دوران الأرض وثبات العقول
الاثنين, 05-يوليو-2010
عبد الله بن بجاد العتيبي -
أصبحت مسألة دوران الأرض حقيقة علمية حديثة في تاريخ البشرية، لا يستطيع أن ينازع فيها أحد، وهي مسألة مهمة للتمثيل على كيفية احتكار رجال الدين لتفسير وحيد وفهم خاص للنصوص المقدسة يجبرهم على اختيار الثبات على السالف والسابق مهما أثبت العلم أنه خطأ وباطل بالكلية.

هكذا كانت معركة دوران الأرض في الثقافتين الدينيتين الرئيستين في العالم منذ عدة قرون، أعني المسيحية والإسلام، ففي المسيحية كان الصراع شرساً بين الكنيسة التي تبنت بعض النظريات اليونانية القديمة لأرسطو وبطليموس التي تقول بثبات الأرض، ودعمتها بتفسير دينيٍ، ثم ألقت عليها قدسية كاملة، ولم تكتف بهذا بل اتخذت مواقف شديدة العدائية والخصومة مع كل من خالفها حول التفسير الفلكي البالي والمترهل الذي تتبناه.

خاضت هذه الكنيسة معارك ضد العلم الحديث والنظريات الحديثة في العلوم المحضة كالفلك ونحوه، كما خاضت معارك مثلها ضد الفلسفة الحديثة والنظريات الجديدة في شتى أنواع العلوم، ووقفت حارساً يقظاً للثقافة القديمة الذي ورثتها وحولتها ديناً، وخسرت كلتا المعركتين.

من أهم العلماء الذين حاربتهم الكنيسة فيما يتعلق بدوران الأرض، الفلكي الكبير غاليليو وكذلك جيوردانو برونو، أما الأول فقد اضطرته محاكم التفتيش الكنسية أن يتراجع عن قوله بدوران الأرض، وإن كانوا قد سمعوه يتمتم وهو خارج المحكمة قائلا: «ولكنها تدور..» التنوير الأوروبي، هاشم صالح ص136، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد سترومبرج ص59.

وكان برونو على عكسه تماماً فقد عاند الكنيسة وأصر على موقفه العلمي، وحتى حين ظفرت به محاكم التفتيش أصر على رأيه العلمي وقاومها حتى قامت بإحراقه حياً في روما 1600م، وكانت واحدة من أكبر تهمه بالزندقة هي قوله بأن الأرض تدور!

إن نتيجة هذا الصراع أصبحت من المعلوم من الواقع بالضرورة، فقد انتصر العلم والتقدم والمعرفة على التفسيرات التي لا علاقة لها بالدين إلا محاولات التستر به لتحقيق مكاسب دنيوية، فقد أصبحت نظريات غاليليو وبرونو وغيرهما حقائق ثابتة لا تقبل النزاع إلا بمنطق العلم الذي يزيدها ويفرع عليها ولا ينقصها.

يعد رفاعة الطهطاوي واحداً من أقدم رواد النهضة الإسلامية المعاصرين، ومع هذا فقد كان له موقف معارض لدوران الأرض في البدايات، ثم رجع لاحقاً للقول به واعتماده والدفاع عنه، «التأسلم المسلح» رفعت السعيد.

إن الرد المبدئي لدى المتشبثين بالماضي والخاضعين لآراء مثقفيه ومفكريه هو الرفض دائماً لكل تغيير والممانعة دائماً أمام كل تطوير، إنهم يعتقدون على الدوام أن ما حفظوه صغاراً هو الحق المطلق الذي لا ينبغي تغييره ولا تطويره.

كما ينبؤنا التاريخ الغربي والعربي على حد سواء، هو أنهم لا يكتفون بالممانعة فحسب، بل إنهم بحكم مكانتهم الاجتماعية المتراكمة تاريخيا، وبحكم تحالفاتهم السياسية، ينتقلون من الممانعة إلى المعارضة ثم المكافحة، تلك التي يستبيحون فيها استخدام كل أنواع الاستغلال والتعذيب والنكال بمخالفيهم.

إن العقل التراثي الأسير لا يستطيع بحكم تكوينه الانعتاق من تراثيته وخضوعه الكامل لها، لا يستطيع أن يرى جديداً إلا بوصفه مروقاً، ولا إبداعاً إلا بوصفه ابتداعاً، ولا تطويراً إلا بوصفه هدماً للحق الذي عرفه وركن إليه والتحم به، وصار يشكل بالنسبة له معياراً للحق والباطل، والصواب والخطأ.

إن العقل التراثي يمجد بطبيعته التفكير داخل الصندوق، فغاية البروز فيه هي سعة الحفظ للموروث وسرعة الاستحضار له، والقدرة على ممارسة التكرار الممل -حسب الطبيعة البشرية- وتحمل هذا التكرار الممل تدفع إليه لديهم وربما تغطي عليه مكاسب أخرى لهم، منها المكانة والسلطة.

إن التقليد يعبر -في الغالب- عن السلطة القائمة سواء كانت سلطة دينية أم سياسية أم جماهيرية أم غيرها من أنواع السلطات، والتجديد يعبر في الغالب عن التطوير والتحديث، والانتقال للأفضل والوعي بالمستجدات والمتغيرات في كافة المجالات، ولا أحد يرضى الانحياز للتخلف على حساب التقدم.

غير أنه -في أحيانٍ غير قليلة- عبر مدى التاريخ واتساع الجغرافيا، نجد أن بعض السلطات تمارس اختراقاً قوياً، وتأخذ بيدها المبادرة للتجديد والتطوير وتسبق مجتمعاتها، فتتجاوز السائد وتتخطى المعهود وتنتقل بأتباعها لمراحل أكثر تقدماً، وشواهد التاريخ بلا عد وحوادثه المؤكدة بلا حصر، فقد حمت السلطة مارتن لوثر ليقدم جديده الثوري دينيا ضد تخلف الكنيسة واضطهادها لكل فكر جديد وعلم محكم، والسلطة في هولندا حمت سبينوزا من تسلط الكنيسة وويلاتها ليقدم نقده المتقدم للتخلف الكنسي.

في التاريخ الإسلامي حمت السلطة حركة الترجمة الواسعة النطاق في عهد المأمون، وفي الأندلس حمت السلطة كثيراً من العلماء إبان نهضة قرطبة، هذا في السلطة السياسية. وهو ما نجد له أمثلة متعددة حيث تكون السلطة متقدمة على السائد الديني والعقل المجتمعي، كما حدث في دعم الإمام محمد عبده في مصر ومحاولاته التجديدة على المستوى الديني والفكري والثقافي عامة.

أما اليوم، فإن تيار صيانة الموروث وحراسة القائم تحارب كل جديد كعادتها، وعلى هذا أمثلة متعددة، ففي المغرب يحارب التقليديون واحداً من أهم مشاريع المغرب المتمثل في «مدونة الأسرة»، وفي السعودية يحاربون تطوير التعليم والتجديدات الضرورية في المشاعر المقدسة، وفي تونس يقفون نفس الموقف، وهكذا دواليك.

نعم، من طبيعة الأشياء أن للموروث والسائد سلطته على كافة المجالات، فهو يدافع عنها ويحميها ويهاجم من يسعى لتجديدها أو تغييرها أو تطويرها، ولكن المجتمعات الحية والدول اللاهثة للتقدم لا تعير هذه الاعتراضات بالا ولا تسمح لها بإعاقة التنمية والبناء تحت أي مبرر وفي ظل أي ظرف.

ختاماً، فقد انتصر دوران الأرض على ثبات العقول، وأثبتت الحقائق الكثيرة المبرهنة علمياً انتصارها الساحق على هذا الثبات، وكررت تجاوزها القوي لهذا الثبات المزري، رغم زخم الشعارات الرافضة وقوة المواقف المعارضة، لا لشيء إلا لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وأن العلم رائد لا يكذب أهله، وأن حقائقه قادرة على نسف كل اعتراض مهما كان منطلقه أو هدفه أو نوعه.

* نقلا عن "عكاظ" السعودية