التكامل الاقتصادى العربي: بين "القطيعة" واستثمار التراخي
الثلاثاء, 21-أكتوبر-2008
د. عادل سمارة - بأسرع من المعتقد والمألوف انتقل مفكرو التنمية وحتى بعض الساسة فى العالم إلى إعلان قد يبدو سابقاً لأوانه، أن الولايات المتحدة لم تعد القوة الاقتصادية الوحيدة فى العالم.

وقد تبدو هذه حقيقة يرتد عمرها إلى العقود الأربع الأخيرة. ولكن المقصود هذه المرة ليست أرقام الانتاج القومى الإجمالي، وتراجع حصة الاقتصاد الحقيقى منه، بل انكسار التماسك بين دور القوة العسكرية وبين الاقتصاد الحقيقى للولايات المتحدة تحديداً، أو عجزهما عن حمل بعضهما البعض. وهو انكسار نتج عن تراخى قبضة الإثنتين.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن، ضعف الولايات المتحدة هذا قد فتح الباب لتعدد القطبيات العالمي، الأمر الذى لو سُئل رواد الفكر التنموى عنه قبل عامين لقالوا لا يمكن للعالم العيش بدون تعدد قطبي، ولكن لم يحن أوانه بعد.

إلا أن عالم اليوم بسرعته وتسارعه بمتواليات هندسية يقرب البعيد كثيراً، لقد أصبحت الأزمات قاطرات التاريخ، وقوة تجدده وتجديده.

فالأزمة التى عاشها الاتحاد السوفييتى السابق قد عصفت بأثقال البنى البروقراطية التى كانت تحمل ما ينوء بها جسم اقتصادها الحقيقي.

وهذه الأزمة وإن كانت قد غاصت بالدولة إلى قاع المديونية وشلل الإنتاج والمافيا فى فترة يلتسين، إلا أنها تمكنت من توليد اقتصاد متجدد فى فترة بوتين- ميدفيديف.

وهنا برزت أهمية وجود قاعدة للاقتصاد الحقيقي، وبالتالى القدرة الدولانية الوطنية على تشغيلها بما يخدم التمحور على الذات، بعد فشل النزوع الإمبراطوري، أو على الأقل الحفاظ على محيط منتشر عالمياً لمركز لا يستطيع قلبه الضخ للشرايين الطويلة على صعيد عالمي.

لعل حكم التاريخ كان تبادلياً هذه المرة، فبقدر ما استفادت الولايات المتحدة من التمدد المكلف والمرهق للاتحاد السوفييتى ومن ثم تفككه، فقد سمحت الأزمة الأميركية الممتدة كذلك من جهة، والرغبة الأميركية المتمددة على صعيد عالمى من جهة ثانية، سمحتا لروسيا بتجديد ذاتها.

أحد الدروس المستفادة من هذه التطورات، أن العالم لم يعد متقبلاً للواحدية القطبية، وأن امبراطورية واحدة لن تتمكن من الهيمنة عليه، وقد ثبت ان الدولة القومية قادرة، ما تزال، على صياغة العلاقات الدولية اقتصاديا ومن ثم سياسيا وثقافيا.

القطبيات والحجوم السكانية

لكن للتعدد القطبى قوانينه التى وإن كانت صارمة فى مواجهة الواحدية القطبية، فإنها اكثر صرامة باتجاه التعدد اللانهائى للقطبية ايضاً. لها شروطها، وقد يكون غريباً التأشير إلى أن شرطها الأساسى توفر الحجم السكانى الضخم كى تتحول دولة ما إلى قطب. هذا ما ساعد روسيا على النهوض القطبى مؤخراً، وهو ما تجلى فى الولايات المتحدة، أما الصين والهند فمثالان أكثر وضوحاـ ليس لضخامة العدد البشرى وحسب، بل كذلك لكونهن مستعمراتٍ سابقة وإلى عهد قريب، إذا حاولنا قياس الزمن بأكثر من مجرد أيام وشهور.

قد يجادل احد أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا ليست دولاً ذات حجوم بشرية هائلة، ولكن هذا يفتح على قراءة لمسألة فى منتهى الأهمية، وهى السبق الأوروبى إلى النمو فى غفلة من التاريخ. فأوروبا الغربية حين انتقلت إلى عصر النهضة فالتنوير فالثورة الصناعية فالإقلاع المستدام، وإن كانت فى احترابات داخلية، إلا أنها كانت تتطور بالتوازى كأنها دولة واحدة. على أن الأهم فى الأمر، أن اوروبا قد نمت فى حقبة تراخٍ تاريخي. تراخٍ بمعنى غياب مركز اقتصادى عالمى يحول دون نموها.

ولذا، اعتقد أن مقولة "لا يابان بعد اليابان" على صحتها، تحتاج لإعادة قراءة لتوسيعها بمعنى "لا أوروبا بعد اوروبا". وهذا ذكرنا بمسألة مركزية هذه المرة وهى أن أوروبا نفسها مجتمعة هى التى حالت دون أن تكون مصر محمد على هى يابان العرب.

هل هناك دولة عربية، قُطرية عربية، قادرة وحدها على التحول إلى وضعية القطبية؟ بالمعايير أعلاه، وخاصة السكانية البشرية، والسكانية مقصود بها هنا كل من القدرة الإنتاجية والسوق، لا نعتقد بذلك. لماذا نركز على القدرة الإنتاجية والسوق، لأن الثقل المالى البحت يمكن أن يولد ثراء ولكنه بصيغته السائلة لا يولد تنمية إلا بقدر ما يولد من اقتصاد حقيقي. فقوة اى بلد الاقتصادية اليوم متمثلة فى حجم الطلب العالمى على ما ينتجه عماله، وليس على السيولة المالية بين ايدى ابنائه.

التعددية والتراخى والتكامل الاقتصادى

كأنما نتحدث هنا عن سلسلة متفاعلة متماسكة تفترض وتؤكد كل حلقة فيها الحلقات الأخرى. فالتعددية القطبية تسمح لدول كبيرة وحتى متوسطة الحجم، باستثمار فرصة تراخى قبضة المركز على بقية العالم، مما يفتح مناخاً لنمو البلدان المؤهلة للتحول إلى اقطاب، والبلدان المؤهلة لقطع شوط تنموى بأن تفعلا.

وشاهِدُنا على هذا تجربة التراخى ما بين الحربين الإمبرياليتين الأولى والثانية. فحين انشغلت الدول الغربية فى حروبها على إعادة اقتسام العالم، تمكنت بلدان مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين من تحقيق انطلاقات تنموية ما تزال تميزها عن كثير من بلدان العالم رغم قطع هذه القفزات، إلا أن ذلك القطع لم يقتلع البنية التى تركزت.

إن لحظة التراخى الثانية، هى التى تقع ما بين 1991 و 2003 قبل ان تتفاقم فى اللحظة الحالية، والتى مثلت انشغال الولايات المتحدة تحديداً فى حروب خارجية سواء ضد العراق أو افغانستان او يوغسلافيا، ناهيك عن ثقل الانتشار العسكرى الجاهز قتاليا، والمكلف فى كافة الأحوال، على صعيد عالمي، هذه اللحظة سمحت لروسيا التى تخلصت من هذه الأثقال فى عنقها بأن تحقق قفزة أعادتها إلى مصاف الدول القطبية.

هذا يفتح على الحال العربي. هناك دولا عربية ذات حجم سكاني، ولكنها غير مؤهلة للاستفادة المناسبة من التراخى لأن قدرة سوقها مقيدة بشح الإمكانات مما لا يسمح بتوليد فوائض ومن ثم تجميع تراكم يحقق قفزة اقتصادية واسعة بما يؤهلها للقطبية.

هذا ناهيك عن أن حالة مصر مثلا، قد تسمح لها بالاستفادة من حجمها السكانى إذا ما تبنت درجة ملموسة من سياسة الأوتاركية النسبية "القطيعة" مع النظام العالمى وقانون القيمة العالمى تحديدا. كما ان البلدان او القُطريات العربية الأخرى ذات الحجم المتوسط، لا تؤهلها الإمكانات المالية وحدها للاستفادة المناسبة من التراخي، وذلك لصغر السوق من جهة، ولعدم توفر القدر المطلوب من قوتى العمل، الماهر والجسدي، اللازمين من جهة ثانية.

تكامل يستثمر لحظة التراخي

واجبٌ التنبه إلى أن التراخى هو الاستثناء فى النظام العالمي، فالتراخى لحظة من ضعف هذا النظام سواء لأزمته الاقتصادية "الركود العظيم 1929"، أو انشغال أقطابه فى حرب بينية ، قد تمتد نسبياً لفترة ما إلى أن يستعيد قواه للسيطرة ثانية، فتطورات هذا النظام ومصالح اقطابه لا تسمح بامتدادات طويلة للتراخي، ومن هنا نسميها "لحظة التراخي"، مما يوجب استثمارها بنجاعة وسرعة. ولتوضيح أكثر، فإن أحد أوجه التراخى هو تمكُّن دولة ما من تحقيق درجة من القطيعة مع النظام العالمى وتركيز إمكاناتها الإقتصادية لإنتاج الحاجات الأساسية للأكثرية الشعبية إنتاجاً ذاتياً مما يحقق لها السيطرة على سوقها المحلي، وبما يجعلها لاحقاً منيعة على غمر اسواقها بالمنتجات الأجنبية. وهذا يعنى درجة عالية من الحماية.

إن التراخي، وخاصة فى الحقبة الحالية، هو النقيض وحتى النقض الأساسى والمباشر لتحرير التجارة الدولية. نعم، لقد "تحررت" التجارة الدولية، ولكن ما معنى ذلك؟ معناه ان الولايات المتحدة خاصة قد تمكنت من تفكيك الحمايات الاقتصادية الوطنية على صعيد عالمي، اى "حررت" جرَّدت هذه البلدان من حماياتها لنفسها، لأسواقها، لمواقعها الإنتاجية! وليس شرطاً أن يتم التجريد بالقوة العسكرية كما حصل فى العراق ويوغسلافيا، فتفكك الاتحاد السوفييتى جرَّده فى فترة يلتسين من حماية الذات على ضخامة روسيا بشرياً وتقنياً، وهى الفترة التى سمحت للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبى وللناتو بتتبيع "من تبعية" أوروبا الشرقية واجزاء من الاتحاد السوفييتى السابق.

نحن اليوم فى بداية حقبة التراخى الأميركي، وفى بداية تحرك القطبيات الأخرى، روسيا والصين الاتحاد الأوروبى واليابان، لإعادة اقتسام السوق العالمى بأخذ أجزاء من ما هيمنت عليه أميركا. وليس شرطاً أن يتم هذا بحروب امبريالية عسكرية صعبة، وإن كان هذا الاحتمال، كما ورد أعلاه، ليس منفيٌ حدوثه ذات يوم.

لم يعد من السهولة بمكان على الولايات المتحدة اليوم أن تحتل بلداً جديداً، ولم يعد اقتصادها الحقيقى قادر على التفرد بالسوق العالمي. لا بد من أخذ العامل الرئيس الذى رخرخ قبضة الولايات المتحدة الاقتصادية على العالم والمسمى الأزمة فى جانب العرض Supply-side Crisis. فالدول المنتجة كثيرة، وهذا ما قلل حصة الولايات المتحدة من المعروض السلعى العالمي، بالمفهومين النسبى والمطلق حيث تراجع إنتاجها الحقيقى امام اقتصاد التموُّل Financialization، اقتصاد الفقاعة المالية، أما والعرض عالٍ عالمياً، فإن هذا يعطى وزنا إضافياً للسوق المحلي، بمعنى أن سوق أى بلد يصبح اساسياً ومقرراً بقدر مقدرته على استيعاب أكبر قدر ممكن من إنتاج البلاد نفسها طالما هناك تشبع فى السوق العالمي. ولكن أهمية السوق المحلى تخف او تتلاشى، بل وتصبح خطيرة إذا لم يكن البلد منتجاً.

وهذا يُعيد الاعتبار للنظرية الكلاسيكية فى مصلحة البرجوازية الوطنية فى كل بلد فى احتكار سوقها المحلي. مرة ثانية إذن تلعب الأزمات دور قاطرات التاريخ. فها هى الأزمة الأميركية تؤكد لمختلف دول العالم أن التحكم بإمكاناتها الذاتية هو أمر حاسم فى هذه اللحظة من الزمن.

وعودة إلى الوضع العربي، فالتراخى الحالى فى القبضة الأميركية، ووجود قطبيات اخرى فى العالم لديها الجاهزية لمنافسة أميركا فى الوطن العربي، هذا يسمح بقدرة مناورة عربية واسعة لتحقيق درجة من التكامل الاقتصادى تستفيد من اتساع السوق العربى إذا ما جرى تخفيف سواتر الحدود، ومن الفوائض المالية للحقبة الحالية ومن قوة العمل الضخمة سواء بمستوييها الماهر والجسدي.

تُغرى أزمة التراخى الأميركية بوجوب صحوة تنموية عربية، وهى صحوة تتوفر لها الأرضية الشعبية أكثر من اى وقت مضى. فعلى الرغم من تعدد القُطريات العربية، إلا أن الشارع العربى لم يتفكك من حيث اللغة، والثقافة، والتراث والدين والفن والقومية ....الخ. ولم يبق سوى البدء بمشروع تخفيف سواتر الحدود كى تتساوى الحركة الاقتصادية فى الأوانى السياسية العربية التى لا بد ان تكون مستطرقة!

قد تشعر كل دولة عربية، على حدة، أنها ليست بحاجة إلى الأخريات، وأن بوسعها الاحتماء من غوائل الدول الكبرى، لا سيما فى حقبة التراخي. ولكن علينا التذكر، أنه لا فى حقبة الامبريالية ولا فى حقبة العولمة كان بوسع اية دولة صغيرة، أو حتى متوسطة، ان تعيش ، لفترة طويلة أو دائمة، على توازن الرعب بين القطبيات الكبرى.

كلنا يتذكر أن روسيا، غضَّت الطرف لأميركا عن تدمير العراق وحتى يوغسلافيا السلافية! وحتى إغلاق الأبواب، فهو ممكن بقدر أكبر بكثير للدول اكبرى منه للدول الصغيرة. كانت هذه إحدى نصائح أحد كبار الاقتصاديين الراسماليين فى الولايات المتحدة جوزيف شومبيتر منذ نهاية اربعينات القرن الماضي، وهناك "الآن" فى نفس الولايات المتحدة مراجعة لهذا الأمر.

يمكن للبلدان العربية التى هى مجتمعة ذات حجم سكانى كبير وطاقة سوق استهلاكى متوسطة، وإمكانات مالية أكبر أن تستثمر الطفرة النفطية، وعطش العالم إلى النفط، وتراخى القبضة الأميركية، وعدم وجود قطبية تفرض بالقوة الآن، فى اللحظة، على العرب وغير العرب الانصياع والانفتاح الكلي، فى هذه اللحظة يمكن العمل على تعميق التكامل الاقتصادى العربي.

هى لحظة مساومة ومناورة اذن، ليست عملية سهلة، فليست روسيا الحالية هى الاتحاد السوفييتي. كما ان المصلحة الاقتصادية لقطب ما فى نمو دولة متوسطة الحجم فى العالم يختلف عن رغبتها فى امتلاك هذه الدولة السلاح النووى ، وعليه، يمكن للأقطاب ان تتفق فى قضايا معنية، وان تختلف فى أخرى، وإلى أن تقتتل حقاً أو يتعفن النظام نفسه تماماً، هناك فرصة للمناورة واستثمار التراخي.

قد يركن البعض إلى حتمية ما، ولكن الحتميات ليست عمياء كما قد يتخيل البعض، فحركة التاريخ هى من صنع البشر، وهم الذين يضيئونها، ولكن، ما من أحد يُضيىء للاخر.

"إن الذين يملكون الصوف لا ينسجون الصوف للذين لا يملكون- ناظم حكمت". صحيح أن الأمم لا تفنى، لكن التاريخ لا ينتظر، ولا يصوغه أحد لغيره.