انتشار العنف في وسط عرب 48.. من يتحمل المسؤولية؟
الجمعة, 29-أكتوبر-2010
د. عبد اللطيف الحناشي -
تظاهر خلال الأسبوع الماضي نحو ألف عربي من منطقة الـ48 في مدينة اللّد، احتجاجا على أعمال العنف والقتل التي اجتاحت المدينة مؤخرا، وكانت المدينة نفسها قد فقدت عشرات من أبنائها منذ تسعينات القرن الماضي، لدرجة أن البعض شبّهها بمدينة شيكاغو الأمريكية نظرا لارتفاع عدد الضحايا، وفي الواقع لا تقتصر ظاهرة انتشار العنف على تلك المدينة بل تشمل أغلب المدن العربية الفلسطينية، وقد لاحظ النائب د.جمال زحالقة، رئيس كتلة التجمع البرلمانية، مؤخرا، تحول تلك الظاهرة إلى مشكلة أساسية في أوساط عرب 48 تهدد النسيج الاجتماعي وتضعه في منطقة خطرة.

وبالفعل، عرفت السنوات الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في معدلات الجريمة في أوساط المجتمع العربي الفلسطيني، ففي سنة 2009 ارتفع معدل الجريمة بنسبة 8.4 في المائة مقارنة بالنسبة السابقة، وقُتل 120 من سكان الدولة على خلفية جنائية، منهم 80 عربيا، من ضمنها 9 عمليات قتل ضد نساء "في نفس العام قتلت 3 نساء يهوديات".

وتنتشر مظاهر العنف في زوايا ومناطق مختلفة من المدن العربية: في العائلة وفي الشارع وبين البالغين وفي المدارس، وتمس شرائح اجتماعية مختلفة من الشباب والأطفال والنساء والشيوخ..

وإن تبدو هذه الممارسة السلوكية غير السوية في بقية "المجتمعات الطبيعية" ظاهرة اجتماعية وكإفراز للتناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها تلك المجتمعات، فإنها لا تبدو كذلك بالنسبة لمجتمع يعيش تحت الاحتلال. فالسكان العرب الفلسطينيون الأصليون الذين يعيشون في أراضي 48 يتعرضون إلى عنف ممنهج متعدد الأبعاد والغايات، سواء من قبل السكان اليهود الصهاينة أو من قبل الإدارة والجهاز الأمني.

ويتخذ هذا العنف طابع الحدة والشمولية أحيانا، ولكنه في الغالب يسري في ثنايا الحياة اليومية للسكان الأصليين في علاقاتهم مع الآخر، بل في كل الأشياء المفروضة ضد إرادتهم وكرامتهم وثقافتهم مما يؤدي إلى انتقال تلك الممارسة الاستعمارية الصهيونية اليومية العنيفة في اللاوعي العربي الجماعي بالضرورة..

وإن كان العلاج الناجع الوحيد لأمراض الشعوب الواقعة تحت الاحتلال هو المقاومة، والمقاومة العنيفة تحديدا، كما يقول "فرانتز فانون" حتى تخرج طاقة الغضب والكراهية والشعور بالمهانة نحو المتسبب في وجود هذه الطاقة السلبية، غير أن هذا السلوك أو تلك الممارسة، في حالة الأقلية العربية الفلسطينية الخاضعة للاحتلال الصهيوني، تَرْتَدُّ على المجتمع العربي نفسه في اتجاهات خاطئة في الغالب تضر بأفراده وبـ"المريض" نفسه، وتزيد من تراكم الطاقات السلبية بداخله، ومن ثم تعيد هذه الطاقات إنتاج نفسها بشكل أكبر وأخطر على المجتمع الأهلي.

ويقول البروفيسور مروان دويري في توصيف لانتشار ظاهرة العنف في المجتمع الفلسطيني: "إنها حالة انفلات انخفض فيها عنف السلطة الاجتماعية والتربوية، وارتفع فيها عنف الفئات المحبَطة والضائعة، ولا سيّما عنف الشباب... الأمر الثاني الذي يميّز العنف اليوم هو أنّه عنف مُنْزاحٌ "Displaced" أو "طائش" يخطئ الهدفَ ويكون نوعًا من "التفشيش" "التنفيس" ضدّ "كبش فداء" ليس له حتمًا علاقة بمصدر الإحباط الحقيقي".

تختلف أسباب انتشار العنف وتتفاوت حسب المجتمعات والمناطق الجغرافية والمتغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية، نسبيا، غير أنها تبدو ذات خصوصية وطبيعة نوعية في أوساط عرب 48، فتفسير تصاعد الجريمة وتوسعها بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عن التحولات التي أحدثها النظام الاستعماري الصهيوني غير كاف معرفيّا ومنهجيّا لتحليل هذه الظاهرة، إذ من الضروري البحث في الوقت ذاته عن كيفية ردّ فعل المؤسسات الردعية المختلفة للنظام بدءا من القوانين المعتمدة إلى العاملين في مختلف أجهزة الضبط والعقاب من أعوان الشرطة ورجال القضاء وسلوك كل هؤلاء تجاه العرب الفلسطينيين الخارجين عن "القانون" وتجاه ممارساتهم، واعتبارها أحد العوامل اللاواعية الحاثّة، بشكل مباشر أو غير مباشر، على ارتكاب المخالفات...

فالسياسة الإسرائيلية الرسمية تجاه العرب، هي في الأصل نتاج الأيديولوجية الصهيونية، المستندة إلى التمييز العنصري على أساس قومي وديني، والتي تطال كافة مجالات حياة عرب 48. كما أن انتشار ثقافة العنف التي تجتاح المجتمع الإسرائيلي والتوتر السياسي والأمني اليومي المتواصل وكافة الممارسات القمعية والحروب التي خاضتها وتخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب عامة تجعل حياة هؤلاء مشحونة بالإحباط والغضب، وهو ما يشكّل أرضية خصبة للعنف والانحراف، ومن رحمها تتناسل بقية العوامل كضعف الوازع الأخلاقي والقيمي نتيجة التدهور الذي عرفته قيم المجتمع، وخاصة تراجع سلطة العائلة على أبنائها بالإضافة إلى التحديث القسري للمجتمع الذي يتفاعل مع ثقافة مسيطرة صهيونية ذات طبيعة عنيفة تعتمد القوّة والغطرسة وانتهاك حقوق الغير..

وتتحمل الدولة بكامل أجهزتها مسؤولية مباشرة في توالد مظاهر العنف وانتشاره، ففي الوقت الذي ينصبّ اهتمام الإدارة على أمن اليهود وأحيائهم تُهمل أمر أمن "المدينة والأحياء العربية" الاجتماعي ولا تهتم إلا بما يتعلق بالنشاط السياسي، لذلك تركت مجال هذه المدينة مرتعاً للرعاع والعاطلين والمهمّشين ليعيثوا فساداً بالأرض والعباد، مما أدى إلى تكاثر الجرائم والتعديات، كما لا تعالج الأجهزة الأمنية الإسرائيلية قضايا الإجرام والعنف في البلدات والمدن العربية بنفس الأسلوب والطريقة التي يتم بها معالجة هذه القضايا في البلدات والمدن اليهودية.

كما تتهاون الشرطة في معاقبة المجرمين والمنحرفين من العرب، وغالباً ما تغلق الملفات وتقيد الجرائم ضد مجهول. وينطبق نفس السلوك على أجهزة القضاء التي تتعامل بعنصرية صارخة في تطبيق القانون على الأفراد من العرب، إذ لا تبدي المحاكم نفس الحزم في اقتلاع الجريمة، فالأحكام التي تفرض على هؤلاء تمثل أضعاف ما يفرض على اليهود في نفس التهمة، وكذا الأمر بالنسبة للإدانات.

وتشير بعض المعطيات الإحصائية إلى أن 62 في المائة من السجناء الجنائيين يعودون إلى دائرة الجريمة وإلى السجن بعد إطلاق سراحهم "الانتكاسيين"، ولهذا ليس صدفة أن المعطيات الرسمية تشير إلى أن نسبة الانتكاسيين العائدين إلى دائرة الجريمة تنخفض سنويا في الدول المتطورة، في حين تواصل ارتفاعها في إسرائيل، إذ ارتفعت هذه النسبة من 58 في المائة إلى 62 في المائة بين 2007 و2009...

وأمام انتشار هذا الداء تجندت القوى الوطنية العربية لمواجهة هذا الوباء الخطير الذي ينهش عرب 48، وتتفق أغلب القيادات الفلسطينية على أن مواجهة ذلك لا تتم إلاّ من خلال معركة سياسيّة من أجل تعميم "دولة رفاه لجميع المواطنين" التي تُحوِّل طاقات الإحباط نحو مسارات بنّاءة، غير أن ذلك لا يبدو ناجعا دون تدخل الدولة من خلال تخصيص الأموال والموارد لتطوير الخدمات الاجتماعية وللنهوض بجهاز التعليم وتوسيع فرص العمل..

وفي الوقت الذي يحمّل بعض الأكاديميين الفلسطينيين القيادات السياسية والاجتماعية مسؤولية عدم القدرة على معالجة الظاهرة، وذلك من خلال توجيه الإحباط نحو قنوات نضال بناءة، وإعطاء المثال والنموذج الشخصيّ في الحوار واحترام الغير وسَعَة الصدر، يرى البعض الآخر أن من أسباب الأزمة التي يعيشها المجتمع العربي تكمن في أداء القيادات العربية المحلية أو القطرية، السياسية والدينية، التربوية والثقافية، الذي يبدو دون فاعلية سواء في إدارة الأزمات أو في محاولة تشخيص العنف وأسبابه والمساهمة في تقديم الحلول الناجعة.

وحسب هؤلاء، تعالج الأمور في الغالب بطرق تقليدية "صلح عشائري" لإرضاء الخواطر وإطفاء النيران دون العمل بجدية للحد من العصبية والتعصب بالإضافة إلى سيادة نزعة التخوين وحتى التكفير في أوساط الأحزاب الوطنية العربية المحلية النابذة لقيم التعددية والحوار..

كما تشير أغلب البحوث، الفلسطينية، التي أنجزت لرصد ظاهرة انتشار العنف والبحث عن أسباب الجريمة في أوساط عرب 48 إلى دور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة للأقلية العربية، ويتمثل ذلك خاصة في انتشار الفقر والبطالة بنسب مرتفعة في صفوف العرب إلى جانب نقص المدارس واكتظاظ الصفوف المدرسية وانسداد فرص التعليم والآفاق أمام الشباب.. بالإضافة إلى الاكتظاظ السكاني الذي تعرفه المدن والأحياء والبلدات العربية لعدم تمكين السكان العرب من إقامة مدن وأحياء جديدة..

ومهما كان الأمر، لا تبدو ظاهرة انتشار العنف والجريمة في أوساط عرب 48 بظاهرة فريدة في تاريخ الشعوب المستعمرة، كما لا تبدو نسبتها كبيرة وضخمة مقارنة بما حدث في الجزائر مثلا، حسب ما بينته بحوث "فرانتز فانون"، أو من خلال بحث قمنا به تحت عنوان "الاستعمار الفرنسي والتحكم في المجال أمنيا في البلاد التونسية خلال فترة بين الحربين"، وذلك بالرغم من الاختلاف في طبيعة الاستعمار الفرنسي والصهيوني من ناحية، وسيادة أغلبية عربية مقابل أقلية فرنسية استيطانية من ناحية أخرى؛ وهو ما ساهم في ارتفاع ظاهرة العنف والجريمة في تلك الأوساط العربية الجزائرية والتونسية.. غير أن الحركة الوطنية في كل من الجزائر وتونس تمكنت من تجاوز كل العقبات وحشد الجماهير في النضال الوطني العام ضد الاستعمار، مما ساهم إلى حد بعيد في تقليص ظاهرة العنف الاجتماعي وتوجيه تلك الطاقات باتجاه المحتل من خلال العنف المسلح "حالة الجزائر" أو باتجاه النضال السلمي في إطار الأحزاب والجمعيات "تونس".

وإن كانت حالة عرب 48 وخصوصيتها كأقلية لا تستدعي توجيه تلك الطاقات إلى العنف المنظم تجاه الدولة المهيمنة، فإن الأمر يتطلب من النخبة السياسية والثقافية والتربوية الفلسطينية المناضلة المزيد من العمل في أوساط جماهيرها لتأطيرها في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لخوض نضال مدني سلمي ينتشل أفراد الأقلية من التهميش والاغتراب باتجاه تحقيق الأهداف الوطنية والقومية.. وهي بلا شكّ قادرة على خوض هذا التحدي، كما بينت وتبين ممارستها النضالية اليومية ضد النظام العنصري الصهيوني..


نقلاً
العرب إونلاين