مؤتمر القمة العربي وقضايا المصير
السبت, 27-مارس-2010
د. رضوان السيد - اقتربت الساعة، ساعة انعقاد مؤتمر القمة العربي بليبيا أواخر هذا الشهر. وكالعادة، تكاثرت الملفات المعروضة والعالقة، مما أوصل كالعادة إلى استنتاج يتكرر منذ نحو العقد من السنين: أنه بالنظر إلى المشكلات المحيطة بمكان انعقاد القمة، وبالنظر إلى تعقد كل القضايا والمشكلات المطروحة عليها، وبالنظر إلى الظروف الدولية والإقليمية المنذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ فإن المنتظر من نتائج القمة ما عاد يتجاوز مجرد الانعقاد - وعلى أي مستوى - والأفضل حتى لا تتفاقم المسائل والمشكلات أن لا تنعقد القمة من أساسها، والله يحب المحسنين!


أما مكان انعقاد القمة، فقد أثيرت بشأنه مشكلات كثيرة، بعضها يتعلق بسوء علاقة نظام العقيد القذافي الحالية بعدد من الدول العربية، وبعضها يتعلق بمشكلات قديمة بين ليبيا وبعض العرب؛ ومن ذلك مسألة اختفاء أو إخفاء الإمام موسى الصدر هناك منذ عام 1978. ومشكلات مكان الانعقاد، لا تتعلق في الحقيقة بليبيا بالذات، رغم خصوصية وغرابة نظامها وقائدها. فقد أثيرت قضايا مشابهة عندما كان مكان انعقاد القمة بدمشق أو بالدوحة. فالعاصمتان كانتا يومها - أي خلال العامين الماضيين - على علاقة سيئة بكل من السعودية ومصر. ومع ذلك فقد انعقدت القمتان أو القمم، وما كانت النتائج باهرة أو واعدة، لكن مؤسسة القمة ما انهارت؛ بل تجددت بعض الآمال ببدء مصالحات عربية ما ظهرت لها نتائج كبيرة أيضا؛ إنما ما لا يتحقق كله، لا ينبغي إسقاطه من الحساب، إذا كان المترتب على الإسقاط أعظم ضررا من الترتب على الإلغاء. ولا ننسى في هذا الصدد أن العقيد القذافي نفسه كان قد رفض القمم العربية، بحجة عدم فائدتها، ثم رفض الانتماء العربي، بحجة وهميته، ثم ها هو يستميت لكي ينجح انعقاد القمة العربية عنده، رغم إصراره على أن يبقى ملك ملوك أفريقيا ولا أدري ماذا وماذا أيضا.

أما لجهة العامل الآخر الداعي لعدم الانعقاد أو تضاؤل جدواه والمتصل بتعقد المشكلات، وعدم القدرة على التصدي لها بالمعالجة؛ فإنه يبدو أكثر وجاهة واستحقاقا للنظر والتدبر. فلدينا بالفعل ثلاث قضايا لا يبدو أن لها حلا في قمة أو قمتين: القضية الأولى هي القضية الفلسطينية التي آلت الأمور بشأنها خلال الأعوام الماضية إلى أفق مسدود. فهناك من جهة تفاقم الاستيطان الإسرائيلي، وعدم اقتناع الحكومة الإسرائيلية الحالية بحل الدولتين، وحيرة المجتمع الدولي ماذا يفعل مع إسرائيل لدفعها للعودة إلى طاولة التفاوض، أي تفاوض. وهناك من جهة أخرى ضيق الخيار الثوري أو التحريري أو انعدامه؛ إذا ما أصرت إسرائيل على عدم التفاوض، أو أن التفاوض لم ينجح. والقضية الثانية: التآكل السياسي والاجتماعي العربي الذي يبدو أنه لا وقف له ولا ضابط لتداعياته. ولا شك أن هناك ارتباطا بين التآكلين؛ فالانسداد السياسي أسهم إلى حد بعيد في التفتت الاجتماعي. لكن الخصوصيات الإثنية والدينية والجهوية، صارت لها أيضا آليتها (المستقلة) والتي تمضي باتجاه الانقسام الانتحاري، أيا كانت طبيعة النظام القائم. فالمجتمعان اللبناني واليمني مثلا يغصان بالخصوصيات ذات الاستقلالية الموروثة والمستجدة، والتي لا ينازعها في استقلاليتها أحد بالداخل أو بالخارج. ومع ذلك فإن تلك الخصوصيات ظهرت لها «مطامح» جديدة أو خيارات جديدة: إما التسليم بدويلاتها إلى جانب الدولة المركزية، أو أنها مستعدة لخوض النزاع المسلح مع الدولة المركزية أو خوض الحرب الأهلية مع الفئات الأخرى. والقضية الثالثة هي قضية التنمية بشقيها الذاتي والتعاوني. ولأن القمة تعنى بالعلاقات والمشتركات بين الدول العربية؛ فإن البارز في هذا الصدد أن التعاون بين الدول العربية في المجالين الاقتصادي والسياسي، لا يزال يعاني من قصور فظيع، وهذا القصور يتزايد ولا يتناقص، بحيث يبدو بمثابة سرداب لا نهاية له. وقد تصاعدت آمال كبيرة بالقمة الاقتصادية التي انعقدت بالكويت؛ ثم بدا في الشهور الماضية أنه لا أثر تحسينيا معقولا لقراراتها وتوصياتها. وبحسب وجهة النظر المتشائمة هذه: ما الداعي لعقد القمة إن لم تستطع تقديم شيء في العمل العربي المشترك؟!
والمسألة الثالثة الكبرى التي تثار على مشارف كل قمة منذ بدء ولاية الرئيس بوش الابن المجيدة في مطلع القرن الحادي والعشرين؛ أن الظروف الدولية والإقليمية مشتعلة، والدول العربية، والحركات الثورية منقسمة بشأنها كانقسامها في الحرب الباردة. فهناك الصراع الأميركي/الإيراني، الذي اجتذب إلى دائرته اللولبية عدة دول عربية، هي عالقة الآن بين أن تختار جانب الولايات المتحدة أو جانب إيران. وما فكر أحد - باستثناء السعودية - في إمكان إبراز تكتل عربي، لا يحتاج إلى انحياز ولا إلى خوف أو ابتزاز من جانب أحد الطرفين المتصارعين أو كليهما.

إن كل هذه العوامل تملك، كما سبق القول، بعض المعقولية أو الوجاهة. إنما لو نظرنا بتمعن في سائر المشكلات، وعلى الخصوص مشكلتا فلسطين، والتجاذب الأميركي/الإيراني؛ فإننا نجد أن هذين الأمرين بالذات، يتطلبان انعقاد القمة، أو المسارعة إلى قمة إن لم يكن موعد انعقادها المعتاد قد اقترب. فالسلطتان الفلسطينيتان في الضفة وغزة، لا تشكوان من الانقسام وحسب؛ بل وتشكوان من القابلية للانهيار، وتضييع القليل الذي لم يضع بعد. سلطة الضفة ستنهار لمراهنتها على عملية السلام التي توقفت، وسلطة حماس ستنهار لدخولها في المزايدات الثورية لمعارضة التفاوض، ولمناحرة مصر، وتلبية مطالب إيران التي تريد إثارة المزيد من المشكلات في وجه الولايات المتحدة. وتستطيع القمة في الحد الأدنى أن توقف هذا الانهيار، بالتفكير فيما بعد الأشهر الأربعة التي وضعت للتفاوض غير المباشر. فكيف تستمر السلطة بالضفة لرعاية حياة المليوني فلسطيني إن فشل التفاوض أو لم يجر، وكيف تستمر السلطة الحماسية الثورية، إن تركت وشأنها فاندفعت إلى حرب تشبه حرب غزة أواخر عام 2008، إثباتا لفشل عملية السلام، وإثباتا لولائها لإيران وثورتها؟! حماس تقول حتى الآن إن الذين يطلقون الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية - بدون إذنها - هم جواسيس لإسرائيل، فهل تستطيع الاستمرار في هذه «البصيرة» المستجدة إن طلبت إيران المواجهة؟

إن الذي لا شك فيه أن إيران لا تريد قمة تجمع العرب ولو شكلا، لأن التوافقات المحتملة، ستضعف الثوريين، وهي تحتاج ثوريتهم في هذا العام الحاسم بالذات. ولو تأملنا الأمر قليلا، لوجدنا أن الولايات المتحدة أيضا ليس من صالحها أن تنعقد القمة. إذ إن القمة ستقول كلاما قاسيا، ليس عن إسرائيل وحسب؛ بل وعن الولايات المتحدة أيضا، التي تراجعت مواقفها منذ أواخر العام الماضي، حتى عن مواقف إدارة بوش في عهدها الثاني؟ وستقول القمة، ولا شك، أو ستنذر، أنه إذا لم يؤت التفاوض القصير هذا أكله؛ فإنها ستتخلى عن مبادرة السلام، وتلجأ لمجلس الأمن لإنفاذ القرارات الدولية. وهذا أيضا ليس من صالح الولايات المتحدة التي لا تريد «تعكير» إمكانات التفاوض بالكلام العالي الوتيرة، كما لا تريد أن تبدو فاقدة للدعم أو الصمت في الصراع مع إيران.

إن الأوضاع المتردية، والتي توشك أن تقضي على الجامعة العربية إن لم تكن قد فعلت، توشك أيضا أن تقضي على مؤسسة القمة. وتقتضينا المسؤولية الحفاظ على أي مؤسسة عربية مهما بلغ ضعفها، وفي طليعتها مؤسسة القمة، لأن المشكلات إن لم تكن تعالج في القمة، فالأحرى أن لا تجد علاجا إن تحطمت القمة. والأمور كما تقاس بالإنجاز، تقاس أيضا بالقدرة على تجنب الكوارث والترديات. وبين الواقع والمتصور فإن السياسي الحريص، ينطلق من الواقع. والواقع العربي اليوم يتطلب الاهتمام بالحد من الخسائر، وإبقاء الباب مفتوحا لإمكانيات التحسين والنهوض.

* نقلا عن "الشرق الأوسط" السعودية