المدن العالمية ودورها الجديد في الاقتصاد العالمي (مع إشارة خاصة إلى الحالة الآسيوية)
الأربعاء, 27-أغسطس-2008
محمد عبدالله محمد - المدينة العالمية هي تلك التي تتألف من أعراق مختلفة من الناس من جميع الجنسيات، تجمعت عناصر سكانها من مختلف أنحاء العالم. وهؤلاء أثر نشاطهم في الاقتصاد المتصاعد عالمياً، ويمتاز بأنه ذو سمة تنافسية ومتطورة. إن هذه المجتمعات الجديدة تتجاوز الحدود الوطنية لكل فئة منها معتمدة على تدفق المعلومات وسهولة الحصول عليها، وتبدو هذه المجتمعات التي تنحو هذا الاتجاه هي الأكثر قابلية للازدهار.
ومن المعروف، في هذا الإطار، أن المدن العالمية «الكوزموبوليتانية» تعود جذورها في السيطرة على الاقتصاد والثقافة العالمية إلى عمليات التواصل والاختلاط بين القادمين الجدد المتحمسين وبين المجتمعات الراسخة والثقافات والمهارات المتطورة. وقد ترافق ظهور باريس المبكر كمدينة عظيمة في شمال أوروبا الاتصال مع اليهود والسوريون من بيزنطة. وعلى مدى القرون القليلة الماضية حققت لندن - أول مدينة ذات امتدادات عالمية حقيقية- أكبر قدر من الازدهار عبر الاستيراد المتواصل للمواهب الخارجية، ويعزو بعض المؤرخين كلمة إسترليني التي تطلق على العملة البريطانية إلى كلمة «استير لينغز» وهو اسم شائع عرف به عدد من التجار الألمان. ومع بداية القرن العشرين تحولت لندن إلى عاصمة المال والأعمال وأكبر تجمع لمختلف أنماط البشر من كل العالم. كما أنشأ البريطانيون العديد من المدن تضم خليطاً من المجموعات العرقية خارج بريطانيا مثل هونج كونج ولاجوس وبومبي وغيرها وحتى هذه الأيام ترتكز عظمة لندن على الخدمات التي تقدمها بشبكات عرقية متنوعة يحتفظ كل منها بقاعدته القوية في لندن وفي عصور قريبة وحالية ظهرت جماعات عرقية تدفعها طاقة التغير التقني والعلمي لنشر نفوذها عبر العالم لكسر الاحتكار الأمريكي والأوربي مثل الصين والهند وخلف هؤلاء ظهر جيل من الفلسطينيين والأمريكيين اللاتين والأرمن وتركوا بصمتهم على مسرح التجارة العالمية.
وبالتوازي مع العولمة الاقتصادية والتكتلات الاقتصادية الإقليمية والثورة التكنولوجيا الجديدة والثورة المعلوماتية والاقتصاد المعرفي، باتت هناك خصائص جديدة للمدن العالمية الكبرى:
أولاً: يقصد بالمدينة العالمية الكبيرة أن تكون محورا لتدفع المناطق المجاورة حتى تظهر عدة مجموعات من المدن العالمية لتشكيل نظام اقتصادي اجتماعي ضخم يحقق فعالية التجميع الاجتماعي.
ثانياً: تحديث وظائف المدينة وتدويل انتقال رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات والبضائع والمتخصصين.
ثالثاً: تنازلت وظيفة الإنتاج التي كانت تحتل المكانة الرئيسية عن مكانتها للوظيفة الخدمية، وتنازل تفوق أعمال التصنيع عن مكانته لتفوق صناعة الخدمات.
رابعاً: المدينة العالمية ليست مركزا للنشاطات الاقتصادية فقط، بل مركز للعلوم والتكنولوجيا والتعليم والثقافة. يعتبر الجمع بين العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد خاصية هامة لعالمية المدينة.
ومن البديهي، في هذا الإطار، أن تشتعل جذوة المنافسة بين المدن العالمية من أجل احتلال مكانة أكثر حيوية في الاقتصاد العالمي، وييدو هذا الأمر أكثر وضوحاً في آسيا، حيث توجد العديد من المدن العالمية الناهضة. إن تحرك سنغافورة لاجتذاب صناديق التحوط مجرد مثال واحد على المنافسة الشرسة, التي تعمّ المدن العالمية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ: من مومبي إلى سيدني ومن طوكيو إلى سنغافورة، مروراً بجميع المدن الواقعة بينها، بما في ذلك هونج كونج، وشنغهاي، وسيئول. تخطط كل مدينة من هذه المدن لبناء المركز المالي الإقليمي البارز, لمنافسة لندن ونيويورك. يقول ديفيد إلدون، وهو رئيس سابق لبنك إتش أس بي سي آسيا والمحيط الهادئ: "إن المنافسة بين المراكز المالية في آسيا تزداد شدة, مع سعي كل منها لأن يكون مركزاً ذا شأن على الصعيد العالمي".
لقد باتت البورصات المالية في المنطقة تنافس لاجتذاب إدراجات الشركات الخارجية، وفي الوقت نفسه تطور منتجات للتداول في السلع والسندات والعقود الآجلة, بغية تعزيز مداخيلها. وتمثلت سياسة سنغافورة، على سبيل المثال، في التركيز على البنوك الخاصة، وعلى صناديق التحوط.
في العام الماضي، شهدت سنغافورة بداية أعمال 24 صندوق تحوط، مقارنة مع ثمانية في هونج كونج، وفقاً لما ذكرته مؤسسة يوريكاهيدج المتخصصة في الدراسات والأبحاث. في هذه الأثناء، كشفت هونج كونج عن خطط لتخفيض التكاليف التي يتكبدها مديرو صناديق التحوط الخارجية، ولتخفيف التعقيدات التي يمرون بها عند التقدم بطلب الحصول على رخصة تنظيمية, من مفوضية السندات والعقود الآجلة. وتهدف الجهات التشريعية فيها إلى إصدار رخص إلى مديري صناديق التحوط "ذات التنظيم الجيد والموارد المناسبة خلال مدة تراوح من أربعة إلى ثمانية أسابيع". هذا مقارنة بأسبوعين فقط في المتوسط في سنغافورة، إذ يقول مارتن ويتلي، رئيس مفوضية السندات والعقود الآجلة: علينا أن نوازن بين حماية المستثمرين وتطورات السوق.
حتى لا تكون كوريا الجنوبية في أسفل القائمة، فإنها ستعيد هيكلة للنظام المالي بأكمله, بصورة مدوية, بغية تشجيع المنافسة والتماسك والإبداع في محاولة لجعل سيئول مركزاً مالياً عالمياً.
من ناحية أخرى، فإن أستراليا عازمة على تعزيز مكانتها, كمركز لإدارة الموجودات الرائدة في العالم, فالبلد تتوفر على رابع أكبر موجودات تحت الإدارة في العالم, تبلغ قيمتها نحو ألف مليار دولار (497 مليار جنيه استرليني، 736 مليار يورو). ولدى الخبراء الأستراليين ثقة بأن باستطاعة بلدهم أن تحتل المرتبة الثانية في العالم, عبر إدارة موجودة تقدر قيمتها بـ 1800 مليار دولار.
أما طوكيو، فقصتها أكثر تعقيداً. فرغم كون اليابان ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفيها ثانية أكبر سوق للأسهم، إلا أنها لا تنافس على أن تصبح المركز المالي الرائد في آسيا. يرجع السبب في ذلك إلى تركيزها الكامل تقريباً على الشؤون الداخلية. وبسبب العقبات التنظيمية لم تجتذب بورصة طوكيو للأسهم إلا أربعة إدراجات خارجية منذ 2004، بينما اجتذبت سنغافورة أكثر من 40 شركة في السنة الماضية وحدها. ولمعالجة هذا الوضع، تعكف عدة وزارات في اليابان على وضع خطط, من شأنها أن تحدث تغييراً جذرياً في البنية التنظيمية, وفي فرص طوكيو لأن تصبح مركزاً مالياً رائداً عابراً للحدود.
على أن بعض المعلقين يحذرون من صعوبة التكهن بعدد المراكز المالية المتنافسة على الصعيد العالمي, التي تستطيع المنطقة أن تستوعبها، وذلك بسبب اتساعها واختلاف عناصرها.
في الصين، اتخذت شنغهاي خطوات هائلة منذ استكمال الإصلاحات صيف العام 2006، وفعلت الكثير لإعادة تنشيط سوق الأسهم المحلية العملاقة، ذلك أن السلطات الصينية تشجع الشركات, على إدراج أسهمها في الداخل بدلاً من هونج كونج أو لندن، وذلك من أجل تعزيز أسواق المال في البلد. يبدو أن شنغهاي عازمة على استعادة المكانة التي كانت تتمتع بها قبل 1949, كمركز مالي مهيمن في آسيا, رغم أن الجميع يعتقد أن تحقيق ذلك قد يستغرق جيلاً.
ويجادل المحللون كذلك فيما إذا كان هذا الاتجاه الصعودي لهذه المدينة, ستكون له آثار سلبية بالغة على هونج كونج أو أن تقارباً سيحدث بين هذه المراكز في العقد المقبل, لتقديم خليط قوي من سوق محلية شاسعة, تتحالف بإيجاد بورصة متحررة من القيود المالية, مبنية على الحكم الرشيد في الغرب، وعلى المعايير القانونية فيه.
رغم ذلك، فإن شنغهاي ليست المدينة الوحيدة في الصين التي تطمح في أن تصبح المركز المالي الرئيسي, إذ أن هناك صراع دائر في الصين حول المدينة التي ستكون المركز المالي الرائد- وقد يعني ذلك أن جميع المدن ستظل منشغلة في أمور محلية في المستقبل المنظور. السلطات الصينية تبني مدينة تيانجين بالقرب من بكين كمركز بديل للتجارة والمال, والعاصمة نفسها مهيأة بدورها لأن تنضم إلى هذا السباق, لتصبح المركز المالي الأكثر نفوذاً وتأثيراً في آسيا, فطيلة العقد الماضي، طورت بكين الشارع المالي، وهو عنوان يضم البنك المركزي والمقار الرئيسية لأكبر البنوك التجارية في البلد, إلى جانب عدد من كبار الجهات الحكومية صاحبة القرار.
بينما تفتقر مباني هذه المصالح إلى بريق هونج كونج أو مقاطعة يودونغ في شنغهاي، فإن هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها كيلومتراً مربعاً واحداً, موطناً لقوة سياسية ومالية هائلة - كالسيطرة على جدار المال التي يتكون من احتياطي الدولة من العملات الصعبة البالغ 1300 مليار دولار. القرار المشهور بوضع ثلاثة مليارات دولار في الاكتتاب العام الأول في شركة بلاكستون للأسهم الخاصة، تم اتخاذه في بكين.
دفع المدن الآسيوية إلى التنافس هو اعتراف بأنه بينما تعتمد اقتصادات الدول الآسيوية اليوم بشكل كبير على التصنيع، فإنها قد تخسر قدرتها التنافسية في هذا المجال بشكل ثابت, بسبب ارتفاع مستويات المعيشة والأجور. للتعويض عن ذلك، يقول خبراء الاقتصاد إنه يتوجب على هذه البلدان أن تتحول إلى اقتصادات ذات قاعدة خدمية، كما هو الحال في الغرب، لتلعب فيها الخدمات المالية دوراً كبيراً.
ولكن هل تستطيع المراكز المالية في آسيا أن تحقق هذه القفزة، وتتحدى مدناً مثل لندن ونيويورك؟ البعض يقول إنها تفعل ذلك منذ مدة. الدليل هو أن الرقم القياسي في جمع الأموال في عملية طرح عادي للاكتتاب الأول, يحتفظ به بنك الصين الصناعي والتجاري، وهو أكبر بنوك الإقراض في الصين الشعبية، وقد أدرج أسهمه للاكتتاب العام في كل من بورصتي هونج كونج وشنغهاي في وقت واحد، وجمع من هذه العملية مبلغ 21.9 مليار دولار.
تجاوزت المبالغ التي جمعها من إدراجات البنك الصناعي والتجاري الصيني, طروحات البنوك الأخرى في الصين, التي ناهزت بورصتي لندن ونيويورك. جمع بنك التعمير الصيني ثمانية مليارات دولار في هونج كونج في تشرين الأول (أكتوبر) من 2005، بينما جمع بنك الصين 10 مليارات دولار في هونج كونج في حزيران (يونيو) من العام 2006.
تعافت معظم البلدان الآسيوية بقوة من الأزمة المالية التي ضربتها في الفترة من 1997- 98، بينما لم يكن للأوبئة الإقليمية كإنفلونزا الطيور ومرض السارز تأثير طويل المدى على معدلات النمو الاقتصادي العالية.
واستفادت المراكز المالية الآسيوية أيضاً من السيولة العالمية التي لم يسبق لها مثيل، والتي تحاول أن تنوع استثماراتها بعيداً عن البلدان التقليدية, التي دأبت على الاستثمار فيها كالولايات المتحدة وأوروبا, وأخذت الدولارات البترولية لبلدان الشرق الأوسط تصب في بلدان كالصين وسنغافورة.
لكن على مستوى أوسع، ترى الدراسات والأبحاث أن لدى المدن في المنطقة طريقاً لا بد من أن تسير فيه, قبل أن تصبح المراكز المالية فيها قوة عالمية حقيقية. في التصنيفات التي صدرت عن "ماستر كارد" لأكبر خمسة مراكز مالية عالمياً، جاءت آسيا في المرتبة الرابعة بين أول عشرة مراكز. لقد حصلت مدن مثل طوكيو وسيئول على درجات عالية من حيث مستويات التدفقات المالية، بينما وُجد أن هونج كونج هي مركز الأنشطة الأول على صعيد الخدمات اللوجستية والنقل، والأثر المفيد من تجمع شركات الخدمات الاحترافية فيها. على أن الدرجات الكلية التي جمعتها المراكز المالية الرئيسية في آسيا, جاءت متدنية على أصعدة مثل إيجاد المعرفة، وتدفق المعلومات وتسهيل ممارسة الأنشطة العملية.