تونس: من ثقافة الثورة إلى ثقافة الدولة
الأحد, 07-أغسطس-2011
بقلم: منور مليتي -
للثورة ثقافتها التي تستلهم منها شعلتها وقيمها وأهدافها،

وللدولة ثقافتها التي تضبط من خلالها إيقاع حركة المجتمع،

وما بين ثقافة الثورة المتحررة والمنفلتة وثقافة الدولة التي تضبطها المؤسسات فترة انتقالية دقيقة وصعبة تستوجب الكثير من التعقل والحكمة والوعي بصناعة التاريخ، فترة تتحقق فيها أهداف الثورة وتستعيد فيها الدولة أداءها وتحكمها في الأحداث.

وبلا شك فإن مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعيشها تونس هي تجسيد فعلي لعملية الانتقال من ثقافة الثورة التي عصفت بمنظومة الاستبداد والنظام الشمولي إلى ثقافة الدولة المدنية التي تضمن حقوق المواطنين، كل الحقوق الفردية والجماعية السياسية والمدنية.

فقد عاش المجتمع التونسي أكثر من ثلاثة أشهر استفحلت فيها قيم الثورة ومبادؤها تجسدها تطلعات التونسيين إلى الحرية والعدالة والديمقراطية، ثلاثة أشهر تراجعت فيها مؤسسات النظام السابق وفقدت توازنها بعد أن فاجأتها ثورة شعبية غير مسيسة استمدت قوتها من عفويتها وصرخة التونسي في وجه نظام الحيف الاجتماعي والتهميش السياسي.

تخلص المواطن التونسي من سطوة دولة الخوف ومؤسساتها التي كتمت أنفاسه ونجح إلى حد كبير في أن يتسلح بثقافة ثورية اخترقت كل الحواجز التي وضعت للسيطرة على إرادة الناس وتطلعاتهم.

بالتأكيد حصلت خلال أيام الثورة تجاوزات وإخلالات وهو ما اتفق التونسيون على تسميته بـ "الانفلات" على الصعيد الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا أمر طبيعي إلى حد ما يحصل في كل الثورات التي تقوم ضد أشكال الاستبداد.

وبعد مضي أكثر من ستة أشهر على الثورة يمكن أن نقول أن تونس اليوم تنحت ملامح ثقافة الدولة في مرحلة انتقالية دقيقة تحتاج إلى كثير من العقل حتى تتحقق أهداف الثورة من جهة وتستعيد مؤسسات الدولة أداءها ومن ثمة شرعيتها لدى الناس.

ما يميز تونس سياسيا أنها تمتلك مؤسسات دولة عريقة عجز النظام الاستبدادي عن إزاحتها ورغم كل المحاولات صمدت الدولة أمام النظام بل غالبت الصعاب وتصدت بكل جرأة أمام ممارسات المافيا العائلية والمالية، حصل ذلك في المؤسسة القضائية وفي المؤسسة الأمنية وفي المؤسسة العسكرية وحتى في المؤسسات الاقتصادية.

لذلك لم تقم الثورة ضد الدولة بل قامت ضد النظام أي ضد الخيارات والسياسات الفاسدة التي لم تعالج المشاغل الحقيقية للتونسيين ولعل اقوي دليل على ذلك هو أن الثورة لم تنادي بإسقاط الدولة وإنما طالبت بإسقاط النظام ولم تدعو الثورة إلى حل مؤسسات الدولة وإنما دعت إلى ترحيل رموز الاستبداد، بل أكثر من ذلك حصل نوع من التفاعل الإيجابي بين ثقافة الثورة وثقافة الدولة من خلال إنشاء مؤسسات ولجان وهيئات تعمل بالتشاور مع الحكومة المؤقتة رمز الدولة، وهذه خصوصية الثورة في تونس، ثورة تريد استعادة الدولة لأدائها وخدماتها على أساس المواطنة.

وخلال هذه الفترة الانتقالية نجحت الدولة في التعاطي الإيجابي مع أهداف الثورة واستجابت لإرادة الشعب في إعادة صياغة المؤسسات الدستورية من خلال إجراء انتخابات حرة تشارك فيها كل الأحزاب السياسية التي هي وليدة الثورة، قد تكون هناك بعض الإحترازات، وهذا أمر ممكن ومشروع، لكن المراقب للمسار السياسي يلاحظ أن تونس توفقت في إرساء نوع من الإجماع على ضرورة الانتقال الديمقراطي ورسم ملامح دولة المواطنة التي تتساوى فيها حظوظ التونسيين.

لكن المسار الديمقراطي ليس رهن أداء مؤسسات الدولة فقط وإنما هو أيضا رهن دور الفاعلين السياسيين من أحزاب ومنظمات وشخصيات وطنية في نشر ثقافة الدولة التي تبقى الضامن الوحيد لإرادة الشعب، ولا نعني هنا بثقافة الدولة إعادة إنتاج منظومة قيم الاستبداد وإنما نعني صياغة منظومة ثقافة سياسية جديدة وحديثة تستلهم شرعيتها من أهداف الثورة وتؤسس لدولة مدنية شرعية لا يدين التونسي بالولاء إلا إليها.

وإذا أردنا أن نستنطق التاريخ ندرك أن نجاح الثورات تحقق من خلال القدرة على نشر ثقافة ثورية جديدة تدرجت عبر مراحل لتتشكل من خلال مؤسسات دولة الثورة أي الدولة التي قامت على أساس أهداف الثورة.

ونعتقد أن تونس الدولة ذات التاريخ العريق تمثل حالة متميزة في محيطها الجيوسياسي، حالة تسمح بعقلنة الثقافة الثورية لتجعل منها برامج وخطط وسياسات عملية تنفذها مؤسسات الدولة وفق الأولويات الوطنية.

أما استمرار حالات الانفلات الأمني والسياسي والاجتماعي خارج مؤسسات الدولة فإنه يتحول إذا ما استفحل واستشرى إلى ممارسات تهدد الثورة وأهدافها بل تهدد عملية الانتقال الديمقراطي ذاتها، ذلك أن ثقافة الثورة هي مرحلة انتقالية وتمثل حالة ضغط من أجل دفع عجلة التاريخ.

إن مسار الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه تونس في أمس الحاجة اليوم إلى نشر ثقافة الدولة وصياغة ملامح مشروع مجتمعي وطني حديث وديمقراطي، مشروع يؤمن بأن دولة المواطنة هي المؤسسة الوحيدة التي تتحقق في إطارها أهداف الثورة، وأي نزعة ما فوق الدولة أو ما تحت الدولة إنما هي تعبيرة عن غياب الوعي السياسي الوطني بل وجهل أو تجاهل بأن الثورة قامت من أجل دولة المواطنة أولا وأخيرا. 

ميدل ايست اونلاين