مفاوضات التسوية... دروس من التعثر
السبت, 30-أكتوبر-2010
صائب عريقات -

ليس ثمة ما يدعو إلى الدهشة كثيراً أن تتعثر المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية الأخيرة هذه. فالدرس الذي تعلمناه من تجربة تقارب العقدين من الزمان من المفاوضات الثنائية، هو أن التفاوض المباشر وحده لا يوفر ضماناً كافياً للتوصل إلى صفقة للسلام. فلا بد من أن يصحب المفاوضات المباشرة، التزام ثابت ومبدئي بالقانون الدولي. ويوفر القانون الدولي معياراً لتحقيق السلام العادل، فضلاً عن مساعدته على ضمان تمتع الفلسطينيين والإسرائيليين بمعاملة متكافئة. إلى جانب ذلك، يوفر القانون الدولي خريطة طريق مؤدية إلى التوصل إلى تسوية نهائية تقوم على ثقافة الحقوق والاحترام المتبادل بين الطرفين.

ولا شك أن أحد أخطر انتهاكات الحقوق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الاستمرار في إنشاء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية فيها. وتشمل هذه الإجراءات السرقة الواسعة لأراضي الفلسطينيين ومياههم. وتقوم هذه المستوطنات في قلب نظام فصل عنصري إسرائيلي تعزز شبكة الطرق المعزولة، والحظائر المسيجة من الأسلاك الشائكة، والحوائط الإسمنتية المنيعة، ومحطات التفتيش ونظام صدور أذونات الدخول والخروج التي شيدها، ممارسات التمييز المنظم ضد الفلسطينيين إضافة إلى إضفاء طابع مؤسسي مقنن على ممارسات العنف التي ترتكب بحق الفلسطينيين.

وعن طريق الالتهام المستمر لما تبقى من أراضي الفلسطينيين، يجعل التوسع المستمر في بناء المزيد من المستوطنات حلم إقامة دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً، وهو ما يهدد الحل القائم على أساس دولتين مستقلتين. ومن دون الوقف الفوري والشامل لهذه المستوطنات، فلن تبقى هناك دولة فلسطينية يمكن التفاوض بشأن قيامها، ولن يكون هناك حل قائم على أساس الدولتين يمكن الحديث عنه أساساً.

وفي الماضي كانت إسرائيل قد سعت إلى استغلال المفاوضات مجرد غطاء تواصل وراءه توسيع مستوطناتها وتمديد مساحات الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، في ذات الوقت الذي تتفادى فيه رقابة المجتمع الدولي عليها وشجبه لانتهاكاتها الصارخة لحقوق الفلسطينيين. فالملاحظ أن عدد المستوطنين الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية قد تضاعف خلال الفترة الممتدة بين 1993-2000. وليس متوقعاً أن يطرأ أي تغيير على هذه السياسات، طالما سمح لإسرائيل أن تفعل ما تريد دون رقيب أو حسيب عليها، وطالما أطلقت يدها كما تشاء في انتهاك نصوص القانون الدولي ومبادئه الأساسية.

ومهما يكن فإنه ليس لأحد منا أن يغفل التناقض الواضح بين المستوطنات وتحقيق السلام. فبينما يتطلب السلام وضع حد للاحتلال الإسرائيلي، يلاحظ أن المستوطنات تؤكد أبدية استمرار الاحتلال. ولمن يريد رؤية هذا التناقض عليه إلقاء نظرة إلى مواقع وعدد المستوطنات الإسرائيلية المتناثرة في أراضي الضفة الغربية، أو أن يفكر في مليارات الدولارات التي أنفقت على إنشائها لفهم هذه الحقيقة. فقد صممت هذه المستوطنات خصيصاً لتعزيز الأطماع التوسعية الإسرائيلية عن طريق استعمار المزيد من الأراضي الفلسطينية، مع منع الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة. وبتلك الصفة تتناقض هذه المستوطنات مع صيغة "الأرض مقابل السلام"، التي قامت عليها عملية سلام الشرق الأوسط كلها.

بالنسبة لنا يعني هذا التناقض عملياً الاستمرار في سرقة المزيد من أراضينا، وهدم أعداد أكبر من بيوتنا، بينما استمر هدم حلم الحرية والكرامة الفلسطينية طوال السنوات التي أعقبت مفاوضات أوسلو. والنتيجة هي أن السياسات الإسرائيلية لم تسفر عن السلام، إنما فرضت المزيد من القيود والمعاناة على الفلسطينيين في مختلف أنحاء الضفة الغربية، بينما تواصل إسرائيل احتلالها لقطاع غزة عن طريق فرض الحصار الخانق عليه، وشن حرب شعواء على المدنيين الأبرياء، والتسبب بمعاناة إنسانية يصعب وصفها هناك. وبعد معرفة كل هذه الحقائق، فهل لا يزال غريباً أن تفقد عملية السلام مصداقيتها؟

فلا أحد من الفلسطينيين يقبل استمرار بناء المستوطنات والاستمرار في احتلال أرضه واستعمارها، سواء كان الحديث عن الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية المحتلة، أم المقيمين منهم في الأراضي الفلسطينية الأخرى المحتلة. كما لن يكون في وسع كل من يؤيد حل الدولتين أن يدافع عن استمرار إسرائيل في بناء مستوطناتها على حساب الفلسطينيين.

وعليه فإن الوقف الفوري والشامل لبناء المستوطنات، هو محك الاختبار الحقيقي لمدى جدية إسرائيل وعزمها على تحقيق السلام على أساس حل الدولتين المتجاورتين المستقلتين عن بعضهما. وحتى هذه اللحظة، تواصل إسرائيل رسوبها في هذا الاختبار. وعلى رغم الموعد النهائي المحدد لها لوقف أنشطتها الاستيطانية، لم تفعل إسرائيل شيئاً من أجل الالتزام بذلك الموعد النهائي. بل العكس تماماً كانت النتيجة مزيداً من الوحدات الاستيطانية والمستوطنين، ومزيداً من الإثارة والاستفزاز. فخلال الشهور الستة الأولى فحسب من الموعد المحدد لوقف بناء المستوطنات، واصلت إسرائيل تشييد 3 آلاف وحدة استيطانية جديدة، في ذات الوقت الذي هدمت فيه مزيداً من بيوت الفلسطينيين، وهيأت فيه طرق إضافية معزولة لخدمة المستوطنين وحدهم.

من جانبهم لطالما سعى الفلسطينيون إلى خوض حوار جدي مع الحكومة الإسرائيلية حول قضايا الوضع النهائي المفضية إلى السلام الدائم، مثل مصير القدس، والاعتراف بحدود عام 1967، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والموارد المائية والمستوطنات. ومن ناحيتها تواصل إسرائيل تفاديها لهذه القضايا والانتكاس بالتقدم الذي أحرز عبر اتفاقات سابقة عقدت معها. ولما كان هذا سلوك إسرائيل دائماً..فلمَ التظاهر بأننا نتفاوض على حل الدولتين؟ وأي فرصة متاحة أمام الفلسطينيين للتوصل مع إسرائيل لأي اتفاق حول هذه القضايا الأساسية، في حين يعجز المجتمع الدولي حتى عن إلزام إسرائيل بوقف أنشطتها الاستيطانية؟ إن أشد ما تحتاجه عملية سلام الشرق الأوسط هو المصداقية. وما لم تجر مفاوضات على أساس مرجعية دولية تقوم على محاسبة الطرفين وتحميلهما المسؤولية أمام القانون الدولي، وإلزامهما بما تم الاتفاق عليه من قبل، فلن تكون هناك فرصة لتحقيق السلام. وفي ذلك ما يطالب إسرائيل بتحمل مسؤوليتها إزاء ما يعنيه تحقيق السلام الدائم والعادل مع الفلسطينيين.

*نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية