التضخم .. اختلاط الحقائق بالأوهام
الثلاثاء, 21-ديسمبر-2010
صالح السلطان -

التضخم، (المعبر عنه بالإنجليزية بكلمة inflation)، يعني الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، أو بعبارة مكافئة: الانخفاض المستمر في قيمة النقود. وبعبارة ثالثة لدينا فلوس كثيرة تطارد سلعا قليلة. لا يمكن أن يحدث التضخم دون ذلك، ويجب أن يكون ذلك معلوما من البداية.

يخلط بعض الناس بين معنى التضخم والأسباب المحتملة في تفسير نشأته من جهة، وبين مظاهر التضخم التي نراها من جهة أخرى، التي هي في حقيقتها جزء أو مكون محتمل من مكوناته، وليست سببا في أصل نشوئه. قلة من الناس تقول كلاما دقيقا يدل على أنها تفهم التضخم على حقيقته.

لنأخذ العبارات التالية التي سمعتها وقرأتها كثيرا:

1 ـــ ارتفاع الإيجارات (أو أسعار كذا) سبب من أسباب التضخم.

2 ـــ زيادة السكان سبب من أسباب التضخم.

3 ـــ الغلاء عالمي ولا علاقة له بالازدهار.

4 ـــ ارتفاع أسعار النفط سبب التضخم.

5 ـــ لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب على التضخم.

6. ـــ مصدر التضخم في السنوات الأخيرة جشع التجار.

العبارة الأولى تحتاج إلى تفصيل. مبدئيا العبارة تعلل الشيء بنفسه أو بجزء منه، وكأنها تقول الغلاء (للإيجارات مثلا) من أسباب الغلاء! ارتفاع الإيجارات (أو أسعار المواد الغذائية، أو.... إلخ) هو جزء من مكونات التضخم، ولكنه ليس سببا في نشوء أصل التضخم، إذا أردنا الدقة في التعبير. ولكن لنا أن نقول إن ارتفاع الإيجارات وسيط لانتقال التضخم، أي أن هناك ما تسبب في زيادة الإيجارات، وزيادة الإيجارات بدورها زادت من تكلفة أسعار وخدمات كثيرة، ورفع سعر التكلفة رفع أسعار تلك السلع والخدمات وهكذا نعيش في حلقة أسباب مترابطة، ولكن بداية الحلقة والسبب الأول في نشأة التضخم ليس الإيجارات.

بعض الناس ستعزو أصل ارتفاع الإيجارات إلى جشع المؤجرين. هذا تبسيط مخل، وكأنه يفترض أن الجشع شيء جديد. الجشع يجري في عروق البشر مجرى الدم منذ أن خلقوا، فما الذي استجد، وهيأ الفرصة للمؤجر (أو التاجر أو مالك السلعة) أن يرفع الإيجار (أو أسعار الأراضي أو غيرها) الآن وليس سابقا؟ قبل عشر سنوات مثلا؟ تأملوا في تعريف التضخم لتسهيل معرفة الجواب. ولا ننسى أن الأمر نسبي، مثلا الإيجارات قبل عشر سنوات أعلى كثيرا من الإيجارات قبل 40 عاما مثلا، والإيجارات قبل 40 عاما أعلى من الإيجارات قبل 70 عاما ... وهكذا.

العبارة الثانية غير دقيقة لأن تزايد السكان لا يعني بالضرورة حصول غلاء، وإلا لكانت أكثر الدول ازدحاما هي أكثرها غلاء. قد يزيد عدد السكان دون أن ترتفع الدخول، تماما مثل أن يزيد عدد أفراد الأسرة دون أن يزيد دخلها ريالا واحدا، والنتيجة أن دخل الفرد انخفض، أما المستوى العام للأسعار فيبقى على حاله.

قد تتسبب زيادة السكان في تغيير الأسعار النسبية. مثلا، إذا بقي الدخل على حاله، ولكن زيادة السكان تعني في الغالب أن الطلب على الإسكان يزيد، وتزيد الإيجارات، ولكن ليس المستوى العام للأسعار (أي لا يكون هناك تضخم)، وإنما إعادة توزيع لموارد الناس بين أوجه الإنفاق، فيزيد ما ينفق على السكن، مقابل خفض الإنفاق على غيره.

العبارة الثالثة غير دقيقة، وفيها تضليل. لو قلنا هناك غلاء في الدول ـــ الصين والهند على سبيل المثال ـــ فالسؤال: لماذا حدث الغلاء في هاتين الدولتين؟

سيقال الازدهار الاقتصادي في الصين والهند جر إلى حصول تضخم فيهما. السؤال التالي: هل علاقة الازدهار الاقتصادي بالتضخم مخصوصة فقط بدول دون دول؟ طبعا لا.

العبارة الرابعة التي ترجع التضخم إلى ارتفاع أسعار النفط تشبه العبارة الأولى، ومن ثم يمكن تطبيق الشرح نفسه. وبعبارة أخرى، تتجاهل العبارة سؤالا مهما وهو: لماذا ارتفعت أسعار النفط أصلا؟

وأما العبارة التالية القائلة إنه لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب على التضخم فعبارة مجملة غير دقيقة. قد تؤثر وقد لا تؤثر، وقد لا يكون الجواب مؤكدا، وعموما الأمر أكثر صعوبة مما يتبادر إلى أذهان كثيرين. ولكن في حالة أن الدخل زاد زيادة كبيرة، قل مثلا بنسبة 40 في المائة، وتحول هذا الدخل إلى طلب أي أنفق هذا الدخل، وبقي المعروض من السلع والخدمات دون تغيير، فإن ارتفاع الأسعار أمر حتمي. وإلا فإنه سيتبادر إلى الذهن سؤال منطقي: أين ذهبت أو تذهب الزيادة في الإنفاق رغم شح المعروض؟ واقعا ليس من الضروري أن ترتفع الأسعار بنسبة ارتفاع الدخل نفسه، لوجود اعتبارات كثيرة. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك ٍأي فائدة من تزايد مستوى الأجور في الدول، ولتساوت الدول في مستويات المعيشة. ولذا لا يكفي النقاش النظري وحده للتعرف على التأثير، بل لا بد من أن يدعم بتطبيق كمي قياسي.

وأخيرا يخلط بعض الناس بين التضخم والجشع. شعرنا بارتفاع الأسعار بوضوح خلال السنوات الأخيرة، ولكن الجشع ليس بجديد بل يجري في ابن آدم مجرى الدم، والممارسات الجشعية موجودة باستمرار، أما التضخم فليس موجودا باستمرار، وقد يجتمعان (التضخم والجشع) وقد لا يجتمعان. ومن ثم لا ارتباط مباشرا بينها وحصول موجة تضخمية بعينها. أي أن الجشع لا يعني بالضرورة حدوث تضخم، وفي هذه الحالة تكون المسألة انتقال موارد من طرف إلى طرف في المجتمع نفسه دون ارتفاع المستوى العام للأسعار. 





*نقلا عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية.