مستقبل الدولار
الأربعاء, 27-أكتوبر-2010
مارتين فيلدشتاين -

اعتباراً من اليوم تبدأ «الجريدة» بالاتفاق مع «بروجيكت سنديكيت» في نشر سلسلة من المقالات يحاول فيها مجموعة من أبرز خبراء المال وصناع السياسة المالية والنقدية في العالم فك طلاسم المشهد العالمي الذي تعتريه مخاوف شديدة إزاء احتمالات اندلاع «حرب عملات» ضارية، يرى البعض أن نشوبها سيقود العالم إلى تداعياتٍ ربما تفوق خسائرها، بل ضحاياها، إن صح التعبير، حروباً عالمية.

ويسعى خبراء المال والاقتصاد في مقالاتهم التسع إلى حل «لغز العملات» الذي تبدَّت ملامحه في الأشهر الأخيرة، محاولين التعرف بمستقبل أسواق النقد الأجنبي، وأسعار الصرف والتحديات المصاحبة لاحتمالات نشوب معارك طاحنة بين عملات «الكبار»، ودور البنوك المركزية واحتياطات النقد الأجنبي، وأثر الخلافات الراهنة في الدولار واليورو والين الياباني وغيرها من العملات الرئيسية، علاوة على العملة الصينية التي تشهد جدالاً وضغوطاً لم تعش في ظلهما من قبل. كما تسلط سلسلة المقالات الضوء على حقيقة أوضاع عملات الدول النامية، ولا سيما في إفريقيا وأميركا اللاتينية، في مرحلةٍ حرجة لايزال الاقتصاد العالمي يعاني فيها الأمرّين سعياً إلى الخروج من أزمة اقتصادية ومالية عصفت بالجميع.

إن السياسة الاقتصادية الأميركية تسعى إلى تأمين دولار قوي في الداخل وقادر على المنافسة في الخارج، فالدولار القوي في الداخل يعني دولاراً محتفظاً بقدرته الشرائية، بفضل انخفاض معدل التضخم. والدولار القادر على المنافسة في الخارج يعني أن الدول الأخرى لا ينبغي لها أن توظف سياسات تعمل بشكل مصطنع على خفض قيمة عملاتها من أجل تعزيز الصادرات والحد من الواردات.

والواقع أن هدف «الدولار القوي» في الداخل كان بمنزلة الدليل الهادي لمجلس الاحتياط الفدرالي (المركزي الأميركي)، منذ سحق بول فولكر التضخم في أوائل الثمانينيات على الأقل. ورغم أن الولايات المتحدة لا تحدد هدف تضخم رسمياً، فإن الأسواق المالية تدرك أن الاحتياطي الفدرالي يهدف إلى معدل تضخم قريب من 2 في المئة، وفي حين يخول القانون المركزي الأميركي مهمة ضمان النمو المستدام فضلاً عن التحكم في التضخم، فإن المسؤولين النقديين يدركون أن النمو المستدام يتطلب استقرار الأسعار.

ولعقود من الزمان أصر المسؤولون في وزارة الخزانة الأميركية على أن «الدولار القوي أمر طيب بالنسبة إلى أميركا»، ولكن هذا الشعار لم يكن على الإطلاق مرشداً للتحركات الأميركية الرسمية في الأسواق الدولية. ولا تتدخل وزارة الخزانة في أسواق العملة لدعم الدولار، ومجلس الاحتياطي الفدرالي لا يرفع أسعار الفائدة لتحقيق نفس الغاية. وبدلاً من ذلك تؤكد الولايات المتحدة للحكومات الأجنبية أن النظام التجاري العالمي الفعّال لا يتطلب إزالة الحواجز التجارية الرسمية فحسب، بل يتطلب غياب السياسات الرامية إلى فرض قيم للعملة تعمل على تعزيز الفوائض التجارية الضخمة، أيضاً.

وفي الأعوام الأخيرة، عملت البلدان في أنحاء العالم المختلفة على تكديس احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي، وعلى رأس هذه البلدان الصين التي تحتفظ باحتياطيات تتجاوز تريليوني دولار أميركي، ولكن هناك مئات المليارات من الدولارات التي تحتفظ بها كوريا وتايوان وسنغافورة والهند والدول المنتجة للنفط. وأغلب هذه الأرصدة تستثمر الآن في السندات الدولارية. إن الدولار الأميركي يعتبر- وسيظل- العملة الاستثمارية الرئيسية في تلك البلدان، الأمر الذي يعكس عمق سوق رأس المال الأميركي والتوقعات المواتية نسبياً لسياسات الحكومة الأميركية.

لم تعد هذه الاحتياطيات الضخمة من العملات الأجنبية تستخدم كأداة لتغطية أي خلل مؤقت في التوازن. وفي حين تخدم بعض هذه الأرصدة ذلك الغرض، إلى جانب ضرورة الاحتفاظ بها في أكثر الأشكال سيولة، فإن أغلب هذه الاحتياطيات الضخمة تشكل أرصدة استثمارية يمكن استخدامها لإيجاد التوازن بين المجازفة والعائد. وهذا يعني أن الحكومات بمرور الوقت ستسعى إلى تنويع محافظها الاستثمارية، والانتقال بعيداً عن الهيمنة الحالية للاستثمارات الدولارية.

ويُعد اليورو الآن البديل الأساسي للدولار. ورغم الاضطرابات في أوروبا ومستقبل اليورو غير المؤكد، وما ترتب على ذلك من توقف في التحول من الدولار إلى اليورو، فإن عملية إعادة التوازن لمصلحة اليورو ستستأنف في وقت ما في المستقبل. والواقع أن البلدان التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة يغلب الدولار على احتياطياتها، لابد أن تتسبب جهودها الرامية إلى موازنة المخاطر في عودة قيمة اليورو إلى الارتفاع نسبة إلى الدولار. وهناك العديد من العملات الأخرى التي تشكل الآن حصة ضئيلة في هذه الاحتياطيات، وستستمر على هذه الحال في المستقبل.

إن الخطر الرئيسي الذي يهدد الدور المستمر للدولار يتلخص في الدين الوطني الأميركي الضخم والمتزايد النمو. فبعد أن كان الدين يتراوح بين 25 و50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي طوال نصف القرن الماضي، تسبب العجز الأخير في الميزانية في ارتفاع مستوى الدين إلى 62 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتوقع مكتب الميزانية غير الحزبي التابع للكونغرس أن تتسبب السياسات التي أصبح من المرجح تبنيها الآن في دفع الدين إلى 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد الحالي.

لذا فقد يخشى المستثمرون الأجانب أن تستسلم الإدارات الأميركية في المستقبل لإغراء خفض القيمة الحقيقية لهذا الدين من خلال السماح بمعدل تضخم أعلى. ولكن هذا مستبعد، نظراً إلى إجماع مجلس الاحتياطي الفدرالي عموماً على مكافحة التضخم، فضلاً عن قصر متوسط فترة الاستحقاق- أربعة أعوام تقريباً- للدين الوطني. إن معدل التضخم الأعلى من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على الديون الجديدة على نحو يمنع تآكل القيمة الحقيقية لإجمالي الدين.

بيد أن المستثمرين الأجانب، الذين يحتفظون الآن بنصف الدين الحكومي الأميركي تقريباً- ومن المرجح أن يحتفظوا بحصة أضخم من هذا الدين في المستقبل- قد يكون لديهم من الأسباب ما يدفعهم إلى القلق من محاولة الولايات المتحدة ذات يوم خفض قيمة دينها على نحو يؤثر سلباً عليهم ولكن ليس على الأميركيين، أو يؤثر على حاملي الدين كافة، ولكنه يعمل في الوقت نفسه على تخفيف أعباء الدين الأجنبي التي يتحملها دافعو الضرائب الأميركيون.

وهذا لا يعني بالضرورة عجزاً صريحاً عن سداد الديون؛ حيث قد تعمل خطة لسداد أصل الدين والفوائد في هيئة أوراق مالية ذات فائدة منخفضة بدلاً من النقود السائلة- أو خفض ضريبة الدخل على الفوائد المستحقة على السندات الحكومية، وتقييد هذه الضرائب في مقابل التزامات دافعي الضرائب الأميركيين- على تحقيق نفس النتيجة.

رغم أن مثل هذه السياسات مستبعدة تماماً فإن الخوف من مثل هذه الاحتمالات قد يدفع المستثمرين الأجانب إلى تجنب الدولار. والواقع أن السياسات الحالية، وتلك التي اقترحت في إطار الميزانية الأخيرة للحكومة، من شأنها أن تدفع الدين الوطني إلى الزيادة بسرعة، ولكن هذه السياسات ليست حتمية. وفي اعتقادي أن أفضل حماية لدور الدولار في المستقبل- ولصحة الاقتصاد الأميركي- تتلخص في تبني السياسات الرامية إلى الحد من نمو الدين الوطني.

* أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة هارفارد، وكان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس رونالد ريغان، والرئيس السابق للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

*نقلا عن صحيفة الجريدة الكويتية.