ويكيليكس والإعلام الجديد
الخميس, 09-ديسمبر-2010
بقلم: د‏.‏محمد شومان -
أثار نشر موقع ويكيليكس مئات الألوف من الوثائق السرية لوزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية موجة واسعة من الجدل والنقاش من غير المتوقع أن تنتهي قريبا أو تصل إلي اتفاق نظرا لأنها تتعلق بقضايا ذات طبيعة إشكالية معقدة ومن أكثر من زاوية‏.‏

الزاوية الأولي تتعلق بسرية الوثائق الرسمية في العصر الرقمي ومجتمع الشبكات الذي تتراجع فيه القيود بين السري والعلني‏,‏ وتضيق فيه الفروق بين المحلي والدولي‏,‏ وبين النخب المعولمة‏,‏ خاصة النخب التي تحكم العالم وبين الجماهير العادية التي يمكن لها عبر المجتمع الشبكي‏,‏ وفي ظل مجتمع المعلومات أن تصل إلي معلومات سرية‏,‏ وتنشرها علي أوسع نطاق وبحيث تتاح لكل البشر معرفة حقائق عالم السياسة والحكم‏.‏ ولا شك أن الوصول إلي مئات الألوف من الوثائق السرية لوزارتي الدفاع والخارجية لأقوي دولة في العالم ونشرها‏,‏ يهزأ من هذه القوة ويظهرها كدولة ضعيفة‏,‏ كما يهدد سلطة النخب الحاكمة والدبلوماسية العالمية حول العالم التي تتحصن تاريخيا بسلسلة من القوانين والأعراف الدولية‏,‏ لذلك أثيرت طائفة من الإشكاليات القانونية حول حق ملكية ونشر الوثائق والمسئولية القانونية‏,‏ هل هي من حق الحكومات أم من حق الحكومة الأمريكية فقط؟ أم من حق المواطنين الأمريكيين‏,‏ وبالتالي فإن المنطق والقانون لا يحمي سعي غير الأمريكيين للاطلاع علي هذه الوثائق ونشرها‏.‏
والإشكالية هنا أننا بصدد مفهوم جديد للمواطنة في العصر الرقمي وفي ظل مجتمع الشبكات‏,‏ مواطنه معولمة عابرة للجنسيات‏,‏ حيث تتيح تكنولوجيا الاتصال أن تتعدد اهتمامات مواطن دولة ما‏,‏ ومشاركاته عبر الانترنت لتشمل العالم بأسره‏.‏ أو قضايا سياسية وحقوقية وبيئية في أماكن تبعد عنه لآلاف الأميال لكنها قريبة منه للغاية وتؤثر في حياته ومستقبل أولاده‏.‏ ويجسد موقع ويكيليكس مفهوم المواطنة المعولمة فقد انطلق الموقع من خلال حوار وتعاون مجموعة من نشطاء الانترنت من مختلف دول العالم‏.‏
الأمر الذي يطرح إشكالية ربما تذكر بما يثار حول حدود السيادة الوطنية في ظل العولمة بمعني أنه إذا كانت الولايات المتحدة‏,‏ وغيرها من الدول قد استخدمت حق التدخل في الشئون الداخلية لبعض الدول لأغراض إنسانية أو دفاعا عن حقوق الإنسان والديمقراطية كما حدث في الصومال والعراق‏,‏ فإن من حق مواطني الدول الأخري التدخل في الشئون الأمريكية دفاعا عن حقوق الإأنسان ومن بينها حق الاتصال وحق المعرفة‏.‏ كما أن من حقهم الاطلاع علي وثائق أمريكية لكنها تتعلق بأحوال العالم الذي أصبح قرية واحدة في ظل العولمة‏.‏
الزاوية الثانية ترتبط بالتوازن بين حق الجمهور في معرفة دهاليز السياسة والحرب وأسرار الدبلوماسية‏,‏ وبين حماية مصالح الدول وأمنها القومي‏,‏ فوثائق ويكيليكس قد تتضمن معلومات من شأنها تهديد الأمن القومي أو حياة الجنود في أرض المعارك‏.‏ وقد استخدمت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها هذه الحجة علي نطاق واسع لمنع النشر دون جدوي‏,‏ لكن من المتوقع ومن هذا المنظور أن تقاضي ويكيليكس قانونيا ومهنيا‏.‏ والإشكالية هنا أن مفهوم الأمن القومي يتسم بالغموض وعدم التحديد في كثير من الحالات‏,‏ وقد يساء توظيفه كما حدث في الولايات المتحدة أثناء التمهيد لغزو العراق‏.‏ كما أن هناك من يدافع ومن داخل أمريكا عن حق الجمهور في معرفة الحقائق والمعلومات‏,‏ وعن ضمان حرية الرأي والتعبير في وسائل الإعلام بما فيها وسائل الإعلام الجديد‏.‏ الزاوية الثالثة تتعامل مع تسريبات ويكيليكس وفلسفة هذا الموقع وفي أسلوب تمويله وإدارته باعتباره شكلا واعدا‏,‏ ومخيفا في الوقت ذاته من الإعلام الجديد‏,‏ وتحديدا إعلام المواطن‏,‏ الذي يعتمد علي الانترنت والاندماج بين وسائل الاتصال والوسائط المتعددة‏.‏ وقد شجع هذا الاندماج علي تطوير ما يعرف بإعلام المواطن الذي يعتمد علي مساهمات المواطنين في إنتاج وتداول الأخبار والمعلومات والآراء‏,‏ عبر مواقع الانترنت والمدونات وشبكات التفاعل الاجتماعي وهواتف المحمول‏,‏ لكن هناك إشكاليات نظرية وعملية فيما يتعلق بدقة ومصداقية كثير مما يقدمه إعلام المواطن علاوة علي عدم احترام الخصوصية وانتهاك حقوق النشر‏.‏
ومع ذلك عندما حصل الموقع علي مئات الألوف من الوثائق لم يتردد في حماية سرية المصدر الذي زوده بها‏,‏ كما لم يكشف عن الطريقة التي امتلك بها الوثائق رغم كثرة الضغوط والإغراءات التي تعرض لها‏.‏ وأعتقد أن ثقة الموقع في المصدر أو المصادر التي زودته بالوثائق‏,‏ وإصراره علي النشر يكشف عن أهم سمات إعلام المواطن‏,‏ حيث لا يسعي هذا الإعلام لتحقيق الربح‏,‏ ولا يتخذ أشكالا مؤسسية ضخمة‏,‏ قد تعيقه عن التحرك السريع وتحقيق السبق‏,‏ وتضعف مناعته في مواجهة ضغوط الحكومة ورأس المال والأعلانات‏.‏
الزاوية الرابعة تتطلع إلي المستقبل وتثير كثيرا من التساؤلات والتحديات وربما الشكوك في مستقبل إعلام المواطن‏,‏ فإذا كان موقع ويكيليكس قد نجح في نشر وثائق رسمية لم تجرؤ الإدارة الأمريكية علي تكذيبها‏,‏ كما تمكن من نشر كم هائل من الوثائق كان من المستحيل علميا لوسائل الإعلام التقليدية نشرها‏,‏ وإتاحتها بالمجان فإن التحدي الذي يواجه الموقع في المستقبل بل وإعلام المواطن عموما هو كيف يمكن ضمان الاستمرار في الحصول علي الأخبار والمعلومات الصحيحة ونشرها‏,‏ وهل يمكن للإعلام الجديد أن ينأي بنفسه عن الفضائح والتسريبات وأحاديث النميمة والمشاهد المصورة التي تعتمد الطرافة أو الغرابة‏,‏ وهل بمقدور الإعلام الجديد التخلي عن مبدأ الصدفة في العمل الإعلامي‏,‏ ويتحول إلي المتابعة الجادة والمنتظمة للأحداث وأعلاء القيم المهنية في العمل الإعلامي التي استقرت عليها صناعة الإعلام وتقوم بتدريسه معاهد وكليات الإعلام؟
هل يمكن أن يحدث هذا التحول؟ ومتي ؟ وإذا تحقق هذا التحول هل يفقد إعلام المواطن هويته ويصبح صورة مكررة وباهتة مما تقدمه وسائل الإعلام الكبري‏,‏ أم أن هناك طرقا أخري بديلة يمكن من خلالها تطوير أداء إعلام المواطن بحيث يتشارك ويتعاون مع وسائل الإعلام التقليدية في دعم حرية الإعلام وحق الجمهور في المعرفة مع احتفاظ كل منهما بالمميزات التي يتمتع بها‏.‏ مع إدخال بعض التعديلات والتطوير في أداء الطرفين وطرق عملهم‏,‏ وبحيث يبقي للمؤسسات الإعلامية التقليدية والإعلاميين تخصصهم وتفردهم كممارسين محترفين لمهنة سامية‏,‏ ويحتفظ إعلام المواطن ببساطته وانخفاض تكلفته وحريته الواسعة‏.‏
المصدر: صحيفة الاهرام