الأوروبيون يُودعون "الرأسمالية الإنسانية"
السبت, 30-أكتوبر-2010
سعد محيو -

عوب الأوروبية، على عكس الشعب الأمريكي، لم تعتبر في يوم ما أن الرأسمالية هي نمط حياة، أو أنها جزء من تركيبتها القومية.

فهي “استسلمت” للرأسمالية بعد سلسلة حروب وثورات وانتفاضات قامت بها منذ عام 1848 وحتى عام ،1958 مروراً بالطبع بالثورة البلشفية الكبرى عام 1917 . لا بل يمكن القول إن الاشتراكية بتنوّع أشكالها، من الشيوعية والفوضوية والاشتراكية الديمقراطية وصولاً حتى إلى القومية الفاشية، أكثر رسوخاً بكثير في البيئة الأوروبية من الرأسمالية.

ثم إن استسلام الشعوب الأوروبية للبورجوازية لم يكن من دون شروط . فقد اضطرت هذه الأخيرة إلى تقديم تنازلات عديدة للعمال والطبقة الوسطى، الأمر الذي سهل ولادة نجلين: الأول، دولة الرعاية التي قدّمت ضمانات اجتماعية وتعليمية وصحية واسعة النطاق . والثاني ما أطلق عليه اسم “الرأسمالية الإنسانية”.

وهكذا وُلدت وترعرت في أذهان الأوروبيين فكرة الجنّة داخل قلعة حسنة التحصين ضد كلٍ من الرأسمالية المتطرفة في فروقاتها الطبقية، والاشتراكية المُغالية في مساواتها الاجتماعية، والحركة البيئية النازعة إلى رفض الحداثة وحتى فكرة التقدم نفسها.

إنه الحلم وقد تحقق: معدلات نمو اقتصادي مقبول . ساعات عمل أقل . إجازات طويلة . ضمانات اجتماعية وصحية وتعليمية راقية . ديمقراطيات مُستقرة تتفتح فيها ألف حرية وحرية . رفض للحروب والعسكرة . ودور إنساني رفيع في الشأن الدولي في مجالات البيئة، ورفض أحكام الإعدام، ومساعدة المحتاجين مالياً وتقنياً وثقافياً . لكن، كما في كل الاحلام في هذه الحياة الفانية، كان حتمياً أن يتبخّر هذا الحلم كفقاعة صابون مع انبلاج الخيوط الأولى لشمس النهار، فيفيق الأوروبيون على الحقيقة بأن الرأسمالية دائمة الثورة والغليان، وهي تمقت الاستقرار مقتاً شديداً وتختنق إن لم تكبر وتتوسع وتتضخم . كما أفاقوا أيضاً على حقيقة ثانية: هذا الاستقرار كان وهمياً إلى حد كبير، إذ تم تمويله بالديون الضخمة، وكان لابد في يوم ما أن تستحق هذه الديون دفعة واحدة.

البداية كانت في اليونان . لكن سرعان ماتمددت الأزمة إلى إسبانيا والبرتغال وإيرلندا، قبل أن تصل إلى الدول الكبرى الأربع التي تشكّل نواة الاتحاد الأوروبي: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا . إذ بلغت الديون العامة لإيطاليا 115 في المئة من ناتجها المحلي العام، 20 في المئة منه يجب أن يُدفع (أو تعاد جدولته) هذا العام . وفي بريطانيا بلغ عجز الموازنة نحو 12 في المئة، وهو الأضخم في أوروبا . وألمانيا لاتزال تتخانق مع نفسها لموازنة اقتصاداتها على رغم أنها الاقتصاد الثالث الأقوى في العالم.

في ظل هذه المعطيات، شنّت العولمة الرأسمالية هجومها المعاكس ووضعت العمال والطبقات الأوروبية أمام خيارين: إما دفع ثمن الأزمات الاقتصادية، أو خسارة القدرة التنافسية في الاقتصاد العالمي.

الفرنسيون ردوا على هذا الخيار بآخر ثالث: رفض دفع الثمن والنزول إلى الشارع . وعلى رغم أن الانتفاضة الشعبية هناك لم تحقق شيئاً بعد وبدأت ملامح الوهن تظهر عليها، إلا أنها مع ذلك كانت النذير الأول لمجابهات أخرى آتية لاريب فيها.

وكما العادة في التاريخ، ماسيحدث في فرنسا، سيتردد صداه لدى باقي الشعوب الأوروبية، التي ستجد نفسها مدفوعة إلى البحث عن خيار آخر، بعد أن يُسدل الستار على مسرحية “الرأسمالية الإنسانية”.

أي خيار؟ الاشتراكية في حلّتها الديمقراطية على الأرجح.

*نقلا عن صحيفة "الخليج" الإماراتية.