ضرورة التجدد الحضاري العربي ووسائله
السبت, 15-مايو-2010
عوني فرسخ -
كان لموقع شبه الجزيرة العربية، ولأهمية التجارة الدولية في رفاه شعوبها، دور تاريخي في امتلاك الشعب العربي خاصية الانفتاح على الشعوب الأخرى وموروثاتها الحضارية . الأمر الذي عززه الإسلام باعتماده الحكمة والموعظة الحسنة وسيلة لدعوته . وبحيث أن تعرّب شعوب الهلال الخصيب ووادي النيل والشمال الإفريقي لم يسهم فقط في تبلور الأمة العربية على أساس الانتماء الحضاري وليس الانتساب السلالي، وانما أسهم أيضاً في إثراء الحضارة العربية بما تراكم لدى هذه الشعوب من قيم حضارية . فضلاً عما أضافه مبدعو الجوار، خاصة فارس وما وراءها في وسط آسيا، وحركة التدوين والترجمة، بحيث بلغت الحضارة العربية الإسلامية ذروة تطورها في العصر العباسي الأول .



غير أن العصر العباسي الثاني شهد تصاعداً طردياً في التشرذم السياسي والنزاعات السلطوية وصراعات الفرق الدينية المختلفة . وكانت الطموحات للحكم، وثقل الأعباء الضريبية، والتعسف والفساد الإداريين، وتفاقم حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، علة مختلف تلك النزاعات والصراعات . فيما تسلحت جميع القيادات بالنصوص من الكتاب والسنة في صراعاتها الدنيوية، الأمر الذي انعكس على الاجتهادات الفقهية والثقافة العامة، بحيث شهدا تراجعاً عما كان قد تحقق في المرحلة السابقة . إلا أن الحضارة العربية الإسلامية احتفظت بتفوقها النسبي حتى مطلع القرن السادس عشر الميلادي بالتحول الكيفي لصالح الحضارة الأوروبية .



ولقد شهد الربع الأخير من القرن الثامن عشر بداية استفاقة العرب على تخلفهم، وتنامي التنبه لظاهرة التأخر المزدوج: التأخر عن العصر والمدنية الأوروبية الحديثة، والتأخر عن الحضارة العربية الإسلامية وما كانت قد بلغته في عصرها الذهبي . كما تسارع الشعور بضرورة التجدد الحضاري، بمعنى اكتساب وسيلة إطلاق ديناميات التقدم والتجدد الاجتماعي والثقافي، الذي يؤهل الأمة العربية للحاق بغيرها من الأمم المعاصرة، وعلى النحو الذي يحفظ لها خصوصيتها الثقافية والقيمية . وسبيل ذلك كما يوصي به “المشروع النهضوي العربي”، مواجهة ما يعانيه الوطن العربي من تأخر فادح في البنى الاجتماعية والثقافية، والآثار السلبية للأشكال البائسة من الحداثة الرثة في البنى نفسها نتيجة للاصطدام بالغرب، وما أحدثه من نزعة تقليد ثقافي .



ويوصي “المشروع النهضوي العربي” بممارسة نقد مزدوج: اعتبار البعض التراث “مستودع الحقيقة”، مقابل من يعتبرون الغرب هو المستودع . فالتراث لا يقدم الجواب عن كل مشكلات الراهن العربي، إذ لا ينطوي على حقائق مطلقة فوق الزمان والمكان، كما يذهب خطاب الأصالة . وبالمقابل لا يمتلك الغرب الحقائق المطلقة كما يدعي خطاب المعاصرة . والتراث والغرب مجالان ثقافيان نسبيان ومشروطان بالزمان والمكان ومعطيات التاريخ، والنظر النقدي إليهما ينبغي أن ينظر إلى ادراك هذا النسبي الذي يؤسس كلا منهما . وإن تقديس التراث هو مرادف تقديس الغرب في المقدمات والروح وإن اختلفت النتائج . وهو التقديس الذي أرهق الوعي العربي في صراع الأصالة والحداثة العقيم منذ قرنين، والذي بات يهدد شعوبنا بحرب فكرية وثقافية تستنزف العقل والوجدان .



ويوصي “المشروع النهضوي العربي بإنهاء النزاع في أوساط النخبة بين العروبة والإسلام، وإعادة إدراك الهوية في بعدها التركيبي الجامع للحدين . على قاعدة أن الإسلام، بتراثه العقدي والحضاري، زود العرب بمشروع تاريخي منذ الدعوة، وقادهم إلى تأسيس دولة وحضارة كبيرتين . فيما كان العرب هم الذين حملوا الإسلام إلى العالم فبات كونياً . واليوم ما أحوج العروبة إلى الطاقة الروحية الهائلة التي يحتويها الإسلام في معركتهم للتحرر والوحدة والتقدم، وما أحوج الإسلام إلى دور تؤديه العروبة مشروعاً تحررياً وإنسانياً من أجل التعايش مع العالم والحوار وتعظيم القيم الإنسانية المشتركة .



كما يوصي المشروع بحماية التنوع الثقافي في المجتمع العربي، باعتباره عامل إخصاب وإغناء للثقافة العربية ينبغي استثماره، وليس عامل انقسام وتهديد ينبغي وأده باسم الوحدة الثقافية . وذلك دون إخلال بضرورة العمل على تعظيم القواسم الثقافية العربية المشتركة .



وفي تحديده معالم نسق القيم النهضوي العربي يؤكد “المشروع النهضوي العربي” على أن يكون معبراً عن الشخصية العربية الإسلامية، ومتمسكاً بالقيم المستمدة من التراكم الاجتماعي والثقافي والديني: قيم التمسك بالعائلة، وأخلاق المروءة، والصدق، والإيثار على النفس، والتراحم، والتوادد، والإنصاف والعدل . ومنفتحاً على العصر، منتهلاً لأمته أرقى ما في قيمه، ومدمجاً إياها في قيمه . وبخاصة قيم : الحرية، والتسامح، وقبول الاختلاف، وتحمل المسؤولية، والاستقلال الذاتي للشخصية، والإنتاج .



وكما أغتنى نسق القيم العربي بما جاء به الإسلام، بحيث غدت قيماً عربية، وكما تأثر بغير يسير من قيم الحداثة الأوروبية وصارت جزءأ من قيم المجتمع العربي، فإن الأمة العربية مدعوة للاغتراف من دائرة الحضارة الآسيوية، اليابان والصين والهند وماليزيا، ما يوفر أجوبة عن إشكالية الخصوصية، والكونية والحداثة، وأجوبة مكتنزة بالتاريخ وموارثيه وبثقل العمق الحضاري فيها . 



نقلاً عن الخليج الإماراتية