السودان وجنوب السودان: عن ديمقراطية الغالب والمغلوب
الخميس, 09-ديسمبر-2010
بقلم: فيصل جلول -

تلحق بعض التقنيات الديمقراطية أضرارا جسيمة في دول واقعة خارج المنظومة الغربية الغالبة بل تكاد هذه الأضرار أن تكون مميتة في بلدان مغلوبة حديثة العهد أو مصممة على الضد من رغبة قسم كبير من سكانها وطموحاتهم. فالاستفتاء وهو تقنية ديمقراطية تعتمد في الدول الغربية للمصادقة على معاهدة أو لتشريع قانون مصيري أو لنزع الثقة من حاكم أو تثبيتها في إطار وطني وفق شروط وطنية وفي ظل تداول للسلطة يحيل الأقلية أكثرية والعكس. هذه التقنية يراد استخدامها في جنوب السودان للفصل في قضية شائكة من نوع البقاء أو الانفصال عن الوطن الأم سلما بعد أن فشل الانفصال بالقوة فهل يجيز الاستفتاء تشطيرا سودانيا ميسرا كما يوحي المنادون به؟

الواضح أن الاستفتاء لن يؤدي إلى إجماع في صناديق الاقتراع وانما إلى انبثاق أقلية وأكثرية من المقترعين على الوحدة والانفصال في جنوب البلاد ما يعني أن نسبة من الموافقين على الانفصال ستكون بمواجهة نسبة أخرى من الرافضين له. ومن المرجح أن يترتب على الاستفتاء ثلاث سيناريوهات أولها أن تأتي النتيجة متقاربة لصالح أو ضد الانفصال وفي هذه الحالة سيكون من الصعب على الأقلية أن تخضع للأكثرية وسيستأنف حل الخلاف بين الطرفين بالوسائل العسكرية أي السقوط في حرب أهلية ترجع بالجنوب السوداني إلى ما قبل الهدنة العسكرية الموقعة قبل خمس سنوات بين الطرفين. والسيناريو الثاني أن يكون الفارق معتبرا بين نسبة مؤيدة للانفصال (60 بالمئة مقابل 40 بالمئة ) وفي هذه الحالة سيكون على الخاسرين أن يقبلوا بخسارة وطنية أذا ما توفرت لهم الضمانات في الدولة الانفصالية للعمل على التحول إلى أكثرية وحدوية وبالتالي إعادة الكرة في استفتاء جديد بعد خمس سنوات الأمر الذي قد يتسبب بعدم استقرار الدولة المنفصلة والدولة الأم على حد سواء هذا إذا توفرت ضمانات العمل السلمي المطلق وهي غير مضمونة. وفي الحالة الأخيرة يخسر الانفصاليون الاستفتاء ويكون عليهم القبول بالوحدة وطي صفحة الانفصال إلى الأبد فهل يلتزمون؟ اغلب الظن أنهم لن يفعلوا بل ربما يبادرون على الفور إلى الانفصال المسلح واستئناف الحرب الأهلية.

البادي من السيناريوهات المذكورة أن تقنية الاستفتاء الديموقراطي لا تكفل فض الاشتباك السلمي في قضية وطنية هي محل اختلاف جذري بين طرفين كل منهما يقدر انه الغالب وكل يريدها وسيلة للتغلب على خصمه عبر صناديق الاقتراع.

وليس استخدام تقنية الاقتراع الديموقراطي افضل حالا من "الاستفتاء" فقد اقترع المواطنون في ساحل العاج لتوهم وخرجت من صناديق الاقتراع أكثرية مؤيدة للمرشح الشمالي الحسن الوطارة وأقلية مؤيدة للمرشح الجنوبي لوران غباغبو بيد أن هذا الأخير لم يحترم النتيجة وبادر إلى تغييرها لصالحه مستقويا بالجنوبيين المتعصبين له مقابل الشماليين المتعصبين للسيد وطاراه. ولعل الاقتراع فشل اليوم كما فشل بالامس بعد موت هوفويت بوانييه في تثبيت الوحدة الوطنية في ساحل العاج وكان يستخدم على الدوام لاختبار استعداد الطرفين للجؤ إلى العنف المسلح والبحث عن الغلبة بوسائل أخرى علما أن المشكلة الأساسية في ساحل العاج لا تكمن في صناديق الاقتراع وإنما في النزاع التاريخي بين العاجيين الشماليين الذين ينتجون الثروة في هذا البلد من خلال زراعتهم للبن والكاكاو والموز..الخ وبين العاجيين الجنوبيين الذين يتولون السلطة والمؤسسات ويلعبون دور الوسطاء مع الأسواق العالمية فيشترون الإنتاج من مواطنيهم الجنوبيين بأسعار بخسة ويبيعونه في السوق العالمية بأسعار تفيض عليهم بالثروة ووالنفوذ. والمؤسف ان خلافات الطرفين الاقتصادية تنعقد على انتماءات إثنية وثقافية ودينية وهي أن كانت مضمرة في السابق فلان الرئيس بوانييه كان يتمتع بهالة تاريخية وهامشا وسعا للمناورة يتيح له المساومة بين مختلف الأطراف وانتزاع رضاهم وهو ما اخفق الورثة في تحقيقه فكان لجوئهم إلى "الديمقراطية" خيارا تعبويا لتحقيق الغلبة والقهر وليس للكشف عن نسبة القوى في الشارع والخضوع لحكم الفائز.

والواضح أن تقنية الاستفتاء في حالة جنوب السودان كما تقنية الاقتراع في ساحل العاج ليست قادرة على حل خلافات وطنية تأسيسية يحتاج حلها إلى مساومة تاريخية بين المعنيين وينال بموجبها كل ذي حق ما يرضيه ومن بعد تطرح عناصر المساومة الوطنية على استفتاء لإقرارها بنسبة طاغية من المقترعين وبهذا المعنى تصبح هذه الأداة الديمقراطية وسيلة للوفاق الوطني بدلا من أن تكون وسيلة للاحتراب والقتل الجماعي كما حصل ويحصل في ساحل العاج أو كما حصل في الجزائر في التسعينات عندما أبيدت قرى بأكملها لأنها اقترعت لجبهة الإنقاذ وأخرى لأنها اقترعت للحزب الحاكم. من المؤسف القول أن الديمقراطية بأدواتها المختلفة لم تحمل لنا الكثير من الأنباء السارة ولم تساعدنا في حل معضلاتنا الوطنية وذلك ليس لأنها أدوات سيئة بل لأننا لم نحسن استخدامها في الوقت المناسب ومن اجل الهدف المناسب وهو التخلص من الغلبة أم العلل والأمراض القاتلة.


المصدر : ميدل ايست أونلاين