فوضى العملة .. مَن المسؤول عنها؟
الجمعة, 22-أكتوبر-2010
جان بيساني فيري -

كان وزير المالية البرازيلي جويدو مانتيجا بارعا في الخروج بتصور سليم لروح العصر النقدية الحالية حين تحدث عن ''حرب عملة'' تلوح في الأفق. فقد تصاعد ما بدا وكأنه نزاع ثنائي بين الولايات المتحدة والصين حول سعر صرف الرنمينبي (عملة الصين) حتى تحول إلى جدال عام حول تدفقات رأس المال والعملات.

واليوم يبدو الأمر وكأن كل دولة تريد خفض قيمة عملتها. فقد استأنفت اليابان التدخل في النقد الأجنبي، ويستعد الآن بنك الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا لشراء كميات ضخمة من السندات الحكومية ـــ وهو الإجراء الذي يطلق عليه ''التيسير الكمي''، الذي يعمل على خفض أسعار الفائدة الطويلة الأجل وإضعاف قيمة العملة بشكل غير مباشر.

أما الصين فإنها تقاوم بكل شراسة الضغوط الأمريكية والأوروبية الرامية إلى حملها على التعجيل بالوتيرة البطيئة التي تتبناها لرفع قيمة الرنمينبي في مقابل الدولار. وتخطط بلدان الأسواق النامية الآن لتبني مجموعة من الأساليب الرامية إلى الحد من تدفق رؤوس الأموال إليها بهدف تعقيم تأثيرها على سعر الصرف.

ولكن منطقة اليورو فقط تبدو وكأنها تخالف هذا الاتجاه، حيث سمح البنك المركزي الأوروبي بزيادة سعر الفائدة على القروض القصيرة الأجل، لكن حتى البنك المركزي الأوروبي لا يستطيع أن يتجاهل المخاطر المتمثلة في ارتفاع قيمة العملة؛ وذلك لأن اليورو القوي قد يؤدي إلى تعقيدات خطيرة فيما يتصل بالتعديلات اللازمة في بلدان مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وإيرلندا.

إن الوضع الذي يعيشه العالم اليوم، حيث يريد كل بلد سعر صرف أضعف، ليس بلا سابقة. فقد حدث الأمر نفسه في ثلاثينيات القرن الـ 20، حين هجرت بلدان العالم، الواحد تلو الآخر، معيار الذهب، في محاولة لتصدير البطالة إلى بلدان أخرى، لكن ليس من الممكن أن يكون لدى الجميع عملة ضعيفة في الوقت نفسه؛ لذا ففي عام 1944 أوكلت المسؤولية عن منع سياسات الاستفادة على حساب البلدان الأخرى بخفض قيمة العملة إلى صندوق النقد الدولي، الذي تقضي بنود الاتفاقية المؤسسة له بتفويضه ''بممارسة المراقبة الصارمة على سياسيات أسعار الصرف'' التي تتبناها البلدان الأعضاء.

وبتفويضه بهذه المهمة، فقد يبدو الأمر وكأن صندوق النقد الدولي لا بد أن يساعد في انتزاع التنازلات من الصين، وأن بقية بلدان العالم لا بد أن تعلن الهدنة. لكن هذا الافتراض يتجاهل التباين الأساسي بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة. صحيح أن البلدان على الجانبين عانت الأزمة، لكن ليس على النحو نفسه. وطبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن الناتج الحقيقي في البلدان المتقدمة هذا العام سيظل أدنى من مستويات عام 2007، في حين من المرجح أن يكون الناتج المحلي أعلى بنسبة 16 في المائة في الأسواق الناشئة والبلدان النامية. وإذا تكهنا بالمستقبل فسنجد أن البلدان المتقدمة ستستمر في مكافحة تداعيات أزمة عام 2008، خاصة في ظل ضرورة تقليص الديون المستحقة على الأسر والشّدة التي يمر بها التمويل العام.

ويعتقد صندوق النقد الدولي أيضا أن البلدان المتقدمة لا بد أن تخفض من إنفاقها وأن تزيد الضرائب بمقدار تسع نقط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط خلال العقد الحالي؛ وذلك حتى تتمكن من خفض نسبة الدين العام إلى 60 في المائة من الناتج المحلي بحلول عام 2030. أما البلدان الناشئة فهي لا تحتاج إلى اتخاذ أية تدابير استثنائية للإبقاء على نسبة دينها عند مستوى 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

والواقع أن هذا التباين الضخم يتطلب تعديلات كبيرة للأسعار النسبية. والسعر النسبي للسلع المنتجة في البلدان المتقدمة (بسعر صرفها الحقيقي) لا بد أن ينخفض نسبة إلى الأسعار في البلدان الناشئة من أجل التعويض عن العجز المتوقع في الطلب الداخلي.

والواقع أن هذا لا بد أن يحدث أيا كانت أسعار الصرف بين العملات. والفارق الوحيد هنا هو أن البلدان المتقدمة ستضطر إلى الخوض في فترة طويلة من معدلات التضخم المنخفضة (أو حتى الانكماش) إذا ظلت أسعار الصرف ثابتة، وهذا من شأنه أن يجعل تحمل أعباء الديون في البلدان المتقدمة أمرا أشد صعوبة، وستضطر البلدان الناشئة إلى الدخول إلى فترة من التضخم مع استمرار رؤوس الأموال في التدفق إليها، وبالتالي زيادة الاحتياطيات، وزيادة المعروض من المال، وفي النهاية دفع مستويات الأسعار إلى الارتفاع. وقد يكون من المرغوب بالنسبة إلى كلا الجانبين أن يُسمَح للتعديلات بأن تأخذ مجراها عبر التغيرات الطارئة على أسعار الصرف الاسمية، وهو ما من شأنه أن يساعد في احتواء الانكماش في الشمال والتضخم في الجنوب.

ولكن بالمقارنة بما حدث في تموز (يوليو) 2007، في مستهل الأزمة، فإن أسعار الصرف بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة تكاد تبدو وكأنها لم تتغير. صحيح أن قيمة بعض العملات ارتفعت وأن قيمة بعضها الآخر انخفضت، لكن في المتوسط لم يحدث شيء تقريبا؛ فالتعديل المطلوب معوق إلى حد كبير.

وبالنسبة إلى كل بنك مركزي فإن السؤال ليس ماذا قد يحدث للبلدان الناشئة ككل، لكن ماذا قد يحدث لعملاتها في مقابل العملات المنافسة؟.. لذا فإن البرازيل لا ترغب في زيادة قيمة عملتها في مقابل عملات بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى، وتايلاند لا ترغب في زيادة قيمة عملتها في مقابل عملات البلدان الآسيوية الأخرى، ولا أحد يرغب في زيادة قيمة عملته في مقابل عملة الصين، التي تخشى أن يؤدي رفع قيمة الرنمينبي إلى هجرة الصناعات التي تتطلب عمالة مكثفة إلى فيتنام أو بنجلاديش. وهذا يعني أن التغيير الذي قد يكون في مصلحة الجميع معوق بسبب الافتقار إلى التنسيق.

والتيسير الكمي في البلدان المتقدمة يعمل أيضا على إثارة قضية التنسيق. إن التيسير الكمي يشكل أداة مشروعة في السياسة النقدية، لكن ما كان لبنك الاحتياطي الفيدرالي أو بنك إنجلترا ليقدما على تبني هذه الأداة بهذا القدر من الحماس لولا توقع انخفاض سعر الصرف. والواقع أن عزوف البنك المركزي الأوروبي عن تبني التيسير الكمي نفسه من المرجح أن يضيف إلى تأثيرات النمو المتوقعة نتيجة لخيارات السياسة النقدية الأمريكية أو البريطانية، على حساب منطقة اليورو.

وعلى هذا فإن الجدال الدائر حول سياسة سعر الصرف التي تتبناها الصين لم يعد بمثابة نزاع تجاري ثنائي بين الولايات المتحدة والصين، بل بات يشكل صداما عالميا في ساحة الاقتصاد الكلي بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة. فضلا عن ذلك فإن الافتقار إلى التنسيق في كل من البلدان المتقدمة والناشئة يشير إلى أن حل حروب العملة ليس في إعلان الهدنة، بل في إدراك طبيعة القضية والتغلب على المشكلات التي تحول دون التوصل إلى حلول مشتركة متفق عليها.

ولا أعني بهذا أن سعر صرف الرنمينبي يشكل قضية ثانوية. بل إن هذه القضية، على العكس من ذلك، تستمد أهميتها من حقيقة مفادها أن الصين تمسك بالمفتاح إلى التعديل العالمي المطلوب. ولقد أشار كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في اجتماعه السنوي الأخير إلى أن هذه الحقيقة تزداد وضوحا بالتدريج، في ضوء الانتقادات المتزايدة من جانب البلدان الناشئة لعدم مرونة الصين.

هذه إذن لحظة صندوق النقد الدولي. إذ يتعين على الصندوق أن يقترح إطار عمل مفاهيمي لمناقشات تدور حول مشكلات سعر الصرف من خلال توفير تقييم موضوعي للتعديلات المطلوبة، وبتيسير التسوية في إطار متعدد الأطراف. لا شك أن صندوق النقد الدولي من غير الممكن أن يحل في محل اختيارات الحكومات، لكنه قادر على المساعدة في البحث عن حل. 



*نقلا عن صحيفة ''الاقتصادية'' السعودية.