تحولات القومية اليمنية
الثلاثاء, 01-يناير-2008
معاذ الأشهبي -  لو أصغيتُم قليلاً لما يقال من حولكم الآن سوف تستنتجون، بالتأكيد، أننا نمتلك أرشيفاً صوتياً لا مثيل له، وأن حياتنا اليومية ومناسباتنا الوطنية تجترّ، باستمرار، الخطابات المعتادة ذاتها كلازمة، أو سمة مميزة، تنفرد بها البلد عن باقي بلدان العالم بامتياز.
أزعم من خلال، وفي هذه المقالة البسيطة، أن الاجترار طريق البلادة، وأن المُجدي بالنسبة لنا، إذا أردنا إعادة الاعتبار لأنفسنا، أن نُعيد اكتشاف من نحن: كأمة وكقومية.

اكتشاف الأمة اليمنية
بسبب الحضارة التي توطنت منذ آلاف السنين في الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، تم تصوير الأمة اليمنية في الطرح القومي التقليدي كأمة غابرة في القدم. وبحسب هذا الطرح، فإن ذروة الحضارة اليمنية كانت ممالك معين وسبأ وحمير، وأن هذه الممالك اكتبست أهميتها في التاريخ الأوسع للشرق الأوسط لأسباب منها: الطرق التجارية الطويلة إلى الهند ودول أعالي البحر الأحمر، ومنها الهجرة التي امتدت عبر البحر الأحمر إلى شرق أفريقيا.
وبظهور الإسلام صار اليمن جزءا من العالمين العربي والإسلامي وساهم عسكرياً في الفتوحات الإسلامية، وثقافياً في الفترة الإسلامية الوسيطة. وابتداءاً من القرن العاشر الميلادي، فلاحقاً، لم يعد اليمن جزءاً من الإمبراطورية الإسلامية الأوسع، وحكمته سلالات متعاقبة، إلى أن وقع، في الفترة الحديثة المبكرة، تحت درجات متفاوتة من النفوذ والسيطرة الخارجيين، حيث تراجع الهولنديون والبرتغاليون في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين أمام العثمانيين، ثم تقاسم العثمانيون والبريطانيون البلد فيما بينهما في القرن التاسع عشر.
غير أن "الأمة اليمنية" عادت إلى الظهور تدريجياً في القرن العشرين، عندما تحدّى الإمام يحيى حميد الدين حكم العثمانيين وبسط سيطرته على شمال اليمن برمته بعد رحيل الأتراك عام 1918، ورغم تحديه للبريطانيين في الجنوب باحتراس، إلا أنه أخذ يرفع من وتيرة مطالبته بـ"اليمن الطبيعي" كله.
وفي أربعينيات القرن العشرين، بدأت تنشأ معارضات سياسية ضد الأئمة في الشمال وضد البريطانيين في الجنوب على السواء؛ سعت الأولى إلى تحرير الشمال من دكتاتورية الأئمة، وجاءت صيغة نقدها بلغة دينية داعية إلى إنهاء الظلم وإلى تحقيق الانبعاث الإسلامي، وكان الهدف إقامة إمامة إسلامية حقاً بقدر ما كان استبدالاً لها. وفي الجنوب بدأت الحركات السياسية في عدن ترفع مطلب التمتع بالحكم الذاتي لعدن نفسها، وكان شعار "عدن للعدنيين" مُوجهاً ضد البريطانيين وضد مجتمع الجنوب والشمال الريفي المحافظ.
وبحلول الخمسينيات وصعود القومية العربية في المنطقة، كانت سياسة حركات المعارضة في الشمال والجنوب على السواء، سياسة قومية، واشتملت ليس فقط على دعم هدف "الوحدة العربية" العام فحسب، بل ودعم "الوحدة اليمنية" أيضاً. ويلاحظ أنه طرأ، أوائل الخمسينيات، تحول على لغة المعارضة اليمنية، حين أعلنت هذه المعارضة تمثيل الشعب اليمني بوصفه جزءاً من الأمة العربية ويطمح في تحقيق الوحدة العربية، وغاب هدف الإمامة الإسلامية الذي كان مرفوعاً في السابق.
ضمّت معارضة الشمال مثقفين ومجموعات سرية من الضباط، وهؤلاء الأخيرون هم الذين أسقطوا الإمامة في أيلول/ سبتمبر 1962، وأعلنوا قيام "الجمهورية العربية اليمنية". وفي الجنوب، انطلقت المعارضة القومية من الحركة النقابية في عدن، وعارضت المشروع البريطاني لإقامة دولة منفصلة في الجنوب يقودها الحكام الريفيون المحافظون (السلاطين). وبعد اندلاع الثورة في الشمال امتدت المعارضة إلى ريف الجنوب ونشأت حركة مسلحة ناشطة، وانقسمت هذه الحركة إلى جناحين: جبهة التحرير "الناصرية"، والجبهة القومية "الماركسية"، وهذه الأخيرة هي التي تسلمت مقاليد السلطة في الجنوب وحكمت تحت تسميات مختلفة حتى اتفاقية الوحدة في عام 1990، ثم هزيمتها في حرب 1994.
في الفترة الواقعة بين 1967، حين استقل الجنوب، و1990، اتخذ النظامان الحاكمان موقفاً قومياً مؤكِّدين موقعهما في العالم العربي وداعين إلى الوحدة اليمنية، غير أن النتائج التي أفرزتها حرب 1994 أجازت القول أن البلاد توحدت من الناحية الفعلية تحت نظام حكم واحد لأول مرة منذ قرون.

القومية اليمنية كخصوصية
تاريخياً وأيديولوجياً، كانت القومية اليمنية، وبصفة عامة، جزءاً من نمط القومية الأوسع في الوطن العربي. لذا كانت لغة النزعة القومية اليمنية وقاموسها، إبتداءاً من خمسينيات القرن الماضي فلاحقاً، هي نفسها لهجة النزعات القومية العربية الأخرى وقاموسها بشكل واضح، وخصوصاً في خطابها الموجه ضد الإمبريالية والصهيونية، وضد أنظمة "البورجوازية الصغيرة" وحلفائها.
غير أن ما يبدو في النزعة القومية اليمنية من اعتماد لغة قومية عربية عامة منسوخة من الخارج، كان يُخفي استعمالاً نمطياً داخلياً. وإذا كانت النزعة القومية اليمنية توصف بأنها انعكاس لتقسيم اليمن إلى دولتين، فقد كانت أيضاً ذات "أصل مزدوج" يعكس اختلاف الظروف في الجنوب والشمال؛ ففي الجنوب كانت النزعة القومية موجهة ضد الحكم الاستعماري البريطاني ومن أجل الاستقلال الوطني، وفي الشمال كانت معادية للحكم المطلق وموجهة ضد نظام الأئمة. لكن هذين الصنفين من النزعة القومية لم يكونا منفصلين تماماً؛ فقد كان لدى الشمال أيضاً عنصر معاد للاستعمار من خلال دعوته لوحدة اليمن وطرد بريطانيا، كما كان لدى الجنوب راديكاليته الاجتماعية التي تعكس الانقسام المحلي بين الحركة القومية والتراتبية السياسية القائمة للسلاطين والزعماء القبليين. وبعبارة أخرى، كان هناك في النزعة القومية اليمنية بُعد معاد للاستعمار ومساواتيٍ سياسياً في الوقت نفسه.
يمكن ملاحظة أن النزعة القومية اليمنية تتميز بـ"راديكاليتها الاجتماعية" واعتناقها لفكرة "الثورة" ضد الحكم الاستعماري وضد النخب السياسية والاجتماعية المحلية. ولهذا كانت "الثورة" في الخطاب السياسي اليمني ثورة "الكادحين" بقدر ما هي ثورة الأمة اليمنية في الوقت نفسه.
وعلاوة على هذا، ميّزت النزعة القومية اليمنية نفسها عن القومية العربية الأوسع؛ ففي الوقت الذي احتضنت فيه هوية البلد الإسلامية، فإن الماضي المستحضر لتسويغ "الأمة اليمنية" في الخطاب القومي اليمني كان يبدأ بحضارات ما قبل الإسلام. ولهذا فإن مفهوم "الجاهلية" الذي يصف الفترة السابقة على ظهور الإسلام، بوصفها فترة "جهل"، لم يكن مقبولاً عند اليمنيين.
وميزت النزعة القومية اليمنية نفسها أيضاًُ في أنها لم تكن موجهة فحسب ضد السيطرة الاستعمارية البريطانية وقبلها العثمانية، بل وأيضاً ضد "كيان مجاور" اعتبرته النزعة القومية اليمنية "كياناً متعارضاً"، وعُدَّ في خطاب هذه النزعة "العدو القومي" الرئيسي لليمن. ومع هذا، لم تُرفض الهوية العربية في خطاب القومية اليمنية بأي معنى، كما لم يُطعن بها صراحة، لكن البُعد اليمني أصبح يُعطى في هذا الخطاب أهمية مركزية أكبر.
وفوق هذا بوسعنا، ومن خلال ما سبق، أن نرى في النزعة القومية اليمنية تراكب عناصر يمكن العثور عليها في نزعات قومية شرق أوسطية أخرى: ما قبل إسلامية، إسلامية، عربية، عالم ثالثية، محلية هي في هذه الحالة يمنية وتجتمع بشكل متكافل. ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن تاريخ الكتب المدرسية اليمنية يؤكد وجود "شعب" في زمن متواصل ومن دون أي خصائص تقسيمية، عمل على خلق اليمن الحديث. غير أن البيانات أو الإعلانات الدولتية في اليمن دأبت، وباستمرار، على توظيف كل عنصر من العناصر الأربعة [ما قبل إسلامية، إسلامية، عربية، عالم ثالثية] من أجل تأكيد وجود "أمة يمنية" تاريخية طبيعية مع تشديد متغير يعكس تغيّر الظروف؛ فحين يواجه اليمن نزاعاً مع المملكة السعودية، مثلاً، يكون من المعهود التوجه إلى "أبناء سبأ وحمير"، وحين يستجيب السياسيون اليمنيون للأحداث في فلسطين المحتلة أو العراق أو الخليج يُسلط الضوء على "عروبتهم"، وفي المقابل، يجري في أوقات التقارب مع السعودية، ككيان مجاور، التشديد على الأخوة الإسلامية ومساهمة اليمن في الإسلام، وهكذا.
وختاماً، لابد من التأكيد على أن النزعة القومية مبدأ يعتقد أساساً أن الوحدتين السياسية والقومية ينبغي أن تكونا متطابقتين، وهذا المبدأ يقتضي ضمناً أن الواجب السياسي لليمنيين إزاء الدولة التي تضم وتمثل "الأمة اليمنية" يطغى على الالتزامات العمومية الأخرى كافة، وفي الحالات القصوى، كالحروب، يطغى على الالتزامات الأخرى كافة مهما يكن نوعها. إن الغاية من الحديث عن القومية اليمنية ليست تأكيد وجود "الأمة اليمنية" أو إثبات "نهضتها" أو "استيقاظها"؛ بل التنويه بالمتغيرات العالمية والمحلية التي تضافرت لإنتاج حركة قومية يمنية وخطاب قومي يمني.

إحالة مرجعية
اتكأت هذه المقالة، بدرجة كبيرة، على التحليل العميق الذي أورده فريد هاليداي في كتابه "الأمة والدين في الشرق الأوسط" الصادر عام 2000، ونشرت ترجمته العربية دار الساقي (لندن- بيروت) في العام نفسه. كما استأنست أكثر من مرة بأفكار كل من: إيرنست غيلنر الواردة في كتابه "الأمم والقومية"، وإريك هوبسباوم الواردة في كتابه "الأمم والنزعة القومية"، والصادرين عن دار المدى بدمشق عام 1999.