دروس مستفادة من الأزمة المالية
السبت, 25-ديسمبر-2010
د . لويس حبيقة -

الأزمة المالية العالمية التي بدأت عملياً في سنة ،2007 بقوة وزخم في السنة التالية، تحتفل اليوم فعلياً بعيدها الثالث، هي تتنقل بين دولة وأخرى ومنطقة وأخرى مع معالم جديدة لا تقل خطورة عن السابق . ارتكزت الأزمة على عوامل ثلاثة زادت من خطورتها وسرعت السقوط، هي أولاً سوء إدارة الأدوات المالية الجديدة من قبل عملاء السوق الذين كانوا يجهلون فعلاً ماذا يتبادلون . أضاف هذا الواقع الى مخاطر الأسواق المالية في غياب تشريعات حديثة مناسبة ليس فقط في “وول ستريت”، وإنما دولياً أيضاً . ثانياً، كان للارتفاع غير الطبيعي لقيمة الأصول العقارية وغيرها على مدى عقدين من الزمن ثم سقوطها بشكل كبير وسريع تأثير كبير على صحة الأسواق المالية الحقيقية .

نتج عن هذا السقوط ليس فقط انحدار مؤشرات الأسواق المالية وتقلب أسعار صرف النقد، وانما أيضاً ركود قوي وبطالة مقلقة في معظم الاقتصادات الناضجة . أما العامل الثالث الذي لا يقل خطورة، بل عمق الأزمة، فهو تدهور ميزانيات المؤسسات المالية من مصارف وشركات تأمين وغيرها بسبب سوء الإدارة والتهور في الاقراض والاستثمار . ضربت هذه الركائز الثلاث ثقة المستهلك والمستثمر بالاقتصادات والمؤسسات والأسواق، مما يعيق فعلياً عملية النهوض، على الرغم من الضخ المالي الكبير المستمر في بعض الدول .


يبقى الاقتصاد الأمريكي مريضاً على الرغم من كل الجهود التي بذلها ويبذلها الرئيس أوباما، ليس فقط بسبب عمق الأزمة وإنما أيضاً بسبب المحاربة السياسية له من ضمن بلاده . بلغت نسبة النمو في الفصل الثاني من هذه السنة 6،1%، بينما كانت التوقعات تشير إلى 4،2%، وذلك مقارنة ب 7،3% للفصل الأول، و 5% للفصل الأخير من السنة الماضية، مما يشير إلى تراجع مؤكد في الحركة الاقتصادية . فالرئيس حدد منذ بداية عهده 5 أولويات قطاعية عمل على تعزيزها في الانفاق والتشريعات، وهي الصحة والطاقة والتعليم والبنية التحتية وشبكات الأمان . لهذه القطاعات تأثير كبير ليس فقط مباشرة على القطاع الحقيقي والاستثمارات، وإنما خاصة وبطرق غير مباشرة على الأسواق المالية والنقدية .


القطاع الصحي من أكبر القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة ويبلغ حجم أعماله 3،2 ألف مليار دولار أو نحو 16% من الناتج المحلي الاجمالي . وأشارت التوقعات إلى بلوغه 4 آلاف مليار أو 20% من الناتج في حدود سنة 2015 . مع قانون الإصلاح الصحي الذي أقرته أخيراً السلطات التشريعية، وأصبح قانوناً بعد توقيع الرئيس أوباما عليه، من الممكن ألا تتفاقم الأرقام كما ذكرنا . هدف القانون الجديد إلى ضبط التكلفة المتفاقمة ورفع مستوى حماية المريض والحفاظ على الكفاءات العلمية الكبيرة في الطب والصحة عموماً، كما إلى تعزيز ثقة المريض بنوعية وصوابية التقديمات والعلاجات الصحية . يحاول القانون الجديد إضافة بعض معالم الإنسانية والأخلاق إلى قطاع صحي سيطر عليه الجشع وعقلية الأعمال والصفقات خلال عقود طويلة . فالنزاع على الصحة ليس فقط نزاعاً أخلاقياً وإنسانياً، وإنما هو نزاع مالي اقتصادي تتجاذبه المليارات والمصالح والسياسة .


خلال الأزمة التي نشأت من القطاع المصرفي، تم تحديد معايير علمية جديدة تستطيع تقييم صحة ومناعة ميزانيات المصارف المتعثرة مع الأزمة وبسببها . هنالك 91 مصرفاً أوروبياً و19 مصرفاً أمريكياً خضعت لهذا الفحص العلمي . كانت نسبة النجاح أعلى في أمريكا بسبب وجود مركزية إدارية وقانونية في القطاع المالي، بينما تبقى القواعد والإجراءات والقوانين وطنية بمعظمها في أوروبا . هنالك تقدم كبير من ناحية توحيد المعايير والقواعد والمؤسسات الرسمية، إلا أن الطريق ما زالت طويلة في أوروبا كي تبلغ درجة الفعالية الأمريكية . أما في السياسات الاقتصادية العامة، فاستطاعت أوروبا وأمريكا السيطرة على التضخم لتبقيه في حدود 5،1% في كل منها، على الرغم من الانفلاش المقصود في السياستين المالية والنقدية . فالضخ المالي المباشر معروف، إلا أن العامل الآخر المهم هو قيام المصارف المركزية بشراء سندات خزينة في الأسواق، كي تضخ النقد تسهيلاً لنمو الكتلة النقدية مما يوفر السيولة في الأسواق .


أما الاقتصاد الناضج الأكثر تعثراً اليوم فهو الياباني، وهذا من أهم أسباب تغيير الحكومات فيه . فمعالم الأزمة الجديدة هي إصابة الاقتصاد الياباني بعد تعثر الاقتصادات الأمريكية والأوروبية . فبعد ركود قوي في سنة ،2009 أي تطور سلبي للناتج بلغ 2،5%، بدأ النمو يقوى في الفصل الأول من هذه السنة ليصل إلى 5% وإلى متوقع قدره 4،2% لكل سنة ،2010 و 8،1% لسنة ،2011 بسبب انعكاس القطاع الخارجي على الاقتصاد الداخلي، كما بسبب الضخ المالي السخي . ارتفع الطلب من آسيا على السلع اليابانية، كما أسهم الدعم لبعض السلع “المعمرة” في زيادة استهلاكها . أما اليوم فمن المتوقع أن ينتقل فجأة إلى مرحلة الانكماش المؤذية، أي التضخم السلبي المرفق بارتفاع سعر صرف الين تجاه الدولار، مما يؤذي الصادرات التي يعتمد عليها كثيراً الاقتصاد الياباني . انخفض فائض ميزان الحساب الجاري إلى 8،2% من الناتج، بينما يبقى فائض الميزان التجاري في حدود 1% . يبلغ عجز الموازنة نسبة 8،9% من الناتج، مما ينعكس ارتفاعاً في نسبة الدين العام التي تصل إلى حدود 110% من الناتج، أي من الأعلى في الدول الصناعية . أما الأسواق المالية، فتأثرت سلباً بسبب ضعف ثقة المستثمرين بالاقتصاد وبسبب زيادة المخاطر التي تحصل في أوضاع مماثلة . فالاقتصاد الياباني يقع اليوم في وضع لا يحسد عليه تزيده خطورة التقلبات السياسية والإدارية .

ما الحلول الممكن تطبيقها؟ أو بالأحرى ما الدروس التي يمكن تعلمها حتى اليوم إذ إن الأزمة لم تنته بعد؟

أولاً: لا يمكن تحقيق الاستقرار المالي إلا عبر سياسات عامة متوازنة ومنطقية . فالسياسات المالية والنقدية يجب أن تبقى محافظة بحيث لا تفتعل التضخم أو الانكماش . في أوقات ماضية، تم استعمال هذه السياسات في وظائف خاطئة ومضرة . من المعايير الأساسية التي يجري اليوم تعديلها معايير “بازل”، حيث من المطلوب زيادة احتياطي رأسمال المصارف بنسبة 3 أضعاف . من المتوقع أن يتم إقرار هذه التعديلات في اجتماع كوريا الجنوبية لدول العشرين في آخر هذه السنة . لو وجد هذا الاحتياطي خلال السنتين الماضيتين لكان التأثير العام للأزمة أقل بكثير . أما قانون الأسواق المالية الذي أصدره الرئيس أوباما، فله ميزات كبيرة أهمها خلق مؤسسة لحماية المستهلك ،بحيث لا يستغل من قبل الشركات المالية .

ثانياً: من الضروري أن يبقى استقرار الأسعار هدف السياسة النقدية بحيث يقتنع به المواطن ويدخل في توقعاته . هنالك مصداقية تجاه سياسات المصارف المركزية الأساسية أسهمت في وضع بعض الحدود للسقوط الاقتصادي العام . من الأمور المرتبطة بصدقية السياسات العامة الشفافية، بحيث لا تستعمل المصارف الأموال العامة المقرضة إليها لإعطاء منافع سخية لمديريها أو للقيام مجدداً بالاقراض المتهور . يجب أن تشكل الأزمة درساً للمستقبل بحيث لا يغامر المقرضون والمقترضون بأموال المودعين أو حتى بأموال دافعي الضرائب . لا شك كان للفساد على طريقة “مادوف” وغيره دور أساسي في تعميق الأزمة وضرب الثقة .

ثالثاً: تشير التجربة إلى ضرورة وجود إدارة مركزية عالمية لأزمة من هذا النوع . لم يكن صندوق النقد قادراً في بداية الأزمة على لعب هذا الدور، إلا أن الموارد المالية والصلاحيات التي أعطيت له لاحقاً سمحت له بتخفيف الخسائر وستسمح له مستقبلاً بتقديم نتائج أجدى وأقوى . إن وجود صندوق نقد قوي ينسق بين المصارف المركزية الرئيسة في السياسات والأسواق مهم جداً لتقوية النتائج الجيدة المشتركة . 






*عن صحيفة" الخليج" الاماراتية