السودان.. من «التقسيم» إلى «التفتيت»!
الاثنين, 26-مارس-2012
مصطفى عياط -

ليكن انفصال جنوب السودان هدفًا فقط لبعض الجنوبيين والقوى الداعمة لهم في الغرب، بل إن سنوات ما قبل الانفصال شهدت نموًا متزايدًا لتيار شمالي يؤيد ذلك ويروج له، وكانت حجته أن شمال السودان عانى طويلًا من مشاكل وحروب الجنوب، وأنه لا مجال لنهضة واستقرار الشمال إلا بالانفصال عن الجنوب، الغارق في أوحال الخلافات العرقية والقبلية، في حين يمتاز الشمال بوحدة دينية وعرقية، كما أن تضاريسه أقل وعورة من الجنوب، فضلًا عن أن البنية التحتية في الشمال لا بأس بها، وحتى فيما يتعلق بعائدات البترول الضخمة، التي سيفقدها الشمال لوجود معظم آبارها في الجنوب، فإن جزءًا كبيرًا من تلك العائدات كان يوجه لتغطية نفقات الحرب مع الحركة الشعبية، وبالتالي فإن فقدانها لن يؤثر كثيرًا، خاصة أن الشمال غني هو الآخر بثروات متعددة، وإذا ما توقفت الحرب ورفعت العقوبات الغربية، فإن بإمكان الخرطوم أن تنهض سريعًا.

ومع أن حجج هذا التيار تبدو منطقية وبراجماتية، إلا أن أنصاره تجاهلوا أن المخطط التي يستهدف السودان لا يتوقف عند تقسيمه فقط إلى دولتين، وإنما يمتد لإقامة عدة دويلات في الشرق والغرب والشمال، ولذا فإنه بمجرد توقيع اتفاقية "نيفاشا" وتوقف القتال في الجنوب، سعت القوى المتربصة بالسودان لإشعال نيران الفتنة في إقليم دارفور، وتحولت خلافات تقليدية يعرفها الإقليم منذ عشرات السنين بسبب الرعي، إلى فتنة طاحنة، جرى إلباسها ثوبًا "عرقيًا مقيتًا"، وكان الهدف من ذلك واضحًا، وهو منع الحكومة السودانية من اتخاذ أي خطوات إيجابية لتحفيز الجنوبيين على التصويت لصالح الوحدة خلال مهلة الست سنوات، التي نصت عليها الاتفاقية، قبل الاحتكام للاستفتاء على حق تقرير المصير.

مخطط خبيث

وبالفعل تحقق هذا الهدف، حيث تعرض السودان لحرب دعائية وسياسية واقتصادية شرسة، وأصبحت "دارفور" هي البند الأول على أجندة المنظمات الإنسانية والحقوقية في العالم، وصدرت مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير وعدد من أعضاء حكومته.

ثم عندما تحقق هدف انفصال الجنوب، فجأة سقطت دارفور من تلك الأجندات نهائيًا، ولم يعد هناك من يتكلم عنها مطلقًا، وحتى حركات التمرد التي استخدمها الغرب ودعمها من أجل تلك المهمة، سقطت هي الأخرى من أجندته، مما اضطرها للدخول في مفاوضات مع الخرطوم، بعدما كانت ترفض ذلك في السابق، ثم جاء سقوط حكم العقيد الليبي معمر القذافي ليفقد تلك الحركات الداعم والممول الأكبر لها، وجاءت الضربة القاصمة لهذه الحركات من خلال اتفاق السلام الذي وقعته الخرطوم مع الرئيس التشادي إدريس ديبي، وما أعقبه من مصاهرة بين ديبي وزعيم أكبر القبائل العربية في دارفور، وبذلك فقد المتمردون آخر داعم وملاذ لهم، حيث كانت حكومة ديبي تدعمهم وتسلحهم نكاية في الخرطوم، التي كانت هي الأخرى تدعم المتمردين المناوئين لحكومة تشاد.

ولم يكن إغلاق ملف دارفور هو نهاية المطاف، أو آخر ما في جعبة أعداء السودان، حيث ضغط هؤلاء على حكومة الخرطوم بكل الوسائل والإغراءات الممكنة، لإجبارها على إجراء الاستفتاء في موعده المحدد، رغم عدم حسم الكثير من الملفات العالقة بين الشمال والجنوب، سواء ما يتعلق بمصير إقليم أبيي المتنازع عليه أو مصير وممتلكات الجنوبيين المقيمين في الشمال، وكذلك الشماليون المقيمون في الجنوب، إضافة لملف ترسيم الحدود، وترتيبات تصدير نفط الجنوب عبر أنابيب وموانئ الشمال، وكان الهدف من الإصرار على إجراء الاستفتاء، الذي كانت نتيجته محسومة سلفًا لصالح خيار الانفصال، قبل حل تلك القضايا العالقة، هو إيجاد مدخل لاستمرار حالة الاضطراب والصراع، بما يتيح لتلك القوى مواصلة التدخل والضغط على الخرطوم، كما أن موقف الحركة الشعبية سوف يكون أقوى بعد إجراء الاستفتاء، حيث ستكون في موضع "تفاوض دولة مع دولة" وليس "دولة مع كيان مفترض".

الحصاد صفر

وهكذا جرت الأمور، حتى وجدت الخرطوم نفسها ما زالت عند "نقطة الصفر"، رغم أنها التزمت حرفيًا بتطبيق اتفاقية نيفاشا، وصولًا إلى منح الجنوب حق الانفصال، إلا أن الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة، تنصل من كل العهود والالتزامات التي قطعها على نفسه، فإدارة أوباما قررت تجديد العقوبات المفروضة على السودان، وقررت استثناء الدولة الوليدة في الجنوب منها، رغم أنها وعدت مرارًا برفعها بمجرد إتمام الاستفتاء، كما أن وعود المساعدات الاقتصادية وإسقاط الديون ذهبت هي الأخرى أدراج الرياح، فضلًا عن استمرار الغرب في اللعب بورقة محاكمة الرئيس البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية، بهدف انتزاع المزيد من التنازلات من الخرطوم، خاصة فيما يتعلق بالنزاع على منطقة أبيي الغنية بالنفط.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، حيث يبدو أن الهدوء الذي يسود إقليم دارفور في الأشهر الأخيرة لم يعجب البعض، ولذا حاول فتح جبهة جديدة، هذه المرة في ولاية جنوب كردفان والنيل الأزرق، وهي منطقة تقع ضمن حدود الشمال، لكنها كانت خاضعة لسيطرة الحركة الشعبية أثناء سنوات التمرد، وقد نجح قطاع الشمال بالحركة في الفوز بالانتخابات المحلية التي جرت في الولاية، ومع أن المنطق والقانون كانا يوجبان أن تحل الحركة الشعبية قطاعها الشمالي بمجرد قيام دولة جنوب السودان، إلا أن ذلك لم يحدث، وباتت الحركة الشعبية، الحزب الحاكم في دولة جنوب السودان، تمتلك فرعًا في دولة أخرى، وهو مشهد ليس له سابقة في العالم، ويشكل اختراقًا واضحًا لسيادة واستقلال السودان، خاصة أن كوادر الحركة في الولاية أعلنوا تمردًا مسلحًا ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، بدعم وتسليح من جانب حكومة الجنوب.

عض الأصابع

وكمحصلة إجمالية فإن السودان فقد ما يقرب من ثلث مساحته بانفصال الجنوب، وفقد ثلثي عائداته من النفط، حيث إن معظم الحقول تقع في الجنوب، كما ورث تركة ديون ثقيلة تتجاوز 37 مليار دولار، وما زال محاصرًا بالعقوبات الأمريكية، ورئيسه مطلوبًا من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وهناك جبهة تمرد جديدة تشتعل نارها في جنوب كردفان، كل هذا وسط إحجام دولي وعربي عن تقديم أي مساعدة اقتصادية، أو حتى سياسية، بل إن الولايات المتحدة أقدمت قبل أيام على إفشال مؤتمر دولي للاستثمار، كي يفترض عقده في الخرطوم في إطار مبادرة تركية نرويجية لدعم الاقتصاد السوداني، حيث اشترطت واشنطن وضع التمرد في جنوب كردفان على أجندة المؤتمر، وهو ما رفضته الخرطوم، وردت إدارة أوباما بتحريض الدول والمؤسسات المشاركة على الاعتذار، مما أدى في نهاية المطاف لتأجيل المؤتمر لأجل غير مسمى.

وفي خضم كل ذلك حاول السودان أن يلعب بالورقة الوحيدة المتاحة لديه، وهي نفط الجنوب الذي يجري نقله عبر الشمال، حيث اعتبرت الخرطوم أن من حقها فرض رسوم باهظة على عبور ونقل ذلك النفط، باعتبار أنها من اكتشفته وأقامت البنية التحتية لاستخراجه، ثم جاءت دولة الجنوب لتجني العوائد دون أي مشقة، وفي حين تريد الخرطوم اقتطاع 36 دولارًا من ثمن كل برميل نفط يمر عبر أراضيها، ترى جوبا أن ذلك يعد "سرقة"، مشيرة إلى أن الرسوم المماثلة في العالم تتراوح ما بين دولار وثلاثة دولارات لكل برميل، وفي نهاية المطاف قرر الجنوب التوقف تمامًا عن ضخ النفط عبر الشمال، لحين التوصل إلى تسوية مقبولة، مع أن ذلك يعد بمثابة "انتحار اقتصادي" للجنوب، الذي تشكل عائدات النفط 98 بالمئة من دخله، كما أن تلك الخطوة تزيد من متاعب الخرطوم الاقتصادية، المتفاقمة أصلًا.

لكن الطرفان -على ما يبدو- دخلا في معركة "عض الأصابع"، وكل منهما يراهن على أن الآخر سيصرخ أولًا، كما أن الخرطوم تراهن كذلك على أن الغرب لن يترك حليفته الوليدة كي تنهار، وأنه سيتدخل لإيجاد حل، وهنا يمكن وضع كل الملفات على الطاولة، بما فيها "أبيي" والتمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق، إضافة لأكثر من 700 ألف جنوبي ما زالوا يقيمون في الجنوب، وتؤكد الخرطوم أن عليهم المغادرة إلى الجنوب قبل منتصف أبريل المقبل، وإلا سيعاملون معاملة الأجانب، وهي ورقة أخرى تعتقد الخرطوم أنها قد تزيد من متاعب الجنوب، وقد تردعه عن افتعال المزيد من المشاكل للشمال.


نقلاً عن صحيفة العرب إونلاين