رواية تمويل دولي وارتباط الدولار
الخميس, 10-مارس-2011
محمد بن ناصر الجديد -

فجوات السياسة المالية كفيلة بتغيير حالة اقتصاد وطني طموح من مرحلة نهضة تنموية شاملة إلى مرحلة ركود اقتصادي عام في غضون سنوات قليلة. تلك هي تجربة الاقتصاد الأرجنتيني خلال عقد التسعينيات الميلادية من القرن الماضي.

تحمل تجربة الاقتصاد الأرجنتيني خلال التسعينيات الميلادية من القرن الماضي في طياتها العديد من الفوائد حول جدوى الآليات المالية في نمو واستدامة الاقتصادات الوطنية. شهدت الأرجنتين خلال تلك الفترة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
عزيت أسباب النهضة التنموية الشاملة إلى عدة عوامل رئيسة، من أهمهما برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي قاد تنفيذه الرئيس الأرجنتيني خلال تلك الفترة الزمنية، كارلوس منعم ووزير ماليته دومنجو كفالو.

ارتكز برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل هذا على أربع سياسات مالية رئيسة. الأولى ربط العملة النقدية البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي عند مستوى متساو، بيسو أرجنتيني يساوي دولارا أمريكيا واحدا. والثانية إنشاء مجلس اقتصادي تحت اسم مجلس العملة النقدية ليتولى بموجبه تنفيذ جميع المهام الإشرافية والتنفيذية ذات العلاقة بالارتباط بالدولار الأمريكي. والثالثة فتح الاقتصاد الأرجنتيني أمام الاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية. والرابعة تخصيص مجموعة كبيرة من المؤسسات والشركات الأرجنتينية العامة.

دخل برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل حيز التنفيذ بداية التسعينيات الميلادية من القرن الماضي. سرعان ما أتت ثمار البرنامج أكلها عندما بدأ الاقتصاد الأرجنتيني الدخول في مرحلة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. من أهم مؤشرات هذه النهضة التنموية، أولا، انخفاض معدل التضخم بعد أن شكل خلال الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي معضلة أمام نمو الاقتصاد الأرجنتيني. وثانيا زيادة وتيرة تدفق الاستثمار الأجنبي إلى الاقتصاد الأرجنتيني. وثالثا تسجيل الاقتصاد الأرجنتيني معدل نمو سنوي قارب 5.7 في المائة، كأعلى نسبة نمو اقتصادي بين اقتصاديات أمريكا اللاتينية خلال تلك الفترة الزمنية.

تزامنت هذه النهضة التنموية مع ثلاثة تطورات في السياسة المالية الأرجنتينية. الأول التوسع في الإنفاق الحكومي على مشاريع تطوير البنى التحتية والطاقة والاتصالات دون رفع نسب الضرائب. والثاني الاعتماد على المصارف الأرجنتينية لتمويل مشاريع الإنفاق الحكومي قبل وضع حدود ائتمانية. والثالث افتراض أن النهضة التنموية الحاصلة من النوع المستديم عوضا عن المؤقت دون وضع سياسة إدارة مخاطر مالية لتفادي العواقب عند حدوث عكس المفترض.
استمرت هذه النهضة التنموية حتى 1996 قبل أن تحد من درجة نموها وتدخل الاقتصاد الأرجنتيني في دوامة ركود اقتصادي حتى 2002. ستة أعوام من الركود الاقتصادي فترة زمنية كافية للقضاء على اليابس ناهيك عن الأخضر في اقتصاد طموح متوسط الحجم والمتانة كالاقتصاد الأرجنتيني.

كما عزيت أسباب النهضة التنموية إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي قاد تنفيذه الرئيس الأرجنتيني خلال تلك الفترة الزمنية كارلوس منعم ووزير ماليته دومنجو كفالو، عزيت أسباب الركود الاقتصادي أيضا إلى البرنامج ذاته بسبب وجود ثلاث فجوات منطقية.

الفجوة الأولى منهجية مجلس العملة النقدية الإشرافية والتنفيذية في إدارة ارتباط البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي. والفجوة الثانية تراجع قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات العالمية الأخرى. والفجوة الثالثة تواضع التنسيق التجاري البيني مع جارة الأرجنتين وشريكها التجاري الرئيس البرازيل.

وضعت هذه الفجوات الثلاث برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الأرجنتيني أمام تحديين. الأول بلوغ الحكومة الأرجنتينية حدها الائتماني لدى المصارف الأرجنتينية بسبب استنفاذ هذا الحد في تمويل برنامج التوسع في الإنفاق الحكومي. والثاني امتداد للتحدي الأول المتمثل في عدم تجاوب المصارف الأجنبية لتوفير التمويل اللازم لدعم الصادرات الأرجنتينية للأسواق العالمية.

انعكست هذه التحديات الاقتصادية بالسلب على ثقة المواطن الأرجنتيني والمستثمر الأجنبي بمتانة الاقتصاد الأرجنتيني، فبدأ المواطن الأرجنتيني حملة تحويل ما يقرب من 15 مليار دولار أمريكي من سيولته في المصارف الأرجنتينية إلى مصارف خارجية أكثر أمنا، مهددا بهذا التحويل مستوى السيولة النقدية في المصارف الأرجنتينية. وبدأ في الوقت ذاته المستثمر الأجنبي في تحويل استثماراته من الاقتصاد الأرجنتيني إلى اقتصادات أخرى أكثر تنافسية، مهددا بهذا التحويل مستوى البطالة.

شكل هذان السلوكان من المواطن الأرجنتيني والمستثمر الأجنبي تحديا ثالثا أمام برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الأرجنتيني. تمثل التحدي في توقف برنامج معالجة الدين العام والمقر مسبقا بالتنسيق مع المصارف الأرجنتينية بسبب عدم وجود السيولة الكافية.
لم تجد الحكومة الأرجنتينية أمام هذه التحديات الثلاثة سوى إقرار سياستين ماليتين جديدتين. الأولى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لترتيب تمويل مناسب يساعدها على مواجهة هذه التحديات. حصلت الأرجنتين نهاية 2001 على تمويل بقيمة 14 مليار دولار أمريكي من صندوق النقد الدولي شريطة أن تخفض الإنفاق الحكومي على مشاريع تطوير البنى التحتية والطاقة والاتصالات مع إعادة النظر في معدلات الضرائب. والسياسة الثانية تعليق عمل مجلس العملة وفك ارتباط البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي.

انعكست هاتان السياستان في المدى القصير على مستوى معيشة المواطن الأرجنتيني مطلع 2002. فسجلت السلع ارتفاعا ملحوظا وصل قرابة 40 في المائة، وزاد معدل البطالة حتى قارب 25 في المائة، و بلغ الدين العام 155 مليار دولار أمريكي، وانخفضت قيمة البيسو الأرجنتيني إلى 3.5 مقابل الدولار الأمريكي الواحد بعد أن كانت تساوي بيسو أرجنتينيا واحدا فترة التسعينيات الميلادية من القرن الماضي.

يعيش الاقتصاد الأرجنتيني هذه الأيام مرحلة نقاهة تبدو كأنها مرحلة نمو جديدة بعد أن اجتاز بصعوبة مرحلة ركود اقتصادي استمرت أربعة أعوام كانت كفيلة بالقضاء على اليابس، ناهيك عن الأخضر. فتحسنت قيمة البيسو الأرجنتيني إلى ثلاثة مقابل الدولار الأمريكي الواحد، ونما مستوى الصادرات على حساب الواردات الأرجنتينية، وتراجع معدل البطالة إلى 18 في المائة، وعاد ثقة المواطن الأرجنتيني والمستثمر الأجنبي بمتانة الاقتصاد الأرجنتيني.

تحمل تجربة برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الأرجنتيني وانعكاساتها على طبيعة نمو الاقتصاد الأرجنتيني خلال عقد التسعينيات الميلادية من القرن الماضي في طياتها العديد من الدروس والعبر في أهمية التنسيق الفعال ضمن منظومة الاقتصاد المحلي بين السياسات المالية الرئيسة على المستويات: المحلي، الإقليمي، والدولي.

*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.