الاقتصاد العالمي يعيش أيام الركود المزدوج
الاثنين, 26-يوليو-2010
نورييل روبيني -
إن الاقتصاد العالمي المدعوم بشكل مصطنع منذ فترة الركود 2008-2009 بالاستعانة بحوافز نقدية ومالية وعمليات إنقاذ هائلة الضخامة، يتجه في عامنا هذا نحو تباطؤ حاد، مع تضاؤل تأثير هذه التدابير. والأسوأ من ذلك أن التجاوزات الجوهرية التي أشعلت الأزمة ـ الإفراط في الاستدانة والاستعانة بالروافع المالية في القطاع الخاص (الأسر، والبنوك وغيرها من المؤسسات المالية، بل والقسم الأعظم من قطاع الشركات) ـ لم تعالج حتى الآن.

ولقد بدأت بالفعل عملية تسوية الروافع المالية (سداد الديون الناتجة عن الإنفاق بالاستدانة). والآن تجري فضلاً عن ذلك عملية ضخمة للعودة إلى الاستعانة بالروافع المالية في القطاع العام في البلدان المتقدمة اقتصادياً، هذا إلى جانب عجز ضخم في الموازنات وتراكم الديون العامة بفعل عوامل تثبيت الاستقرار التلقائية، والحوافز المالية الكينزية المعاكسة للدورة الاقتصادية، والتكاليف الهائلة المترتبة على تعميم خسائر النظام المالي على المجتمع بالكامل.


ونحن في أفضل الأحوال نواجه فترة مطولة من النمو الهزيل في البلدان المتقدمة مع بدء عملية تسوية الروافع المالية لدى الأسر والمؤسسات المالية والحكومات في التأثير في الاستهلاك والاستثمار. وعلى المستوى العالمي، فإن البلدان التي أفرطت في الإنفاق: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، إسبانيا، اليونان، وغيرها ـ تحتاج الآن إلى تسوية الروافع المالية، فضلاً عن الحد من الإنفاق والاستهلاك والاستيراد.

غير أن البلدان التي أفرطت في الادخار ـ الصين، وبلدان آسيا الناشئة، وألمانيا، واليابان ـ لا تنفق مزيدا الآن من أجل التعويض عن الهبوط في الإنفاق من جانب البلدان التي تعمل الآن على تسوية الروافع المالية. وهذا يعني أن عملية تعافي الطلب العالمي الكلي ستكون بطيئة، وهو ما من شأنه أن يدفع النمو العالمي إلى مزيد من التراجع.

ومن الواضح أن التباطؤ العالمي ـ الذي بات واضحاً بالفعل في بيانات الربع الثاني من عام 2010 ـ سيتسارع في النصف الثاني من العام. وستختفي الحوافز المالية مع هيمنة برامج التقشف على الأوضاع في أغلبية بلدان العالم. أما التعديلات التي طرأت على قوائم الأصول، والتي نجحت في تعزيز النمو لبضعة أرباع فستستكمل مسارها إلى أن تنتهي. فضلاً عن ذلك فإن التأثيرات التي خلفتها السياسات الضريبية التي حرمت المستقبل من الطلب ـ مثل الحوافز المقدمة إلى مشتري السيارات والمساكن ـ ستتضاءل بنهاية سريان العمل ببرامجها. ولا تزال ظروف سوق الأيدي العاملة ضعيفة، في ظل توفر أعداد ضئيلة من فرص العمل الجديدة وبفضل انتشار الشعور بالانزعاج الشديد بين المستهلكين.

ويتلخص السيناريو المحتمل في البلدان المتقدمة في قدر متواضع من التعافي حتى لو نجحنا في تجنب الركود المزدوج. ففي الولايات المتحدة كان النمو السنوي أدنى من الاتجاه المتوقع أثناء النصف الأول من عام 2010 ''2.7 في المائة في الربع الأول، وما يقدر بنحو 2.2 في المائة في نيسان (أبريل) وحزيران (يونيو)''. ومن المنتظر أن يزيد تباطؤ النمو حتى يبلغ 1.5 في المائة في النصف الثاني من هذا العام وأثناء قسم من عام 2011.

وأياً كانت الهيئة التي قد يتخذها الأداء الاقتصادي في الولايات المتحدة في نهاية المطاف فإن ما هو آت سيكون أشبه بالركود. وسيسهم في ذلك عدد من العوامل، مثل فرص العمل المتواضعة، وارتفاع معدلات البطالة، وتضخم العجز الدوري في الموازنات، والهبوط الجديد في أسعار المساكن، والخسائر الأكبر التي تكبدتها البنوك في سوق الرهن العقاري، والائتمان الاستهلاكي، وغير ذلك من القروض، والخطر المتمثل في احتمال تبني الكونجرس تدابير الحماية ضد الواردات الصينية.


أما في منطقة اليورو فإن التوقعات أسوأ, فقد تقترب نسبة النمو من الصفر بحلول نهاية هذا العام، مع بداية العمل بتدابير التقشف المالي وهبوط أسواق البورصة. وستسهم الارتفاعات الحادة في فوارق الديون السيادية وديون الشركات والسيولة بين البنوك في زيادة تكاليف رأس المال وزيادة النفور من خوض المجازفة، والتقلبات، والمخاطر السيادية، في تقويض ثقة الشركات والمستثمرين والمستهلكين. وسيساعد ضعف اليورو على دعم التوازن الأوروبي الخارجي، لكن الفوائد المترتبة على ذلك سيقابلها الضرر الذي سيلحق بالصادرات وتوقعات النمو في الولايات المتحدة، والصين، وبلدان آسيا الناشئة.

حتى الصين بدأت في إظهار الدلائل على التباطؤ، وذلك بسبب المحاولات التي تبذلها الحكومة الصينية للسيطرة على فرط النشاط الاقتصادي. وسيعمل التباطؤ في البلدان المتقدمة، إلى جانب اليورو الأضعف، على تعزيز التأثير السلبي في النمو الصيني، ودفعه من مستواه الحالي الذي بلغ 11 في المائة وأكثر نحو مستوى الـ 7 في المائة بحلول نهاية هذا العام. وهذا يشكل نبأ سيئاً بالنسبة لنمو الصادرات في بقية بلدان آسيا، وبالنسبة للبلدان الغنية بالسلع الأساسية التي باتت تعتمد بشكل متزايد على الواردات الصينية.

وستكون اليابان من بين أبرز الضحايا، حيث يعمل نمو الدخل الحقيقي الهزيل على تثبيط الطلب الداخلي، وحيث تسهم الصادرات إلى الصين في دعم القدر الهزيل المتبقي من النمو. وتعاني اليابان أيضاً تدني احتمالات النمو، بسبب الافتقار إلى الإصلاحات البنيوية والحكومات الضعيفة وغير الفاعلة (أربعة رؤساء وزراء في أربعة أعوام)، والديون العامة الضخمة، والميول الديموغرافية غير المواتية، والين القوي الذي يتزايد قوة أثناء نوبات النفور من المجازفة على مستوى العالم.

والواقع أن السيناريو الذي يشتمل على هبوط النمو في الولايات المتحدة إلى 1.5 في المائة، والركود في منطقة اليورو واليابان، وتباطؤ النمو في الصين إلى ما دون 8 في المائة، قد لا ينطوي على خطر الانكماش العالمي، ولكن كما هي الحال في الولايات المتحدة، فإن الأمر سيبدو أشبه بالانكماش. وأي صدمات إضافية من شأنها أن تطيح بهذا الاقتصاد العالمي غير المستقر معيدة إياه إلى الركود الكامل.

والواقع أن المصادر المحتملة لصدمة من هذا القبيل وفيرة. وقد يتفاقم خطر الديون السيادية في منطقة اليورو، الأمر الذي قد يؤدي إلى جولة أخرى من تصحيح أسعار الأصول، والحرص العالمي على تفادي المجازفة، والتقلبات، وانتقال العدوى المالية.

وقد تؤدي حلقة مفرغة من تصحيح أسعار الأصول وضعف النمو، إلى جانب المفاجآت السلبية التي لم تعمل الأسواق حتى الآن على تقييمها، إلى مزيد من الانحدار في أسعار الأصول, بل حتى مزيد من ضعف النمو ـ وهي الديناميكية التي دفعت الاقتصاد العالمي إلى الركود في المقام الأول. ولا يجوز لنا أن نستبعد احتمالات شن إسرائيل هجوما عسكريا على إيران في غضون الأشهر الـ 12 المقبلة. وإذا حدث ذلك فقد تسجل أسعار النفط ارتفاعاً حاداً سريعاً، وقد يؤدي ذلك إلى ركود عالمي، على غرار ما حدث في صيف عام 2008.


وأخيراً، يتعين علينا أن ندرك أن صناع القرار السياسي استنفدوا الأدوات المتاحة لهم. ولن يؤدي مزيد من التيسير النقدي الكمي إلى إحداث فرق يُذكَر، وهناك حيز بالغ الضآلة للدفع بمزيد من الحوافز المالية في أغلبية القوى الاقتصادية المتقدمة، أما القدرة على إنقاذ المؤسسات المالية الأضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس ـ لكنها أضخم من أن يتسنى إنقاذها ـ فستكون مقيدة بشدة.

لذا، ومع تبخر آمال المتفائلين في التعافي السريع، فإن العالم المتقدم سيمر في أفضل الأحوال بفترة مطولة من التعافي البطيء، الذي قد يستغرق في بعض الحالات ـ كما في منطقة اليورو واليابان ـ وقتاً أطول إلى الحد الذي يجعله أقرب إلى الكساد. ولا شك أن تفادي الركود المزدوج سيكون أمراً بالغ الصعوبة.

في عالم كهذا، فإن التعافي في الأسواق الناشئة الأكثر قوة ـ الأمل الأعظم بالنسبة للاقتصاد العالمي الآن ـ سيعاني، وذلك لأنه من غير الوارد على الإطلاق أن تتمكن أي دولة في العالم من عزل نفسها اقتصادياً وكأنها جزيرة. والواقع أن النمو في عديد من الأسواق الناشئة ـ بداية بالصين ـ يعتمد الآن اعتماداً كبيراً على حجم تدابير التقشف في اقتصاد البلدان المتقدمة. ويبدو أننا سنضطر إلى ربط الأحزمة، فالطريق أمامنا بالغة الوعورة.

*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.