وضع لا يمكن أن يدوم: أزمة الديون الأميركية أو الازدهار على حساب شعوب العالم
الخميس, 11-أغسطس-2011
بقلم: عمر نجيب -
وم الثلاثاء 2 أغسطس 2011 وقع الرئيس الأميركي باراك أوباما على مشروع قانون خفض العجز ليصبح قانونا ساريا لخفض الإنفاق وزيادة سقف الدين الأميركي وتجنب تأخر غير مسبوق في سداد استحقاقات الدين.

وكان مجلس الشيوخ الأميركي قد أقر في وقت سابق من نفس اليوم مشروع القانون الذي يتعلق برفع سقف الدين الأميركي العام بنحو 2400 مليار دولار وخفض الإنفاق بأكثر من 2000 مليار دولار.

وأقر أعضاء المجلس النص بأغلبية 74 صوتا مقابل 26، وذلك غداة إقراره في مجلس النواب. وجاءت المصادقة في وقت لم يكن فيه قد تبقى أمام الرئيس أوباما سوى ساعات لإصدار القانون قبل انقضاء المهلة الأخيرة التي حددتها وزارة الخزانة لتفادي عدم السداد عند منتصف ليل الثلاثاء الأربعاء.

وكان إقرار النص يتطلب موافقة 60 على الأقل من 100 عضو حضروا جلسة التصويت. وقد جنب إقرار مجلس الشيوخ مشروع القانون الولايات المتحدة إمكانية أن تعجز عن الوفاء بالتزاماتها للمرة الأولى في التاريخ قبل ساعات من المهلة النهائية لسداد مستحقات.

ويسمح الاتفاق الذي تم التوصل إليه في آخر لحظة بين البيت الأبيض وزعماء البرلمان برفع سقف الدين الأميركي الذي بلغ في 16 مايو 2011 حده الأقصى مع 14294 مليار دولار. ويرافق هذا الإجراء استقطاعات في الميزانية تصل إلى 2500 مليار دولار على مرحلتين.

وقال أوباما عقب إقرار مجلس الشيوخ لمشروع القانون إن هذا المشروع هو خطوة أولى هامة تجاه ضمان أن تعيش الولايات المتحدة في إطار مواردها المالية، لكن يلزم المزيد لإعادة بناء الاقتصاد الأميركي.

وأوضح أوباما في بيان بالبيت الأبيض أنه يتوقع أن يظهر إصلاح ضريبي من مداولات لجنة مشتركة جديدة تشكل بموجب التشريع وأنه يلزم لمزيد من خفض العجز وجود "نهج متوازن" يدفع فيه الأكثر ثراء ضرائب أكبر.

وذكر أوباما أيضا إن عدم اليقين الناتج عن النقاش بشأن الديون كان عائقا أمام الأعمال، لكن الانتعاش الاقتصادي تعطل أيضا بسبب مشكلات غير متوقعة مثل زلزال اليابان.

وحث أوباما الكونغرس على الموافقة على مشاريع قوانين التجارة المعطلة وعلى اتخاذ اجراءات تحفز الاقتصاد وتخلق وظائف مضيفا "علينا ان نقوم بكل ما هو بإمكاننا لتحفيز الاقتصاد وإعادة أميركا إلى العمل"، وقال إنه يريد زيادة إعانات البطالة.

وسرد أوباما سلسلة اجراءات قال انه يامل ان يركز عليها المشرعون الأميركيون بعد العودة من عطلة الصيف.

ومن بين تلك اجراءات تحفيز الاقتصاد وتشجيع المؤسسات الصغيرة واستخدام شركات خاصة لاصلاح البنى التحتية في البلاد وابرام عدد من الصفقات التجارية العالقة في الكونغرس.

وأضاف "في سبتمبر عندما يعود الكونغرس من الاجازة ساحثه على اتخاذ خطوات على الفور من شأنها ان تحدث فرقا".

وتابع "سيوفرون مناخا يمكن الشركات من التوظيف، وحيث يحصل الافراد على المزيد من المال لينفقوه. حيث يمكن للعاطلين عن العمل العثور على وظيفة جيدة. علينا ان نبدأ عبر توسيع التخفيضات الضريبية لتشمل عائلات الطبقة الوسطى".

الممكن

وكان أعضاء مجلس الشيوخ الذين دعموا القانون قد وصفوه بأنه ليس الأفضل، لكنه كان القانون الممكن التوصل إليه. وقال السيناتور الجمهوري روي بلونت إن هذا القانون قد يبدو عملية تغيير للسلوك.

أما زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونل فقال إن هذا القانون لا يحل المشكلة، لكنه على الأقل يجبر واشنطن على الاعتراف بوجود مشكلة، وهو يضعنا على طريق التعافي عبر استعادة التوازن. لقد غيرنا الجدال، وتوجهنا في الاتجاه الصحيح.

وانتقد ناشطي حركة الشاي في الكونغرس لتأخيرهم العمل على سقف الدين إلى حين الاجتماع الأخير. وقال ريد إن هذا التشريع سيوفر للاقتصاد استقرارا يحتاجه بشدة.

بدوره قال السيناتور الجمهوري أورين هاتش إنه لا يمكنه دعم التشريع لأنه لا يوفر الحل الكافي الذي يطلبه السوق المحلي. وذكر السيناتور الجمهوري راند بول إن أوباما بحاجة لتحمل مسؤولية اقتصاد ساء تحت قيادته.

ويشار إلى أن خطة تخفيض الدين ستقتطع ما لا يقل عن 2100 مليار دولار خلال فترة تمتد 10 سنوات.

ويقدر مكتب الموازنة في الكونغرس أن يساهم هذا القانون بتخفيض عجز الدين بحوالي 917 مليار دولار بين 2012 و2021، فيما سيتم ادخار 1200 مليار إضافية من العمل الذي من المنتظر أن تقوم به لجنة من الحزبين. ويقضي الاتفاق برفع سقف الدين على مرحلتين بحوالي 2400 مليار دولار.

وتضمن الاتفاق توفير 900 مليار دولار عبر تحديد سقف الإنفاق، بينها توفير 350 مليار دولار من الميزانية الدفاعية الأساسية، وهو أول اقتطاع دفاعي منذ تسعينيات القرن الفائت.

نصر وهزيمة

نجاح أوباما بعد صراعه الطويل مع الكونغرس في تجنب تخلف بلاده عن تسديد ديونها، لم يخف حقيقة أنه خسر ثقة قاعدته التي اتهمته بالاستسلام امام المحافظين مع اقتراب انتخابات 2012 الرئاسية.

وقال استاذ العلوم السياسية في جامعة "نيو هامبشر" دانتي سكالا ان اوباما وحلفاءه الديموقراطيين في الكونغرس خضعوا لارادة خصومهم الجمهوريين. وتابع "على المدى القصير، تلقى الرئيس صفعة" ومع انه تجنب تخلفا كارثيا عن التسديد "فانه خسر هذه المعركة".

وتلقى اوباما انتقادات حادة من اقصى يسار الحزب الديمقراطي الذي اتهمه بالتراجع عن سعيه لوقف التخفيضات الضريبية للاغنياء.

وانتقدت صحيفة نيويورك تايمز الرئيس الاميركي على "استسلام شبه تام" امام المحافظين فيما اشار حامل جائزة نوبل للاقتصاد بول كروغمان الى ان اوباما سبق ان اذعن للجمهوريين في ديسمبر في موضوع تمديد الاعفاءات الضريبية المقررة في ولاية بوش وكذلك في الربيع لتجنب شلل السلطة.

الرئيس باراك أوباما حاول لاحقا أن يلمع صورته أمام مواطنيه حيث قال ان السبب الوحيد وراء عدم اعتماد "مقاربة متوازنة" لحل أزمة الدين هو ان الجمهوريين في الكونغرس يصرون على مقاربة لا تطلب من الأثرياء والشركات الكبرى المساهمة بأي شيء. وأوضح انه "خلال العقود الماضية أنفقنا مالاً أكثر من مدخولنا. والنتيجة هو ان العجز كان على طريق تخطي الألف مليار دولار عندما وصلت إلى سدة الرئاسة، وحتى تزداد الأمور سوءاً حصلت حالة الانكماش الاقتصادي وبات المال الذي ندخله أقل فيما اضطررنا الى الإنفاق أكثر".

وأضاف "إذا استمرينا على هذا المسار سيكلفنا ديننا المتنامي وظائفنا ويلحق ضرر كارثياً بالاقتصاد، ودولارات أكثر من ضرائبنا ستستخدم لدفع الفوائد لقروضنا ولن تميل الشركات لفتح مزيد من الفروع أو استخدام عمال في بلد لا يستطيع موازنة دفاتره".

وقال أوباما "بما ان ما من حزب ملام على القرارات التي أدت إلى هذه المشكلة، على الحزبين الديمقراطي والجمهوري مسؤولية حلها".

وأضاف أن النواب الجمهوريين يصرون على أن الطريق الوحيد لتجنب التخلف عن سداد الدين هو موافقة الباقين على مقاربتهم التي تقوم على الاقتطاع من الإنفاق فقط.

وشدد على ان "عدم التمكن من الوفاء بالتزاماتنا هي نتيجة غير مسؤولة لهذا النقاش"، ولفت إلى ان المقاربة التي تقدم بها رئيس مجلس النواب جون بوينر بشأن تمديد سقف الدين مقابل الاقتطاعات في الإنفاق "سيجبرنا من جديد على مواجهة خطر عدم القدرة على سداد الديون بعد 6 أشهر من الآن، وهذا يعني انها لا تحل المشكلة".

أزمة مدمرة

في الوقت الذي كان فيه الجدل محتدما حول الدين الأميركي حذرت العديد من وسائل الاعلام الأميركية من الأزمة باتت خانقة ومدمرة وتنذر بانهيار الاقتصاد، مشيرة إلى إنها بدأت تترك تداعياتها على الشعب الأميركي بشكل مباشر، في ظل تواصل انخفاض معدل نمو الناتج القومي المحلي.

وكتب المحلل الأميركي كولبيرت كينع إن ما وصفه باليمين المتطرف في حزب الجمهوريين مصمم على إسقاط الرئيس باراك أوباما، موضحا أن الجهوريين لا يريدون أن يفعلوا شيئا يكون من شأنه مساعدة أوباما في محنته.

صحيفة واشطن تايمز قالت في افتتاحيتها إنه يبدو أن الشعب الأميركي يريد أن يهجر أوباما ويتخلى عنه، في ظل عدم تحقق الوعود التي أطلقها إبان حملته الانتخابية عام 2008.

فقبل أن تبدأ أزمة الديون الخانقة الراهنة بترك تداعياتها المدمرة في البلاد، كان أوباما قد وعد بالتعامل مع الأزمة المالية خطوة بعد أخرى من أجل الوصول إلى بر الأمان، وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، ولكن شيئا من ذلك كله لم يتحقق.

وفي افتتاحية أخرى لها، قالت واشنطن تايمز إن أزمة الديون الراهنة بدأت تترك تداعياتها المدمرة على الاقتصاد، وإن أحوال البلاد من الناحية الاقتصادية بدأت تسوء أكثر فأكثر.

البيانات الجديدة المتعلقة بالناتج القومي المحلي والتي أصدرتها وزارة التجارة الأميركية كشفت عن نمو اقتصادي هزيل لا يربو على 1.3 في المائة في الربع الثاني من 2011.

والأخطر أن النمو الذي قيمته 1.9 في المائة المتعلق بالربع الأول من 2011 كان انخفض بشكل مفاجئ إلى 0.4 في المائة، وإذا ما بينت الأرقام تناقص النمو في الربع الثاني بنفس النسبة فإن ذلك ينذر بالخطر، ويشير إلى أن البلاد واقعة تحت تأثير كساد اقتصادي كبير.

وتثير الأرقام الاقتصادية المتعلقة بالناتج القومي المحلي الأميركي جدلا واسعا وعددا كبيرا من التساؤلات لدى الأميركيين بشأن الافتراضات الاقتصادية المختلفة، والتي ينبني عليها إسقاطات متعددة بشأن الميزانية وبشأن الخطط المتعلقة بسقف الديون الأميركية التي تعصف بالبلاد.

وحذرت صحيفة نيويورك تايمز من أن أزمة الديون تنذر بتداعيات ومخاوف من إفلاس العديد من المؤسسات في الولايات المتحدة.

هناك من يرى أن الولايات المتحدة تواجه نتيجة استمرار استحواذ الأغنياء على الثروة وتحميل الطبقتين المتوسطة والفقيرة أعباء الإخفاقات الاقتصادية، احتمال نشوب انتفاضة شعبية تحرق الأخضر واليابس وربما تشكل فصل نهاية للنظام الرأسمالي المتوحش وإستراتيجية التوسع الخارجي لإقامة النظام الإمبراطوري.

يشير عديد من الاقتصاديين أنه وسط هذا النقاش لم يتطرق غالبية السياسيين إلى جوهر المشكلة وهي أن الولايات المتحدة تعيش بمستوى فوق إمكانياتها الحقيقية، وأن النصيب الأكبر من إزدهارها خلال العقود الثلاثة الأخيرة يعود فضله إلى نجاح واشنطن في مواصلة تحويل ونقل مشاكلها الاقتصادية إلى بقية دول العالم، زيادة على استغلالها للثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط لتسيير عجلة اقتصادها، اعتمادا على أسلوب موروث من الحقبة الاستعمارية.

اقتصاد طفيلي

يوم الاثنين فاتح أغسطس 2011 قال رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين الولايات المتحدة تعيش على ما يتجاوز امكاناتها "مثل طفيل" يعيش على جسد الاقتصاد العالمي وقال ان هيمنة الدولار تشكل تهديدا للاسواق المالية.

وذكر بوتين لمجموعة شبابية بينما كان يتجول في مخيم شبابي شمالي موسكو "يعيشون على ما يتجاوز امكاناتهم ويحملون الاقتصاد العالمي جزءا من مشكلاتهم، "انهم يعيشون مثل طفيليات على جسد الاقتصاد العالمي وعلى احتكارهم للدولار".

لكن بوتين الذي دأب على انتقاد سياسة الصرف الاجنبي للولايات المتحدة أشار الى أن بلاده تملك قدرا كبيرا من سندات وأذون الخزانة الاميركية. وقال انه اذا حدث قصور في النظام بالولايات المتحدة "فسوف يؤثر هذا على الجميع".

واضاف "تضع بلدان مثل روسيا والصين جزءا كبيرا من احتياطياتها في الاوراق المالية الاميركية... ينبغي أن تكون هناك عملات أخرى للاحتياطيات".

بعد تصريحات بوتين بثمان وأربعين ساعة ابدت الصين يوم الاربعاء موقفا صارما حيال اعلان الكونغرس الاميركي خطة تجنب البلاد التعثر في تسديد مستحقاتها، معتبرة انها فشلت في نزع فتيل "قنبلة ديونها" ومؤكدة عزمها على الحد من اعتمادها على الدولار في احتياطاتها الهائلة من العملات الاجنبية.

وترافق هذا الموقف مع تخفيض وكالة التصنيف الائتماني الصينية داغونغ علامة الدين السيادي الاميركي.

ورات وكالة انباء الصين الجديدة ان اقرار الكونغرس الاميركي خطة تجنب الولايات المتحدة التخلف عن مدفوعاتها حتى العام 2013 على اقرب تقدير فشل في نزع فتيل "قنبلة الديون".

وحذرت من انه في حال لم تنجح واشنطن في ضبط ديونها، فان ذلك سيؤثر على "رفاه مئات ملايين العائلات في الولايات المتحدة والخارج".

واعلن حاكم البنك المركزي الصيني تشو هسياوشوان في بيان ان "احياطي العملات الاجنبية الصيني سيستمر في اتباع مبادئ تنويع الاستثمارات وادارة المخاطر".

ووصل احتياطي العملات الصيني الذي يعتبر الاكبر في العالم الى 3197 مليار دولار نهاية يونيو بزيادة 3.30 في المائة خلال سنة، بحسب البنك المركزي.

غير ان الصين تبدي مخاوف لا سيما وانها الدائن الاول بفارق كبير للولايات المتحدة وقد وصلت قيمة سندات الخزينة الاميركية لديها في مايو الى حوالى 1160 مليار دولار.

وعززت الازمة المالية عام 2008 مخاوف الصين بشان هذه الموجودات ودفعتها الى زيادة استثماراتها باليورو التي لم تكشف عن قيمتها فيما يعتبرها المحللون متواضعة، ولا سيما في فرنسا والمانيا.

غير ان هامش تحرك الصين يبقى محدودا بنظر الخبراء وقال اليستير ثورنتون المحلل لدى شركة ايه اتش اس غلوبال اينسايت لوكالة فرانس برس "انني واثق من انهم يرغبون في تنويع عملات احتياطيهم لكن هذا سيقتصر على الهوامش".

واضاف "الواقع انه سيكون من الصعب على الصين ان تنوع موجوداتها على حساب شراء الدين الاميركي بدون ان تعمد الى تغيير جذري في نمطها الاقتصادي برمته".

وتابع "لا يوجد اي سوق اخر فيه هذا الحجم الهام من السيولة مثل الولايات المتحدة" مبررا بذلك اقبال الصين بكثافة على شراء الديون الاميركية.

واكد ين تشنتاو من اكاديمية العلوم الاجتماعية من جهته ان الصين "امامها خيارات ضئيلة جدا لاستثمار احتياطاتها الطائلة من العملات الصعبة في الاسواق الدولية".

وصدرت الانتقادات الصارمة للاتفاق الاميركي حول الديون عن وكالة الصين الجديدة في اعقاب تعليقات سلبية جدا وردت الاثنين والثلاثاء في الصحافة الرسمية الصينية.

وكتبت صحيفة الشعب الناطقة باسم الحزب الشيوعي "حتى لو ان الولايات المتحدة تفادت بشكل اساسي التعثر في السداد، الا ان مشاكل دينها السيادي تبقى بدون حل".

كما انتقد التلفزيون الصيني من جهته الاتفاق الذي تم التوصل اليه في اللحظة الاخيرة بين اوباما والكونغرس معتبرا انه "استعراض سياسي يثير ضجة اعلامية اكثر مما هو اتفاق على الجوهر".

وعمدت وكالة داغونغ الصينية للتصنيف الائتماني الى تخفيض علامة الولايات المتحدة.واوضحت داغونغ، ان هذه العلامة تراجعت من ايه+ الى ايه مع توقعات سلبية لمستقبل الدين الاميركي، معتبرة ان رفع سقف الدين العام لا يمكن الا ان "يزيد من تفاقم" الازمة.

وكانت داغونغ قد خفضت في نوفمبر 2010 علامة الدين السيادي الاميركي من ايه ايه الى ايه+ وارفقت هذه العلامة في 14 يوليو بتوقعات سلبية.

وقد أعلنت الصين مرارا، وبصورة فظة حسب التعبيرات الأميركية، أن الاقتصاد العالمي لا يستطيع أن يوجد قواعد مفصلة خصيصا للولايات المتحدة، بما يسمح لها بإهمال العمل على إعادة التوازن فيما يتعلق بعجز ميزانيتها الجاري.

ويضاف إلى ذلك أن الصينيين أوضحوا أن العجز لا يمكن أن يمول من خلال طباعة الأوراق النقدية، وإرغام الدول الأخرى على مراكمة الدولارات لديها.

طبع الدولارات دون تغطية

تضخم الدين الأميركي ليس الوسيلة الوحيدة لواشنطن للعيش والازدهار على حساب بقية العالم، فطبع الخزينة الأميركية لمئات ملايير الدولارات من حين لآخر دون أي سند أقتصادي وحشر الورقة الخضراء في النظام المالي الدولي شكل طريقة إضافية للإستحواذ على خيرات الآخرين.

شكل عام 1971 مرحلة مفصلية في التحولات الكبرى على الصعيد الاقتصادي العالمي حيث أن الولايات المتحدة رفعت في ذلك العام الغطاء الذهبي عن الدولار، وذلك عندما طالب رئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول استبدال ما هو متوفر لدى البنك المركزي الفرنسي من دولارات أميركية بما يعادلها ذهبا. فرنسا قدمت هذا الطلب بعد أن وجدت أن الولايات المتحدة تطبع العملة الخضراء بشكل اعتباطي وتستنزف ثروات العالم.

الدولار الأميركي أصبح بعد الحرب العالمية الثانية خاصة أهم عملة في العالم لأسباب من بينها أن الولايات المتحدة تملك أقوى اقتصاد دولي وأكبر قدرة انتاجية، زيادة على أنه مغطى بقيمته ذهبا. إلا أنه في الواقع ومن 1967 الى 1971 لا أحد يستطيع أن يثبت أنه في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة مخلصة في الوفاء بهذا الالتزام، حيث انها امتنعت أو ماطلت احيانا كثيرة في استبدال الدولار بما يعادل قيمته ذهبا، مع أن الذهب يسعر عالميا بالدولار، وسعر الذهب تحدد حسب سعر البورصة وتقيم بالدولار.

كتب الخبير الاقتصادي جورغن أورستروم مولر في أبريل 2009، لقد ظل الدولار طوال الأعوام الخمسين الماضية هو العملة الاحتياطية، كما زودت الولايات المتحدة النظام النقدي العالمي بالسيولة، حتى أصبح التضخم العالمي يعتمد إلى حد كبير على كمية الأوراق النقدية التي تقوم الولايات المتحدة بطباعتها.

وتستخدم عملة الاحتياطي الدولية لتمويل العمليات المالية، وذلك في صورة احتياطي نقدي للدول، كما أنها وحدة الحساب لعدد من السلع الرئيسية، بما في ذلك النفط. ويعود تحرك الرئيس الفرنسي السابق، شارل ديغول ضد هيمنة الدولار، إلى ستينيات القرن الماضي، ومن بين أسباب ذلك قيام الولايات المتحدة بطباعة النقود لتمويل نشاطاتها الخارجية دون أي سند ذهبي كما نصت على ذلك الإتفاقيات الدولية التي وضعت أسس الاقتصاد الدولي مع نهاية الحرب العالمية الثانية.

فرنسا ديغول والعديد من الاقتصاديين رأوا ان لا هدف لواشنطن سوى مواصلة الحفاظ على القوة الاقتصادية للولايات المتحدة دون قواعد ومقومات فعلية.

كان الدولار حتى بداية عقد السبعينات مربوطا بالذهب، ولم تطلب إلا قلة استبدال الدولارات بالذهب، والغالبية كانت تدرك أن الذهب المتوافر في الولايات المتحدة لا يكفي لذلك، ولكن ظلت صورة الوهم صامدة. وأجبرت الأوضاع الاقتصادية الولايات المتحدة على التخلي عن معيار الذهب عام 1971، وإلغاء حق المطالبة بالقيمة الذهبية للدولار.

وبالتالي تم اختراع عملة احتياطية دولية جديدة، هي حقوق السحب الخاصة، وذلك في صورة سلة من العملات يستخدمها صندوق النقد الدولي في عملياته، ولكنها لا تحل محل الدولار كعملة احتياطية عالمية تحتفظ بها الدول الأخرى.

تمويل العجز

إن بلد العملة العالمية الاحتياطية يقطف بسياسته ثمار إدارة سياسته النقدية دون اعتبار للظروف الخارجية، حيث يتم تمويل عجز ميزان المدفوعات الأميركي من خلال ضخ الدولارات في النظام العالمي بدلا من اللجوء إلى التعديل، من خلال شد الأحزمة المؤلم، وتقليص الاستهلاك، والاستثمار.

وبما أن معظم السلع المهمة مقيمة بالدولار فإن الدولار القوي مرتبط بارتفاع أسعار السلع بالنسبة لكل بلدان العالم، ما عدا الولايات المتحدة المحصنة من الآثار التي يحدثها على اقتصادها المحلي. وأما الخاصية السلبية في ذلك فهي تراكم الدولارات في الخارج، الأمر الذي يؤثر في عملات الدول ذات الارتباط بالعملة الأميركية.

وبلغة مبسطة فإن الولايات المتحدة تعيش على الاستدانة من العالم، مثلها مثل صاحب مصنع أو متجر أو مزارع يسجل دخلا صافيا مثلا بـ100 الف دولار خلال فترة زمنية محددة، ولكنه ينفق ويشتري سلعا ويدفع أجور عمال ويدخل في نزاعات ومضاربات بقيمة تفوق المليون دولار خلال نفس الفترة، وهو لا يستدين مباشرة من البنوك ولكن يصدر كوبونات أو وصولات وشيكات للذين يتعامل معهم تغطي ذلك الفارق الذي يصل الى 900 الف دولار لنقول مثالا كل شهر.

هؤلاء الذين يملكون الوصولات والشيكات التي تمثل دين الطرف الأول يحتفظون بها معتبرين أنها رصيد ويشترون بها ما يحتاجونه، ولكن في النهاية فإن هذه الأصول ليست ذات قيمة حقيقية فهي التزامات من جانب الطرف الأول، يعجز عن سدادها لو طلب جزء كبير منها في آن واحد.

وهو ما يعني أن الولايات المتحدة عاجزة عن تسديد ديونها الخارجية أو الدولارات المملوكة لدول اخرى بسلع من انتاجها.

ان الولايات المتحدة أكبر مستورد في العالم حيث بلغت وارداتها السلعية 1919 مليار دولار أي 15.5 في المائة من الواردات العالمية (إحصاءات التجارة الخارجية لعام 2006 الصادرة عن منظمة التجارة العالمية).

وفي الولايات المتحدة يغلب الطابع العسكري على النفقات العامة والطابع السياسي على الضرائب. بحيث لا يهدف الإنفاق العام إلى التشغيل بقدر ما يهدف إلى تمويل العمليات الحربية الخارجية. كما أن الضرائب تستخدم كوسيلة للحصول على أصوات الناخبين بدلا من الحصول على إيرادات لتمويل العجز المالي.

العجز عن السداد

النظام الإقتصادي الأميركي يبتلع من الديون ما لا يستطيع تسديده. فقد ارتفعت رهونات المنازل في الولايات المتحدة منذ العام 1987 من 1800 مليار دولار إلى 8200 مليار دولار، وعندما انفجرت الأزمة، شملت آثارها بالضرر جميع بنوك وصناديق الإئتمان في العالم. أما دين المستهلك الأميركي (بطاقات الائتمان) فقد تصاعد من 2700 مليار دولار إلى 11000 مليار دولار.

مضاربات الوهم هي أحد عناصر الأزمة الأميركية، حيث ترفع قيم السلع دون سبب حقيقي تفرضه قوانين السوق. في عام 2000 ظهرت فقاعة ترتبط بالقطاع العقاري. ومنذ ذلك العام أخذت قيم العقارات وبالتالي أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة بالارتفاع بصورة مستمرة في جميع أنحاء العالم خاصة في الولايات المتحدة حتى بات شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار في حين أن الأنشطة الأخرى بما فيها التكنولوجيا الحديثة معرضة للخسارة.

وأقبل الأميركيون أفرادا وشركات على شراء العقارات بهدف السكن أو الاستثمار الطويل الأجل أو المضاربة. واتسعت التسهيلات العقارية إلى درجة أن المصارف منحت قروضا حتى للأفراد غير القادرين على سداد ديونهم بسبب دخولهم الضعيفة.

وانتفخت الفقاعة العقارية حتى وصلت إلى ذروتها فانفجرت في صيف عام 2007 حين هبطت قيمة العقارات ولم يعد الأفراد قادرين على سداد ديونهم حتى بعد بيع عقاراتهم المرهونة.

وفقد أكثر من مليوني أميركي ملكيتهم العقارية وأصبحوا مكبلين بالالتزامات المالية طيلة حياتهم. ونتيجة لتضرر المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم هبطت قيم أسهمها في البورصة وأعلنت شركات عقارية عديدة عن إفلاسها.

ولكن انهيار القيم لم يتوقف عند العقارات بل امتد إلى أسواق المال وجميع القطاعات. وأدى انفجار الفقاعة العقارية إلى تراجع الاستهلاك اليومي وبالتالي إلى ظهور الكساد.

التخلص من الدولار

كل هذا يفرض طرح تساؤل عن السبب الذي يحول بين دول العالم والتخلص من الدولار كعملة تعامل عالمية تسهم في ثقل مشاكل وعجز الاقتصاد الأميركي الى اعناق الآخرين.

يقول الكثير من خبراء الاقتصاد أنه قد يكون هنالك مجال ما من أجل تنويع الاحتياطيات المالية بإدخال عملات مثل اليورو والين ولكن الإمكانات محدودة في هذا الصدد. لأنه إذا تخلى مالكو الدولارات عن دولاراتهم فإن ذلك سوف يعمل على تآكل قوتهم الشرائية، وهو أمر في غير مصلحتهم.

وبالتالي فإن الولايات المتحدة، وكبار دائنيها يحتجزون بعضهم بعضا كرهائن لديهم هدف مشترك يتمثل في استمرارية النظام حتى يمكن إيجاد مخرج.

إن الأمر الواضح تماما هو أن الولايات المتحدة تفقد دورها كبلد وحيد ذي امتيازات خاصة تسمح له بمساحة مناورة واسعة في ممارسة سياستها الاقتصادية بصورة متفوقة على بقية دول العالم. ويقف وراء النزاع حول هذا الموقف نزاع نشب منذ فترة طويلة بين مجموعتين من الدول: المدينة، والدائنة.

الدول المدينة تريد أن تتولى الدول الدائنة تعديلات في الاختلالات من خلال استمرار زيادة طلبها المحلي، وأن تتصرف بما يزيد من واردات الدول الدائنة، ودعم صادرات الدول المدينة، بما يسمح للمدينيين باستمرار السياسات الاقتصادية المتوسعة بما يتناسب مع طاقتهم الإنتاجية.

وتفيد الخبرات المتوافرة أن هذه السياسات تميل إلى أن تكون تضخمية، حيث تقضي على القوة الشرائية للموجودات المتوافرة لدى الدائنين. ومن السخرية أن الأميركيين علموا البريطانيين حين تم وضع قواعد النظام النقدي الدولي في برينتوودز عام 1944، أن على البريطانيين أن ينسوا أي أفكار لتحويل عبء إعادة التوازن إلى الولايات المتحدة. وهذا بالضبط هو ما يقوله الصينيون وكثير من شعوب العالم للأميركيين في الوقت الراهن.

شذوذ الاقتصاد

إن المشكلة الرئيسية هي شذوذ الاقتصاد العالمي، حيث إن الدول الدائنة كانت هي بلد الاحتياطي بحكم دورها كأعظم قوة اقتصادية، وهو الدور الذي مارسه البريطانيون قبل عام 1914، والأميركيون بعد عام 1945. وأصبح الألمان كذلك حين بدأ استخدام اليورو على النطاق الأوروبي.

وبسبب الإنفاق الأميركي المتجاوز للحدود، فإن البلد الدائن، أي الصين وهو بلد فقير نسبيا، وكانت الأساسيات تقول إنه بعيد عن أن يصبح قويا اقتصاديا. ولم يواجه العالم حالة سابقة كهذه، حيث من الصعب وضع برنامج لمعالجة الأمور لدى الفقراء والضعاف اقتصاديا من جانب، ولدى الأقوياء اقتصاديا من الجانب الآخر.

غير أن المؤشرات توضح بما يكفي أن الصين، كبلد دائن، وأميركا كبلد مدين، يحاولان تحويل عبء التعديل كل على الآخر. وتفيد توقعات الأجل الطويل أن البلد الدائن هو الذي سوف يفوز في ظل حرمان الولايات المتحدة من موقعها المتميز في الاقتصاد العالمي، وفتح الباب أمام تراجع دور الدولار، ناهيك عن احتمال انتهائه كعملة احتياطية عالمية.

إن الصين تحاول رسم حدود نظام ينهي النظام النقدي العالمي القائم حاليا، وبما يكفي لكي يحل محل بريتنوودز، حين يكون الدولار قد أنهى دوره. ومن الواضح تماما أن الصين تريد أن تصبح الدول الدائنة هي صاحبة القيادة المسؤولة في هذا الصدد.

في نهاية سبتمبر 2009، حذر رئيس البنك الدولي روبرت زوليك الولايات المتحدة من أن استمرار الدولار عملة الاحتياط العالمية الوحيدة ليس مضمونا، معترضا بوضوح على تصريحات أميركية بأن الدولار سيظل طاغيا على ما سواه من العملات الدولية الرئيسية على المدى الطويل.

"بعد الإمبراطورية"

في آخر كتاب للفرنسي إمانيول طود الذي تنبأ بإنهيار الاتحاد السوفيتي وبعنوان "بعد الإمبراطورية" والصادر في نهاية سنة 2004 يفتتح المؤلف كتابه بجملة قوية "إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تصبح مشكلة بالنسبة للعالم". فبينما "اعتدنا أن نرى فيها حلاً" وضامنة للحرية السياسية والنظام الاقتصادي خلال نصف قرن، فهي تظهر اليوم أكثر فأكثر عامل فوضى دولية، حيث تبقي... على اللايقين والصراع". إن أميركا تحتم على العالم أن يعترف بأن دولا تشكل "محور الشر" يجب محاربتها، كما تستفز قوى أخرى مثل روسيا والصين، وتضع حلفاءها في موقف حرج باستهدافها مناطق متاخمة لهؤلاء الحلفاء.

منذ العام 1971 انخفضت القيمة الحقيقة للدولار الأميركي حوالي 40 مرة، وعملية تقويته من حين لآخر ليست سوى سطحية وتقوم على أساليب الضغط وإجبار الدول والبنوك المركزية الدولية على شراء وتخزين الورقة الخصراء.

مرة أخرى ويوم الجمعة 5 أغسطس هوت مؤشرات أسعار الأسهم والنفط في الأسواق العالمية بشكل كبير، متأثرة بالمخاوف المتعاظمة من دخول الاقتصاد الأميركي في دورة ركود جديدة، ومن امتداد أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو إلى إيطاليا وإسبانيا، ثالث ورابع أكبر اقتصاديات أوروبا.

وهم القوة المطلقة وإستمرار الإمبراطورية على حساب العالم يقترب من نهايته.

ميدل ايست اونلاين