفاً من المخطوطات المعروفة والمفهرسة، والتي بدأت العناية بها منذ الستينات من القرن الماضي.
وخلال ربع القرن التالي لمؤتمر الهمداني، ما انقطعت علاقتي، ولا علاقة مئات دارسي المخطوطات من العرب والمستشرقين بالشيخ الأكوع. وهو شخصية بالغة العمق والطرافة في الوقت نفسه. وقد ظلّ همّه - الى جانب صون المخطوطات وتصعيب الوصول اليها على الأشخاص الذين لا يعرفهم أو لا يأمنُهم - التأليف في «جغرافية العلم والعلماء» في اليمن إذا صح التعبير، سائراً في ذلك على نهج أخيه الأكبر محمد علي الأكوع. وما كان هناك شكّ في معرفته الواسعة بالتراث اليمني التاريخي والفقهي (والكلامي)؛ لكنه كان صاحب وجهة نظر خاصة في تاريخ اليمن، كما في تراثها. فاليمنيون كما هو معروف زيدية وشافعية. لكن في حين يسارع الشافعي المذهب من العلماء الى مصارحتك بذلك (طبعاً قبل دخول السلفيين والإخوان الى الجو العلمي والشعبي!)، يواجهك الزيديّ في الغالب بإنكار التمذهب، والتحرر من التقليد أياً كان، وضرورة الاجتهاد في كل صغيرة وكبيرة. وهذه أجواء نشرها الفقهاء المجتهدون في اليمن من أمثال الصنعاني والمقبلي والشوكاني (وهم جميعاً من أصول مذهبية زيدية) منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر. وازداد الميل لإنكار التمذهب بعد قيام الثورة اليمنية عام 1962، لارتباط الزيدية بالإمامة في أذهان الكثيرين. وفائدة هذا الاستطراد أن الشيخ الأكوع رحمه الله، كان من أولئك الذي دأبوا على إعادة كتابة تاريخ العلم والعلماء في اليمن على أسس غير مذهبية، وليس منذ القرن الثامن عشر وحسب؛ بل في سائر العصور! وقد تأخرت في اكتشاف ذلك، لأنني ما قرأت كتبه ورسائله الصغيرة الا في التسعينات من القرن الماضي؛ ولذلك كنت ألقى صعوبة في إقناعه بالسماح لي بطلب الاطلاع على مخطوط، أو تصوير مخطوط! وكنت أحسب ذلك عائداً الى عدم معرفته الجيدة بي، ولذا فقد كنت أستعين كل مرة بكتاب توصية من إحسان عباس، من دون فائدة. ثم اكتشفت أنه يقرأ كل ما أكتبه عن الفقه والكلام في اليمن، وهي غالباً دراسات في التاريخ الفكري للزيدية. وسَهُل عليّ الأمر في النهاية، عندما تبيّن للشيخ الأكوع أنه ما عادت هناك فائدة في حجب هذا المخطوط أو ذاك، ما دام الجميع صاروا يعرفون تلك الكتب المخطوطة من المجموعات الخاصة، وحتى من مكتبة الأوقاف، وسواء أكانت من آثار التقليد الزيدي أم الابتداع المعتزلي!
أما ساعة الرضا التي حصلت عليها من جانب الشيخ، والتي ما انقضت حتى شهور قبل وفاته، فكانت عندما اطلعت على كتابه في «هجر العلم ومواطن العلماء في اليمن» ذي المجلدات الستة، عام 1996. فقد سحرتني دقة الكتاب وشموليته، وسحرني حسّه النقدي خارج المذهبيات. وقلت له ذلك عبر الهاتف، ورأيته بعد ذلك في دمشق، يشهد لي بالعلم والموضوعية أمام إحسان عباس! والهجرة، مفرد يمني أصيل، يعني القرية أو المستَقَر، أي عكس ما يعنيه بالعربية الشمالية، أو أنه تطور ليكون من ألفاظ الأضداد. وقد أطلق في الأزمنة الحديثة في بعض بلدان الخليج على المواطن التي أنشئت لاستقرار البدو أو توطينهم. لكن يبدو (وبحسب استنتاج الأستاذ مادلونغ، المتخصص بالدراسات الزيدية) أنه ومنذ القرن الخامس الهجري؛ فإن هذا النوع من المستقرات ظهر في نواح متعددة في اليمن وللعلماء المتفرغين وليس للبدو.
ترك الشيخ الأكوع الوظيفة العامة قبل عقد ونصف عقد. وتفرّغ لكتابة الدراسات القصيرة في الغالب في مسائل خاصة وغامضة في تاريخ العلم الديني في اليمن. وقد زرته مرة أواخر التسعينات في منزله، وذكرت له مازحاً وفاة أحد خصومه من العلماء، فما رأيته هشّ ولا بشّ، بل قال جاداً: هذا الرجل أصغر مني بعشر سنوات، وقد كان خصماً شريفاً، وقد تصاولْنا على مدى أربعين عاماً فما زلّ وما زللْت في أمر شخصي، وماذا تريد من خصم بل من صديق أكثر من ذلك؟! فالأمر ليس كما قلت بل كما قال عمرو بن معدي كرب:
ذهب الذين أحبُهُم / وبقيت مثل السيفِ فردا
رحم الله الشيخ الأكوع، رجل التاريخ اليمني، والخصوصيات اليمنية.