روسيا تحترق في درجة حرارة 40
الأحد, 15-أغسطس-2010
يفجينيا ألباتس -
كثر من شهر، كانت موسكو تغلي تحت قيظ الحرارة التي بلغت 40 درجة مئوية، والضباب الدخاني اللزج الثقيل المحرق للعيون. ولقد بلغت مستويات أول أكسيد الكربون حداً بالغ الخطورة، حيث تجاوزت تركيزاته في الهواء ستة أمثال النسبة المسموح بها. وهناك مواد سامة أخرى في هواء موسكو بلغت مستوياتها تسعة أمثال النسبة الطبيعية.

في أوائل آب (أغسطس)، اتصل أحد الصحافيين بمكتب محافظ مدينة موسكو، سعياً إلى الحصول على تعليقات على الموقف، فأجابته سيدة من المكتب الصحافي قائلة: ''المكتب مغلق''، ثم أضافت أن الدخان الضبابي دخل إلى مبنى البلدية، الذي يقع على بعد أقل من ميلين من الكرملين، وعلى هذا فقد صدرت الأوامر إلى الجميع بالذهاب إلى بيوتهم. وكان ذلك في أحد أيام العمل في وسط الأسبوع وبعد راحة الغداء بفترة وجيزة. فسألها المراسل: ''هل من الممكن الحصول على تعليق من المحافظ يوري لوجكوف بأي شكل؟'' فأجابته الموظفة: ''إنه ليس في موسكو''.

بل هناك تقارير تفيد بأن سكرتير المحافظ الإعلامي كان يقول للصحافيين: ''لا يوجد سبب يدعو المحافظ إلى العودة إلى موسكو. لماذا يتعين عليه أن يعود؟ هل هناك أزمة في موسكو؟ كلا، لا توجد أزمة''.

وفي الوقت عينه، كان أحد الأطباء من مستشفى محلي يكتب في مدونته على شبكة الإنترنت: ''إنها لكارثة. فلا يوجد نظام لتكييف الهواء في المستشفى، وأنظمة التهوية لا تعمل، والضباب الدخاني يتغلغل إلى كل مكان، بما في ذلك غرفة الطوارئ. وفي كل يوم يموت 16 إلى 17 شخصاً. والمشرحة ممتلئة بالجثث، ولا توجد ثلاجات كافية لحفظ الموتى ـ فهم يصفون الجثث على طول الجدران فحسب''.

وطبقاً لإدارة الشؤون الصحية في مدينة موسكو فإن معدل الوفيات تضاعف خلال الأسابيع القليلة الماضية. ورغم ذلك اختار محافظ موسكو أن يكمل عطلته خارج البلاد. ومن حسن الحظ أن التعليقات الواردة من المكتب الإعلامي للمحافظ لوجكوف تسببت في استثارة غضب شعبي عارم، الأمر الذي اضطر المحافظ إلى قطع عطلته والعودة إلى المدينة.

إن المرء يتساءل ماذا كان ليحدث لو كان لوجكوف يخوض حملة لإعادة انتخابه ''تنتهي فترة ولايته في تشرين الأول (أكتوبر) 2011''. تُرى هل كان ليسمح لنفسه بالقيام بمثل هذه العطلة في حين تلتهم مدينته الحرارة الشديدة والضباب الدخاني السام؟ كلا بكل تأكيد. ولكن لا لوجكوف ولا من قد يحل محله يشغل باله كثيراً بموافقة الناخبين، وذلك لأن الكرملين يتولى تعيين محافظ موسكو، بدلاً من السماح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة ـ وهي الممارسة التي أسس لها قبل بضع سنوات الرئيس فلاديمير بوتين ـ آنذاك ـ في اختيار جميع المناصب المهمة المماثلة في مختلف أنحاء روسيا.

من بين الأمثلة الأخرى على هذا منطقة نيزني نوفجورود، التي تبعد مسافة 400 كيلومتر فقط إلى الشرق من موسكو، والتي لحق بها ضرر شديد بسبب موجة الحر والحرائق. فعلى أقل تقدير فقد 36 شخصاً، ومنهم سبعة أطفال، حياتهم في هذه المنطقة (في الإجمال، توفي 52 شخصاً في القسم الأوروبي من روسيا بسبب الحرائق)، وخسر أكثر من ألف شخص مساكنهم ومصادر رزقهم.

كانت قنوات التلفاز الحكومية قد أذاعت مقاطع نادرة لرئيس الوزراء بوتين أثناء قيامه بزيارات للبلدات في المنطقة. وكان الناس الذين فقدوا مساكنهم وملابسهم وكل شيء يشتكون لبوتين أن الحكومة الإقليمية والمحلية لم تحذرهم من قدوم النيران. ولم تكن في المنطقة عملياً أي سيارات إطفاء. وفي عديد من البلدات والقرى كان التيار الكهربائي مقطوعاً، وبالتالي لم يكن في الإمكان تشغيل مضخات المياه. وكان سكان المنطقة يصرخون قائلين لبوتين الذي كان محافظ الإقليم فاليري شانتسيف برفقته: ''إن أحداً لم يحاول حتى إنقاذنا''.

وبعد أسبوع بدأ احتفال رسمي بتعيين شانتسيف لفترة ولاية ثانية. ومثله كمثل كل محافظي المدن والمناطق الروسية، لم ينتخب بواسطة أولئك الذين يعيشون في منطقته (قبل أن يصبح محافظاً كان نائباً لمحافظ موسكو)، بل تم تعيينه بواسطة الرئيس، وهو بهذا لا يتحمل أي مسؤولية من أي نوع إزاء هؤلاء الذين من المفترض أن يخدمهم.

لقد دمرت الحرائق في الجزء الأوروبي من روسيا 190 ألف هكتار من الغابات. ويوجه خبراء الغابات أصابع الاتهام إلى قانون عام 2007 الذي استن بلا مبالاة والذي قضى بخفض قوة حراس الغابات بنسبة 90 في المائة. كانت الحكومة قد اقترحت هذا القانون الذي تمر تمريره سريعا عبر مجلس الدوما (مجلس النواب في روسيا)، حيث يسيطر حزب بوتين على ثلثي الأصوات. وقبل التصويت بفترة وجيزة أعلن رئيس مجلس الدوما أن البرلمان ليس بالمكان المسؤول عن التداول. وعلى هذا فقد تم تمرير التشريع من دون أي إعادة نظر أو مناقشة ـ والآن يواجه الروس العواقب.

إن صيف روسيا الحارق في عام 2010 يسلط الضوء على حقيقة يدركها علماء السياسة في كل مكان: ألا وهي أن الأنظمة الاستبدادية تتسم بالأداء المروع في التعامل مع المواقف الاستثنائية غير المعتادة، وذلك نظراً لافتقارها إلى أي قدر من المساءلة. فمن خلال التحكم في وسائل الإعلام الجماهيرية ـ التلفاز في المقام الأول والأخير ـ يفتقر القادة في مثل هذه البلدان إلى القدرة على تصور وحساب المخاطر المحتملة.

والمؤسف في الأمر أن المواطنين الروس لم يربطوا بين الأمرين حتى وقتنا هذا: فالموقف المأساوي الذي وجدوا أنفسهم فيه الآن نابع بشكل مباشر من الكيفية التي صوتوا بها في الماضي. والواقع أن اللامبالاة السياسية التي تتسم بها روسيا اليوم تفرض تحدياً خطيراً على قدرة البلاد على البقاء.

ولكن يبدو أن هذا النوع من اللامبالاة السياسية بلغ منتهاه الآن. وقد يساعد صيف 2010 الحارق أهل روسيا على إدراك حقيقة مفادها أن بقاءهم يتوقف على قدرة السلطات على تقديم المساعدة لهم في أوقات الطوارئ. والنظام الحاكم الذي يعجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيه لا يتمتع بأي شرعية على الإطلاق.

*نقلاً عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية.